التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ} (16)

ثم بين - سبحانه - ما أصابهم بسبب جحودهم وبطرهم فقال : { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } .

والعرم : اسم للوادى الذى كان يأتى منه السيل . وقيل : هو المطر الشديد الذى لا يطاق .

فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة . أى : أرسلنا عليهم السيل الشديد المدمر .

ويرى بعضهم أن المراد بالعرم : السدود التى كانت مبنية لحجز الماء من خلفها ، ويأخذون منها لزروعهم على قدر حاجتهم