ثم فصل - سبحانه - بعض النعم التي منحها لنبيه موسى وقال : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } .
والمراد بالألواح كما قال ابن عباس - ألواح التوراة ، واختلف في عددها فقيل : سبعة ألواح وقيل عشرة ألواح وقيل أكثر من ذلك . كما اختلف في شأنها فقيل كانت من سدر الجنة ، وقيل كانت من زبرجد أو زمرد . . . إلخ .
والذى نراه تفويض معرفة ذلك إلى الله - تعالى - لأنه لم يرد نص صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عددها أو كيفيتها .
والمعنى : وكتبنا لموسى - عليه السلام - في ألواح التوراة من كل شىء يحتاجون إليه من الحلا والحرام ، والمحاسن والقبائح . ليكون ذلك موعظة لهم من شأنها أن تؤثر في قلوبهم ترغيباً وترهيباً . كما كتبنا له في تلك الألواح تفصيل كل شىء يتعلق بأمر هذه الرسالة الموسوية .
وإسناد الكتابة إليه - تعالى - إما على معنى أن ذلك كان بقدرته - تعالى - وصنعه ولا كسب لأحد فيه ، وإما على معنى أنها كتبها بأمره ووحيه سواء كان الكاتب لها موسى أو ملك من ملائكته - عز وجل - .
قال صاحب المنار : قال بعض المفسرين : إن الألواح كانت مشتملة على التوراة : وقال بعضهم بل كانت قبل التوراة . والراجح أنها كانت أول ما أوتيته من وحى التشريع فكانت أصل التوراة الإجالى ، وكانت سائر الأحكام من العبادات والمعاملات الحربية والمدنية والعقوبات تنزل يخاطبه بها الله - تعالى - في أوقات الحاجة إليها " .
وقوله { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } بدل من قوله { مِن كُلِّ شَيْءٍ } باعتبار محله وهو النصب لأن من مزيدة كما يرى كثير من النحاة . أى : كتبنا له فيها كل شىء من المواعظ وتفصيل الأحكام .
والضمير في قوله - تعالى - { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } يعود إلى الألواح . والفاء عاطفة لمحذوف على كتبنا ، والمحذوف هو لفظ قلنا وقوله { بِقُوَّةٍ } حال من فاعل خذها أى : كتبنا له في الألواح من كل شىء ، وقلنا له خذها بقوة أى بجد وحزم ، وصبر وجلد ، لأنه - عليه السلام - قد أرسل إلى قوم طال عليهم الأمد وهم في الذل والاستعباد ، فإذا لم يكن المتولى لإرشادهم وإلى ما فيه هدايتهم ذا قوة وصبر ويقين ، فإنه قد يعجز عن تربيتهم . ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم .
قال الجمل : وقوله - تعالى - { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أى التوراة ومعنى بأحسنها بحسنها إذ كل ما فيها حسن ، أو أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر ، وفعل الخير أحسن من ترك الشر ، وذلك لأن الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان تحمل على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها إلى الصواب .
أو أن فيها حسناً وأحسن كالقود والعفو ، والانتصار والصبر ، والمأمور به والمباح فأمروا بأن يأخذوا بما هو أكثر ثوابا .
وقوله - تعالى - { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والتهديد .
أى : سأريكم عاقبة من خالف أمرى ، وخرج عن طاعتى ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار ، فتلك سنتى التي لا تتغير ولا تتبدل .
قال ابن كثير : وإنما قال { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غداً ما يصير إليه حال من خالفنى على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
وقيل المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه وهى مصر ، كيف أقفرت منهم ودمروا لفسهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فيصيبكم ما أصابهم .
وقيل المراد بها منازل عاد وثمود والأقوام الذين هلكوا بسبب كفرهم .
وقيل المراد بها أرض الشام التي كان يسكنها الجبارون . فإنهم لم يدخلوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر على يد يوشع بن نون .
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح ، لأن الآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله في خلقه ، وهذه السنة تتمثل في أن كل دار تفسق عن أمر ربها تكون عاقبتها الذل والدمار ، ولأنه لم يرد حديث صحيح يعين المراد بدار الفاسقين .
فالآية الكريمة قد اشتملت على جانب من مظاهر نعم الله على نبيه موسى - عليه السلام - كما اشتملت على الأمر الصريح منه - سبحانه - له بأن يهيىء نفسه لحمل تكاليف الرسالة بعزم وصبر ، وأن يأمر قومه بأن يأخذوا بأكملها وأعلاها بدون ترخيص أو تحايل ، لأنهم قوم كانت طبيعتهم رخوة وعزيمتهم ضعيفة ، ونفوسهم منحرفة . كما اشتملت على التحذير الشديد لكل من يخرج عن طاعة الله وينتهك حرماته .
ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة ، وكيف أوتيها موسى :
( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ) . .
وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح ؛ ويصفها بعضهم أوصافاً مفصلة - نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير - ولا نجد في هذا كله شيئاً عن رسول الله [ ص ] فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه . وما تزيد تلك الأوصاف شيئاً أو تنقص من حقيقة هذه الألواح . أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء . والمهم هو ما في هذه الألواح . إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء !
( فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) . .
والأمر الإلهي الجليل لموسى - عليه السلام - أن يأخذ الألواح بقوة وعزم وأن يأمر قومة أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم . . هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية ، التي أفسدها الذل وطول الأمد ، بالعزم والجد ، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة ، فإنه - كذلك - يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها . .
إن العقيدة أمر هائل عند الله - سبحانه - وأمر هائل في حساب هذا الكون ، وقدر الله الذي يصرفه ، وأمر هائل في تاريخ " الإنسان " وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك . . والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله - سبحانه - وعبودية البشر لربوبيته وحده ، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها ، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية ، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه ، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة . .
وأمر له هذه الخطورة عند الله ، وفي حساب الكون ، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ " الإنسان " . . يجب أن يؤخذ بقوة ، وأن تكون له جديته في النفس ، وصراحته وحسمه . ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة ، ولا في تميع ، و لا في ترخص ، ذلك أنه أمر هائل في ذاته ، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص ، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر . .
وليس معنى هذا - بطبيعة الحال - هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض ! فهذا ليس من طبيعة دين الله . . ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة . . وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض !
ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل - بصفة خاصة - بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر ، تحتاج إلى هذا التوجيه . لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد ، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية ، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة . .
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل ، والخضوعللإرهاب والتعبد للطواغيت ، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال ، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة . . كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا ، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها ، وتسير مع القطيع ؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً !
وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض ، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه :
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت - في ذلك الزمان - في قبضة الوثنيين ، وأنها بشارة لهم بدخولها . . وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى - عليه السلام - لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت ، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت ، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم : ( يا موسى إن فيها قوماً جبارين . وإنا لن ندخلها ً حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ! ) . . ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله ، في الدخول والاقتحام ! أجابوا موسى بتوقح الجبان - كالدابة التي ترفس سائقها ! - : إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ، فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون ! . . مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام ، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة ، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة . .
ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ، قيل : كانت الألواح من جوهر ، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام ، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله [ تعالى ]{[12129]} فيها : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } [ القصص : 43 ]
وقيل : الألواح أعطيها موسى قبل التوراة ، فالله أعلم . وعلى كل تقدير كانت{[12130]} كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه ، والله أعلم .
وقوله : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي : بعزم على الطاعة { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } قال سفيان بن عيينة : حدثنا أبو سعد{[12131]} عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أمر موسى - عليه السلام - أن يأخذ بأشد ما أمر قومه .
وقوله : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : سترون{[12132]} عاقبة من خالف أمري ، وخرج عن طاعتي ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب ؟
قال ابن جرير : وإنما قال : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } كما يقول القائل لمن يخاطبه : " سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري " ، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد ، والحسن البصري .
وقيل : معناه { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : من أهل الشام ، وأعطيكم إياها . وقيل : منازل قوم فرعون ، والأول أولى ، والله أعلم ؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر ، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وكتبنا له في الألواح } الآية ، الضمير في { له } عائد على موسى عليه السلام ، والألف واللام في { الألواح } عوض من الضمير الذي يقدر وصله بين الألواح وموسى عليه السلام ، تقديره في ألواحه ، وهذا كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } أي : مأواه وقيل : كانت الألواح اثنين ، وقيل أيضاً من برد ، وقال الحسن من خشب ، وقوله { من كل شيء } لفظه عموم والمراد به كل شيء ينفع في معنى الشرع ويحتاج إليه في المصلحة ، وقوله { لكل شيء } مثله ، قال ابن جبير : ما أمروا به ونهوا عنه ، وقاله مجاهد : وقال السدي : الحلال والحرام . وقوله { بقوة } معناه بجد وصبر عليها واحتمال لمؤنها قاله ابن عباس والسدي ، وقال الربيع بن أنس { بقوة } هنا بطاعة ، وقال ابن عباس أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه ، و «خذ » أصله أؤخذ حذفت الهمزة التي هي فاء الفعل على غير قياس فاستغني عن الأول ، وقوله { بأحسنها } يحتمل معنيين أحدهما التفضيل كأنه قال : إذا اعترض فيها مباحان فيأخذون الأحسن منهما كالعفو والقصاص ، والصبر والانتصار .
قال القاضي أبو محمد : هذا على القول إن أفعل في التفضيل لا يقال إلا لما لهما اشتراك في المفضل فيه وأما على القول الآخر فقد يراد بالأحسن المأمور به بالإضافة للمنهي عنه لأنه أحسن منه ، وكذلك الناسخ بالإضافة إلى المنسوخ ونحو هذا ، وذهب إلى هذا المعنى الطبري .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا التأويل أنه تدخل فيه الفرائض وهي لا تدخل في التأويل الأول ، وقد يمكن أن يتصور اشتراك في حسن من المأمور به والمنهي عنه ولو بحسب الملاذ وشهوات النفس الأمارة ، والمعنى الآخر الذي يحتمله قوله : { بأحسنها } أن يريد بأحسن وصف الشريعة بجملتها ، فكأنه قال : قد جعلنا لكم شريعة هي أحسن كما تقول : الله أكبر دون مقايسة ثم قال : فُمْرهم يأخذوا بأحسنها الذي شرعناه لهم ، وفي هذا التأويل اعتراضات ، وقرأ جمهور الناس { سأوريكم } ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «سأوريكم » قال أبو الفتح ظاهر هذه القراءة مردود وهو أبو سعيد المأثور فصاحته فوجهها أن المراد أريكم ثم أشبعت ضمة الهزة ومطلب حتى نشأت عنها واو ، ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه .
وقرأ قسامة بن زهير «سأورثكم » قاله أبو حاتم ، ونسبها المهدوي إلى ابن عباس ، وثبتت الواو في خط المصحف فلذلك أشكل هذا الاختلاف مع أنا لا نتأول إلا أنها مرويات فأما من قرأها «سأوريكم » فالمعنى عنده سأعرض عليكم وأجعلكم تخشون لتعتبروا حال دار الفاسقين ، والرؤية هنا رؤية العين إلا أن المعنى يتضمن الوعد للمؤمنين والوعيد للفاسقين ويدل على أنها رؤية العين تعدي فعلها ، وقد ُعِّدي بالهمزة إلى مفعولين ، ولو كان من رؤية القلب لتعدي بالهمزة ?لى ثلاثة مفاعيل ، ولو قال قائل : المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدر أي مدمرة أو خربة أو مسعرة على قول من قال : هي جهنم ، قيل له : ولا يجوز حذف هذا المفعول والاقتصار دونه أنها داخلة على الابتداء والخبر ، ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله عز وجل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومقاتل وقتادة في كتاب النقاش { دار الفاسقين } مصر والمراد آل فرعون ، وقال قتادة أيضاً : «دار الفاسقين » الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد والحسن : «دار الفاسقين » جهنم والمراد الكفرة بموسى عامة ، وقال النقاش عن الكلبي : { دار الفاسقين } دور ثمود وعاد والأمم الخالية : أي سنقصها عليكم فترونها .
عطف على جملة { قال يا موسى ، إني اصطفيتك على الناس برسالتي } [ الأعراف : 144 ] إلى آخرها ، لأن فيها : { فخذ ما آتيتك } [ الأعراف : 144 ] والذي آتاه هو ألواح الشريعة ، أو هو المقصود من قوله : { ما آتيتك } .
والتعريف في الألواح يجوز أن يكون تعريف العهد ، إن كان { ما آتيتك } مراداً به الألواح التي أُعطيها موسى في المناجاة ، فساغ أن تعرّف تعريف العهد ، كأنه قيل : فخذ ألواحاً آتيتُكها ، ثم قيل : كتبنا له في الألواح ، وإذا كان ما آتيتك مراداً به الرسالة والكلام كان التعريف في الألواح تعريف الذهني ، أي : وكتبنا له في ألواح معينة من جنس الألواح .
والألواح جمع لَوْحَ بفتح اللام ، وهو قطعة مربعة من الخشب ، وكانوا يكتبون على الألواح ، أو لأنها ألواح معهودة للمسلمين الذين سيقت إليهم تفاصيل القصة ( وإن كان سوق مجمل القصة لتهديد المشركين بأن يحل بهم ما حصل بالمكذبين بموسى ) .
وتسمية الألواح التي أعطاها الله موسى ألواحاً مجاز بالصورة لأن الألواح التي أعطيها موسى كانت من حجارة ، كما في التوراة في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج ، فتسميتها الألواح ؛ لأنها على صورة الألواح ، والذي بالإصحاح الرابع والثلاثين أن اللوحين كتبت فيهما الوصايا العشر التي ابتدأت بها شريعة موسى ، وكانا لوحين ، كما في التوراة ، فإطلاق الجمع عليها هنا : إما من باب إطلاق صيغة الجمع على المثنى بناء على أن أقل الجمع اثنان ، وإما لأنهما كانا مكتوبين على كلا وجهيهما ، كما يقتضيه الإصحاح الثاني والثلاثون من سفر الخروج ، فكانا بمنزلة أربعة ألواح .
وأسندت الكتابة إلى الله تعالى ؛ لأنها كانت مكتوبة نقشاً في الحجر من غير فعل إنسان بل بمحض قدرة الله تعالى ، كما يفهم من الإصحاح الثاني والثلاثين ، كما أسند الكلام إلى الله في قوله : { وبكلامي } [ الأعراف : 144 ] .
و ( مِنْ ) التي في قوله : { من كل شيء } تبعيضية متعلقة ب { كتبنا } ومفعول { كتبنا } محذوف دل عليه فعل كتبنا أي مكتُوباً ، ويجوز جعل ( مِن ) اسما بمعنى بعض فيكون منصوباً على المفعول به بكتبنا ، أي كتبنا له بعضاً من كل شيء ، وهذا كقوله تعالى في سورة النمل ( 16 ) { وأوتينا من كل شيء } وكل شيء عام عموماً عرفياً أي كل شيء تحتاج إليه الأمة في دينها على طريقة قوله تعالى : { مَا فرطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 138 ] على أحد تأويلين في أن المراد من الكتاب القرآن ، وعلى طريقة قوله تعالى : { اليوم أكملتُ لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] أي أصوله .
والذي كتب الله لموسى في الألواح هو أصول كليات هامة للشريعة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه السلام وهي ما في الإصحاح ( 20 ) من سفر الخروج ونصها : أنا الرب إلاهك الذي اخرجك من أرض مصر من بيت العبودية ، لا يكن لك ءالهة أخرى أمامي ، لا تصنع تمثالاً منحوتاً ، ولا صورة مّا مما في السماء ، من فوق ، وما في الأرض من تحت ، وما في الماء من تحت الأرض ، لا تسجد لهن ولا تعبُدْهن لأني أنا الرب إلاهك غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضيَّ واصنع إحساناً إلى ألوف من محِبّيّ وحافظي وصاياي ، لا تنطق باسم الرب إلاهك باطلاً لأن الرب لا يبرىء من نطق باسمه باطلاً ، اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلاهك لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأختك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك ؛ لأن في ستة أيام صنع الرب السما والأرض والبحر ، وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه ، أكرم أباك وأمك ؛ لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلاهك ، لا تقتلْ ، لا تزْننِ لا تسرق ، لا تشهد ، على قريبك شهادة زور ، لا تشته بيت قريبك ، لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ، ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك اهـ ، واشتهرت عند بني إسرائيل بالوصايا العشر ، وبالكلمات العشر أي لجمل العشر .
وقد فصلت ( في ) من الإصحاح العشرين إلى نهاية الحادي والثلاثين من سفر الخروج ، ومن جملتها الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى في جبل سينا ووقع في الإصحاح الرابع والثلاثين إن الألواح لم تكتب فيها إلاّ الكلمات العشر ، التي بالفقرات السبع عشرة منه ، وقوله هنا { موعظة وتفصيلاً } يقتضي الاعتماد على ما في الأصاحيح الثلاثة عشر .
والموعظة اسم مصدر الوعظ وهو نصح بإرشاد مشوب بتحذير من لحاق ضر في العاقبة أو بتحريض على جلب نفع ، مغفول عنه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } في سورة البقرة ( 275 ) ، وقوله : { فأعرض عنهم وعظْهم } في سورة النساء ( 63 ) ، وسيجيء قوله : { والموعظة الحسنة } في آخر سورة النحل ( 125 ) .
والتفصيل التبيين للمجملات ولعل الموعظة هي الكلمات العشر والتفصيل ما ذكر بعدها من الأحكام في الإصحاحات التي ذكرناها .
وانتصب { موعظة } على الحال من كل شيء ، أو على البدل من ( من ) إذا كانت اسماً إذا كان ابتداء التفصيل قد عَقِبَ كتابة الألواح بما كلمه الله به في المناجاة مما تضمنه سفر الخروج من الإصحاح الحادي والعشرين إلى الإصحاح الثاني والثلاثين ولما أوحي إليه إثر ذلك .
ولك أن تجعل { موعظة وتفصيلاً } حالين من الضمير المرفوع في قوله : { وكتبنا له } أي واعظينَ ومفصلين ، فموعظة حال مقارنة وتفصيلاً حال مقدّرة ، وأما جعلهما بدلين من قوله : { من كل شيء } فلا يستقيم بالنسبة لقوله : { وتفصيلاً } .
وقوله : { فخذها } يتعين أن الفاء دالة على شيء من معنى ما خاطب الله به موسى ، ولما لم يقع فيما وَليتْه ما يصلح لأن يتقرع عنه الأمر بأخذها بقوة . تعين أن يكون قوله : { فخذها } بدلاً من قوله : { فخذ ما آتيتك } [ الأعراف : 144 ] بدلَ اشتمال لأن الأخذ بقوة يشتمل عليه الأخذ المطلق ، وقد اقتضاه العود ، إلى ما خاطب الله به موسى إثر صعقته إتماماً لذلك الخطاب فأعيد مضمون ما سبق ليتصل ببقيته ، فيكون بمنزلة أن يقول فخذ ما آتيتك بقوة وكن من الشاكرين ، ويكون ما بينهما بمنزلة اعتراض ، ولولا إعادة { فخذها } لكان ما بين قوله : { من الشاكرين } [ الأعراف : 144 ] وقوله : { وأمرْ قومك يأخذوا } اعتراضاً على بابه ولمّا اقتضى المقام هذا الفصلَ ، وإعادة الأمر بالأخذ ، اقتضى حسن ذلك أن يكون في الإعادة زيادة ، فأخر مقيّد الأخذ ، وهو كونه بقوة ، عن التعلق بالأمر الأول ، وعلق بالأمر الثاني الرابط للأمر الأول ، فليس قوله : { فخذها } بتأكيد ، وعلى هذا الوجه يكون نظم حكاية الخطاب لموسى على هذا الأسلوب من نظم القرآن .
ويجوز أن يكون في أصل الخطاب المحكي إعادة ما يدل على الأمر بالأخذ لقصد تأكيد هذا الأخذ ، فيكون توكيداً لفظياً ، ويكون تأخيرُ القيد تحسيناً للتوكيد اللفظي ليكون معه زيادة فائدة ، ويكون الاعتراض قد وقع بيْن التوكيد والموكّد وعلى هذا الوجه يكون نظم الخطاب على هذا الأسلوب من نظم الكلام الذي كلّم الله به موسى حكي في القرآن على أسلوبه الصادر به .
والضمير المؤنث في قوله : { فخذها } عائِد إلى الألواح باعتبار تقدم ذكرها في قوله : { وكتبنا له في الألواح } . والمقول لموسى هو مرجع الضمير ، وفي هذا الضمير تفسير للإجمال في قوله : { ما آتيتك } [ الأعراف : 144 ] وفي هذا ترجْيح كون ما صْدَق { ما آتيتك } هو الألواح ، وَمن جَعلوا ما صْدَق { ما آتيتك } الرسالةَ والكلامَ جعلوا الفاءَ عاطفة لقول محذوف على جملة { وكتبنا } والتقدير عندهم : وكتبنا فقلنا خُذها بقوة ، وما اخترناه أحسن وأوفق بالنظم .
والأخذُ : تناول الشيء ، وهو هنا مجاز في التلقي والحفظ .
والباء في قوله : { بقوة } للمصاحبة .
والقوة حقيقتها حالة في الجسم يتأتّى له بها أن يعمل ما يشُق عمله في المعتاد فتكون في الأعضاء الظاهرة مثل قُوة اليدين على الصنع الشديد ، والرجلْين على المشي الطويل ، والعينين على النظر للمرئيات الدقيقة . وتكون في الأعضاء الباطنة مثل قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس ، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس ومنه قولهم : قوة العقل .
وإطلاق اسم القُوى على العقل وفيما أنشد ثعْلب :
وصاحِبيْن حازماً قَواهما *** نَبّهْتُ والرقادُ قدْ علاهما
وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة ، والواهمة ، والمفكرة ، والمخيّلة ، والحسُ المشترك .
فيقال : فرس قوي ، وجمل قوي على الحقيقة ، ويقال : عود قوي ، إذا كان عسير الإنكسار ، وأسّس قوي ، إذا كان لا ينخسف بما يُبنى عليه من جدار ثقيل ، إطلاقاً قريباً من الحقيقة ، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشّدُ منها في بعض آخر ، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل ممّا هي حالة فيه ، ولما كان من لوازم القوة أن قدره صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد ، والأعمالُ عليه أيسر ، شاع إطلاقها على الوسائِل التي يستعين بها المرء على تذليل المصاعب مثل السلاح والعتاد ، والمال ، والجاه ، وهو إطلاق كنائي قال تعالى : { قالوا نحن أولوا قوة } في سورة النمل ( 33 ) .
ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وُصف الله تعالى باسم القوي أي الكامل القدرة قال تعالى : { إن الله قوي شديد العقاب } في سورة الأنفال ( 52 ) .
والقوة هنا في قوله : { فخذها بقوة } تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح ، بمنتهى الجِد والحِرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل ، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده . ومنه قوله تعالى : { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } في سورة مريم ( 12 ) .
وهذا الأخذ هو حَظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها ، فالله المشرّع ، والرسولُ المنفذ ، وأصحابه ووُلاةَ الأمور هم أعوان على التنفيذ ، وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه ، وهُو وُهمْ فيما سوى ذلك كسائر الأمة .
فقوله : { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } تعريج على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها ، فهذا الأخذ مجاز في التمسك والعمل ولذلك عدي بالباء الدالة على اللصوق ، يقال : أخذ بكذا إذا تمسك به وقبض عليه ، كقوله : { وأخذ برأس أخيه } [ الأعراف : 150 ] وقوله : { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } [ طه : 94 ] . ولم يُعد فعل الأخذ بالباء في قوله : { فخذها } لأنه مستعمل في معنى التلقي والحفظ لأنه أهم من الأخذ بمعنى التمسك والعمل ، فإن الأول حظ ولي الأمر والثاني حظ جميع الأمة .
وجزم { يأخذوا } جواباً لقوله : { وأمرْ } تحقيقاً لحصول امتثالهم عندما يأمرهم .
و { بأحسنها } وصف مسلوب المفاضلة مقصود به المبالغة في الحُسن ، فإضافتها إلى ضمير الألواح على معنى اللام ، أي : بالأحسن الذي هو لها وهو جميع ما فيها ، لظهور أن ما فيها من الشرائع ليس بينه تفاضل بين أحسن ودون الأحسن ، بل كله مرتبة واحدة فيما عين له ، ولظهور أنهم لا يؤمنون بالأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها ، ولأن الشريعة مفصّل فيها مراتب الأعمال ، فلو أن بعض الأعمال كان عندها أفضلَ من بعض ، كالمندوب بالنسبة إلى المباح ، وكالرخصة بالنسبة إلى العزيمة ، كان الترغيب في العمل بالأفضل مذكوراً في الشريعة ، فكان ذلك من جملة الأخذ بها ، فقرائِن سلب صيغة التفضيل عن المفاضلة قائمة واضحة ، فلا وجه للتردد في تفسير الأحسن في هذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء ، وهذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } في سورة الزمر ( 55 ) . والمعنى : وامر قومَك يأخذوا بما فيها لحسنها .
كلام موجّه إلى موسى عليه السلام فيجوز أن يكون منفصلاً عن الكلام الذي قبله فيكون استئنافاً ابتدائياً : هو وعد له بدخولهم الأرض الموعودة ، ويجوز أن تكون الجملة متصلة بما قبلها فتكون من تمام جملة { وأْمرْ قومك يأخذوا باحسنها } على أنها تحذير من التفريط في شيء مما كُتب له في الألواح . والمعنى سأبين لكم عقاب الذين لا يأخذون بها .
والدار المكان الذي تسكنه العائِلة ، كما في قوله تعالى : { فخسفنا به وبداره الأرض } في سورة القصص ( 81 ) والمكان الذي يحله الجماعة من حي أو قبيلة كما قال تعالى : { فأصبحوا في دارهم جاثمين } [ الأعراف : 91 ] وقد تقدم . وتطلق الدار على م { فنعم عقبى الدار } [ الرعد : 24 ] ، وقد يراد بها مآل المرء ومصيره ؛ لأنه بمنزلة الدار يأوي إليه في شأنه . وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى : { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } في سورة الأنعام ( 135 ) .
وخوطب بضمير الجمع باعتبار من معه من أصحابه شيوخ بني إسرائيل ، أو باعتبار جماعة قومه فالخطاب شامل لموسى ومن معه .
والإراءة من رأى البصرية ؛ لأنها عديت إلى مفعولين فقط .
وأوثر فعل { أريكم } دون نحو : سأدخلكم ، لأن الله منع معظم القوم الذين كانوا مع موسى من دخول الأرض المقدسة لمّا امتنعوا من قتال الكنعانيين كما تقدم في قوله تعالى : { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } في سورة المائدة ( 26 ) . وجاء ذلك في التوراة في سفر التثنية الإصحاح الأول : أن الله قال لموسى : { وأنت لا تدخل إلى هناك } وفي الإصحاح ( 34 ) وصعد موسى إلى الجبل ( نبو ) فأراه الله جميع الأرض وقال له : هذه الأرض التي أقسمتُ لإبراهيم قائِلاً لِنسلك أُعطيها قد أريتُك إياها بعينيك ولكنك لا تعبُرُ .
ويجوز أن يكون سأريكم خطاباً لقوم موسى ، فيكون فعل أريكم كناية عن الحلول في دار الفاسقين ، والحلول في ديار قوم لا يكون إلاّ الفتح والغلبة ، فالإراءة رمز إلى الوعد بفتح بلاد الفاسقين ، والمراد بالفاسقين المشركون ، فالكلام وعد لموسى وقومه بأن يفتحوا ديار الأمم الحالة بالأرض المقدسة التي وعدهم الله بها ، وهم المذكورون في التوراة في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج خطاباً للشعب إحفظ ما أنا موصيك به ها أنا طارد من قدامك الأموريين ، والكنعانيين ، والحثيين ، والفرزيين ، والحويين ، واليبوسيين ، احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فَخّا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم فإنك لا تسْجد لإله آخر .
ويؤيده مَا روي عن قتادة أن دار الفاسقين هي دار العمالقة والجبابرة ، وهي الشام ، فمن الخطأ تفسير من فسروا دار الفاسقين بأنها أرض مصر فإنهم قد كانوا بها وخرجوا منها ولم يرجعوا إليها ، ومن البعيد تفسير دار الفاسقين بجهتهم ، وفي الإصحاح 34 من سفر الخروج احترز من أن تقطع عهداً مع سكان الأرض التي أنت آت إليها فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتُدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن ، ولا يخفى حسن مناسبة التعبير عن أولئك الأقوام بالفاسقين على هذا الوجه .
وقيل المراد بدار الفاسقين ديار الأمم الخالية مثل ديار ثمود وقوم لوط الذين أهلكهم الله لكفرهم ، أي ستمرون عليهم فترون ديارهم فتتعظون بسوء عاقبتهم لفسقهم ، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لم يمروا مع موسى على هذه البلاد .
والعدول عن تسمية الأمم بأسمائهم إلى التعبير عنهم بوصف الفاسقين ؛ لأنه أدل على تسبب الوصف في المصير الذي صاروا إليه ، ولأنه أجمع وأوجز ، واختيار وصف الفاسقين دون المشركين والظالمين الشائِع في التعبير عن الشرك في القرآن ؛ للتنبيه على أن عاقبتهم السوأى تسببت على الشرك وفاسد الأفعال معاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكتبنا له في الألواح}... {من كل شيء}، فقال: {موعظة} من الجهل، {وتفصيلا}، يعني بيانا {لكل شيء} من الأمر والنهي والحد... {فخذها بقوة}، يعني التوراة بالجد والمواظبة عليه، {وأمر قومك} بني إسرائيل، {يأخذوا بأحسنها}، يعني بأحسن ما فيها، ثم قال قبل ذلك لبني إسرائيل: {سأوريكم دار الفاسقين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكتبنا لموسى في ألواحه...
وقوله:"مِنْ كُلّ شَيْءٍ" يقول من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعزّ سلطانه. "مَوْعِظَةً "لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح. "وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ" يقول: وتبيينا لكلّ شيء من أمر الله ونهيه...
"فَخُذْهَا بِقُوّةٍ" يقول تعالى ذكره: وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كلّ شيء موعظة وتفصيلاً لكلّ شيء: خذ الألواح بقوّة... واختلف أهل التأويل في معنى القوّة في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: معناها: بجدّ... واجتهاد.
وقال آخرون: معنى ذلك: فخذها بالطاعة لله... وقد بيّنا معنى ذلك بشواهده واختلاف أهل التأويل فيه في سورة البقرة عند قوله: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
"وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها" يقول تعالى ذكره: قلنا لموسى: وأمر قومك بني إسرائيل "يأخذوا بأحسنها" يقول: يعملوا بأحسن ما يجدون فيها... فإن قال قائل: وما معنى قوله: "وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها" أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن؟ قيل: لا، ولكن كان فيها أمر ونهي، فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله ويتركوا ما نهاهم عنه، فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمَنْهيّ عنه.
"سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ" يقول تعالى ذكره لموسى إذ كتب في الألواح من كلّ شيء: خذها بجدّ في العمل بما فيها واجتهاد، وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها والشرك بي، فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم فإني سأريه في الآخرة عند مصيره إليّ دار الفاسقين، وهي نار الله التي أعدّها لأعدائه. وإنما قال: "سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ" كما يقول القائل لمن يخاطبه: سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك... عن الحسن، في قوله: "سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ" قال: جهنم.
وقال آخرون: معنى ذلك: سأدخلكم أرض الشأم، فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة...عن قتادة: "دَارَ الفاسِقِينَ" قال: منازلهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: سأريكم دار قوم فرعون، وهي مصر... وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لأن الذي قبل قوله جلّ ثناؤه: "سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ" أمر من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة، فأولى الأمور بحكمة الله تعالى أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيعه وفرّط في العمل لله وحاد عن سبيله، دون الخبر عما قد انقطع الخبر عنه أو عما لم يجر له ذكر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {موعظة} قال: الموعظة هي التي تحمل القلوب على القبول والجوارح على العمل. قال بعضهم: الموعظة هي التي تنهى عما لا يحل. قال أبو بكر: الموعظة هي التي تلين القلوب القاسية، وتدمع العيون الجامدة، وتصلح الأعمال الفاسدة...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَأمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} لم يقل ذلك لأن فيها غير حسن، وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن أحسنها: المفروضات، وغير الأحسن: المباحات... {سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ} فيها أربعة أقاويل:...
والثاني: هي منازل من هلك بالتكذيب من عاد وثمود والقرون الخالية، لتعتبروا بها وبما صاروا إليه من النكال، قاله قتادة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قوله جلّ ذكره: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ}.
فيه إشارة إلى أن الأَخْذَ يُشير إلى غاية القرْبِ، والمراد ها هنا صفاءُ الحال، لأن قربَ المكانِ لا يَصِحُّ على الله سبحانه. قوله: {بِأَحْسَنِهَا} بمعنى بِحُسْنِهَا، و يحتمل أن تكون الهمزة للمبالغة يعني: بأحسنها ألا تعرِّج على تأويل وارجع إلى الأَوْلى.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ: قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْحَسَنَ مَا وَافَقَ الشَّرْعَ، وَالْقَبِيحَ مَا خَالَفَهُ، وَفِي الشَّرْعِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ، فَقِيلَ: كُلُّ مَا كَانَ أَرْفَقَ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَقِيلَ: كُلُّ مَا كَانَ أَحْوَطَ لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ أَحْسَنُ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ أَحْسَنَ مَا فِيهَا امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ (قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ: وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ فَقَالَ: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ)...
أما قوله: {من كل شيء} فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم، بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح.
وأما قوله: {موعظة وتفصيلا لكل شيء} فهو كالبيان للجملة التي قدمها بقوله: {من كل شيء} وذلك لأنه تعالى قسمه إلى ضربين: أحدهما: {موعظة} والآخر {تفصيلا} لما يجب أن يعلم من الأحكام، فيدخل في الموعظة كل ما ذكره الله تعالى من الأمور التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية، وذلك بذكر الوعد والوعيد، ولما قرر ذلك أولا أتبعه بشرح أقسام الأحكام وتفصيل الحلال والحرام، فقال: {وتفصيلا لكل شيء} ولما شرح ذلك، قال لموسى: {فخذها بقوة} أي بعزيمة قوية ونية صادقة، ثم أمره الله تعالى أن يأمر قومه بأن يأخذوا بأحسنها، وظاهر ذلك أن بين التكليفين فرقا، ليكون في هذا التفصيل فائدة، ولذلك قال بعض المفسرين: إن التكليف كان على موسى عليه السلام أشد، لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره، وقال بعضهم: بل خصه من حيث كلفه البلاغ والأداء. وإن كان مشاركا لقومه فيما عداه، وفي قوله: {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وكتبنا} أي بعظمتنا {له في الألواح} عرفها لعظمتها تنبيهاً على أنها لجلالة ما اختصت به كأنها المختصة بهذا الاسم، وأعظم من هذا جعل قلب النبي الأمي لوحاً قابلاً لما يلقى إليه جامعاً لعلوم الأولين والآخرين {من كل شيء} أي يحتاجه بنو إسرائيل... ففيها أصول الدين وأصول الأحكام والتذكير بالنعم والأمر بالزهد والورع ولزوم محاسن الأعمال والبعد عن مساويها، ولذا قال مبدلاً: {موعظة وتفصيلاً} أي على وجازتها بما كانت سبباً {لكل شيء} أي لأنها -مع كونها أمهات وجوامع- مفصلة ترجع إليها بحور العلم وتنشق منها ينابيعها. ولما كان هذا هكذا، تسبب عنه حتماً قوله تعالى التفاتاً إلى خطاب موسى عليه السلام بخطاب التأنيس إشارة إلى أن التزام التكاليف صعب: {فخذها} أي الألواح {بقوة} أي بجد وعزيمة في العلم والعمل {وأمر قومك} أي الأقوياء على محاولة ما يراد {يأخذوا بأحسنها} كأنه سبحانه أطلق لموسى عليه السلام الأخذ بكل ما فيها لما عنده من الملكة الحاجزة له عن شيء من المجاوزة، ولذلك قال له {بقوة} وقيدهم بالأحسن ليكون الحسن جداً مانعاً لهم من الوصول إلى القبيح، وذلك كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر. ولما كان كأنه قيل: وهل يترك الأحسن أحد؟ فقيل: نعم، الفاسق يتركه، بل ويتجاوز الحسن إلى القبيح، بل وإلى أقبح القبيح، ومن تركه أهلكته وإن جل آله وعظمت جنوده وأمواله، قال كالتعليل لذلك: {سأوريكم دار الفاسقين} أي الذين يخرجون عن أوامري إلى ما أنهاهم عنه... وإنما ذكر الدار لئلا تغرهم منعتها إذا استقروا بها فيظنوا أن لا غالب لهم فيها بوعورة أرضها وشهوق جبالها وإحكام أسوارها، وإذا تأملت ما سيأتي في شرح هذه الآيات من التوراة لاح لك هذا المعنى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وكتبنا له في الألواح من كلّ شيء موعظة وتفصيلا لكلّ شيء} أي إننا أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها من كل نوع من أنواع الهداية موعظة من شأنها أن تؤثر في القلوب ترغيبا وترهيبا- وتفصيلا لكل نوع من أصول التشريع وهي أصول العقائد والآداب وأحكام الحلال والحرام، وتفصيلها ذكرها معدودة مفصولا بعضها من بعض. وإسناد الكتابة إليه تعالى إما على معنى أن ذلك كان بقدرته تعالى وصنعه لا كسب لأحد فيه، وإما على معنى أنها كتبت بأمره ووحيه سواء كان الكاتب لها موسى أو الملك (عليهما السلام).قيل إن (أحسن) هنا بمعنى ذي الحسن التام الكامل وليس فيه معنى تفضيل شيء على آخر...
والعبرة التي يجب أن يتذكرها ويتدبرها كل قارئ لهذه الآية من وجوه
أحدها: أن الكتاب الإلهي يجب أخذه بقوة إرادة وجد عزيمة لتنفيذ ما هدى إليه من الإصلاح وتكوين الأمة تكوينا جديدا صالحا، ويتأكد ذلك في الرسول المبلغ له والداعي إليه والمنفذ له بقوله وعلمه، ليكون لقومه فيه أسوة حسنة. وتلك سنة الله تعالى في سائر الانقلابات والتجديدات الاجتماعية والسياسية وإن لم تكن بهداية الدين، والدين أحوج إلى القوة والعزيمة لأنه إصلاح للظاهر والباطن جميعا، وقد أمر الله تعالى بني إسرائيل بما أمر به رسولهم صلى الله عليه وسلم من أخذ الكتاب أو ميثاق الكتاب بقوة أمرا مقرونا بتهديدهم وتخويفهم من وقوع جبل الطور بهم، كما تقدم في سورة البقرة وسيأتي مثله في هذه السورة (الأعراف).
وقد أخذ سلفنا القرآن بقوة فسادوا به جميع الأمم التي كان لها من القوى العددية والحربية والنظامية والمالية والصناعية ما ليس لهم، وإنما سادوا بالعمل بهدايته كما أراد الله تعالى- لا بالتغني بقراءته في المحافل، ولا بالتبرك المحض بالمصاحف، كما يفعل مقلدة الخلف الصالح، إن من يأخذ القرآن بقوة يكون القرآن حجة له فيسعد به في الدنيا والآخرة، ومن لا يأخذه بقوة يكون حجة عليه فيشقى بالإعراض عنه وهجر هدايته في الدنيا والآخرة {يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضلّ به إلّا الفاسقين * الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} [البقرة: 26، 27].
ثانيها: أن سبب تخويف بني إسرائيل عند تبليغهم الميثاق الإلهي بوقوع الجبل بهم وأمرهم في تلك الحال أن يأخذوه بقوة هي أن أحكام التوراة التي أخذ عليهم الميثاق بأخذها بقوة شاقة حرجة، وحكمة ما فيها من الشدة والحرج أن القوم كانوا مستضعفين مستذلين باستعباد المصريين لهم منذ أجيال كثيرة وكان القوم أو الأقوام الذين وعدوا بأن يغلبوهم على بلادهم جبارين أولي قوة وأولي بأس شديد، وكان من سنة الله تعالى في البشر أن تتربى أفرادهم وشعوبهم بالشدة والارتياض بالصبر، والجهاد بالمال والنفس، ولهذا أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يسير ببني إسرائيل في طريق التيه وهو الجنوبي من برية سيناء دون الطريق الشمالي القريب من مدن فلسطين إذ لم يكن لهم طاقة بقتال جباري الكنعانيين وقتئذ، فكتب الله تعالى عليهم التيه أربعين سنة هلك في أثنائها الذين استذلهم المصريون ونشأ من صغارهم ومواليدهم جيل جديد تربى في حجر الشرع الجديد، والتيه الشديد، كما بيناه في تفسير سورة المائدة (ج6 تفسير).
ثالثها: أن الإسرائيليين قد عظم ملكهم بإقامة شريعتهم بقوة حتى إذا غلب الغرور على العمل وظنوا أن الله تعالى ينصرهم ويؤيدهم لنسبهم ولقبهم وهو "شعب الله "فسقوا وظلموا، فأنزل الله بهم بالبلاء، وسلط عليهم البابليين الأقوياء، فنالوا عرشهم وتبروا ملكهم، ثم تابوا إلى رشدهم، فرحمهم الله وأعاد لهم بعض ملكهم وعزهم، ثم ظلموا وأفسدوا فسلط عليهم النصارى فمزقوهم كل ممزق، فظلوا عدة قرون متكلين على المسيح الموعود ليعيد لهم ملكهم بخوارق العادات، ثم ربتهم الشدائد ونورهم العلم العصري فطفقوا يستعدون لاستعادة هذا الملك بكل ما في الإمكان من الأسباب وفي مقدمتها المال والنظام والكيد والدهاء مع المحافظة على التقاليد الدينية في ذلك...
رابعها: أن المسلمين الذين اتبعوا سننهم وسنن النصارى شبرا بشبر وذراعا بذراع في الضر دون النفع، كما فصلناه في غير هذا الموضع، قد اغتروا بدينهم كما اغتروا، واتكلوا على لقب "الإسلام"، ولقب" أمة خاتم الرسل "عليه الصلاة والسلام، ولكنهم لما يثوبوا إلى رشدهم، لأن الذين سلبوا ملكهم وعزهم لم يسوسوهم بشدة مربية كافية، بل اجتهدوا في إفساد عقائدهم وأخلاقهم، وإيقاع الشقاق والتفريق فيما بينهم، بل أفسدوا كذلك من لم يستولوا على ملكهم منهم، بتوليهم التربية والتعليم لكثيرين منهم، كانوا عونا لهم على ما يريدون من ثل عروشهم والسيادة عليهم بالتدريج...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها)..
والأمر الإلهي الجليل لموسى -عليه السلام- أن يأخذ الألواح بقوة وعزم وأن يأمر قومة أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم.. هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية، التي أفسدها الذل وطول الأمد، بالعزم والجد، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة، فإنه -كذلك- يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها..
إن العقيدة أمر هائل عند الله -سبحانه- وأمر هائل في حساب هذا الكون، وقدر الله الذي يصرفه، وأمر هائل في تاريخ "الإنسان "وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك.. والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله -سبحانه- وعبودية البشر لربوبيته وحده، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة..
وأمر له هذه الخطورة عند الله، وفي حساب الكون، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ "الإنسان".. يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصراحته وحسمه. ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة، ولا في تميع، و لا في ترخص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر..
وليس معنى هذا -بطبيعة الحال- هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض! فهذا ليس من طبيعة دين الله.. ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة.. وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض!
ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل -بصفة خاصة- بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر، تحتاج إلى هذا التوجيه. لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة..
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل، والخضوع للإرهاب والتعبد للطواغيت، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة.. كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها، وتسير مع القطيع؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً!
وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه:
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت -في ذلك الزمان- في قبضة الوثنيين، وأنها بشارة لهم بدخولها.. وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى -عليه السلام- لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم: (يا موسى إن فيها قوماً جبارين. وإنا لن ندخلها ً حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون!).. ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله، في الدخول والاقتحام! أجابوا موسى بتوقح الجبان -كالدابة التي ترفس سائقها! -: إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون!.. مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..والقوة هنا في قوله: {فخذها بقوة} تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح، وهذا الأخذ هو حَظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها، فالله المشرّع، والرسولُ المنفذ، وأصحابه ووُلاةَ الأمور هم أعوان على التنفيذ، وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه، وهُو وُهمْ فيما سوى ذلك كسائر الأمة. {وأْمرْ قومك يأخذوا باحسنها} على أنها تحذير من التفريط في شيء مما كُتب له في الألواح. والمعنى سأبين لكم عقاب الذين لا يأخذون بها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... وإن الذي نراه في هذا أن {كتبنا} معناه فرضنا وشرعنا شرعا ثابتا مقررا ومفروضا في الألواح، وقد تكون قد ألقيت عليه مكتوبة في الألواح.
وقوله: {من كل شيء} (من) فيها بيانية، أي كتبنا له كل شيء في أمر الشرع من حيث العقيدة، ومن الشرائع المختلفة. وتكون موعظة، وتفصيلا لكل شيء فيها بيان لنوع ما في هذا الذي كتب وفرض، ففيه العظة والاعتبار بما فيها من أصل التكوين، والإخبار عن الأنبياء الذين سبقوه، وفيه تفصيل أحكام الشرائع تفصيلا مبينا موضحا، لا يخفى على الذين يدركون، ويطلبون الحق.
وقوله تعالى: {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} أي يختاروا أحسنها، وكل حسن، وأحسن، أي اطلبوا الأحسن فيها، فإذا كان واجبا فيه تخيير، فاختاروا الأحسن، فإذا خيرتم بين العقاب والعفو فاختاروا العفو، أو نقول: إن الأحسن وصف للتكليفات كلها، إذ كلها بلغ الأفضل في ذاته، وأفعل التفضيل ليس على بابه بل المراد الأخذ بها كلها، لأن كلها أحسنها، كقوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم} (الزمر 55))، وقوله: {يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (الزمر 18))، أي يتبعون الحسن وهو القرآن أحسن القول.
وقوله تعالى: {فخذها بقوة}، أي خذها بعزم صادق على تنفيذ أحكامها، من غير هوادة، والمراد بالأخذ بقوة لازمها، وهو العمل بقوة وصدق، والأمر لموسى هو أمر لأمته، وصرح بأمر حسن بلغ أعلى درجات الحسن، كما ذكر فقال: {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} وأشار – سبحانه وتعالى – إلى أنه سيكون من يفسق عنها من قومه، وذلك ببيان أنه سيرى موسى وخاصته الفاسقين ومكانهم، فقال تعالى: {سأريكم دار الفاسقين} أي: الفاسقين من بني إسرائيل، ومؤدى القول: ستعلم منازلهم وفسقهم ودرجاته.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{فخذها بقوة} هو من نوع الأوامر الإلهية العامة، الموجهة لجميع المؤمنين، إلى يوم الدين، و "الأخذ بالقوة "معناه امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه بعزم وحزم وحماس وحمية، أي بدون تردد ولا تهاون، وبكل اندفاع واعتزاز، شأن أهل الإيمان الصحيح، والعقيدة الصادقة. {سأوريكم دار الفاسقين} إلى قوله تعالى: {وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} تهديد ووعيد لكل من تحدى أوامر الله من العباد، أو وقف في وجهها وتصدى لها بالمعارضة والعناد.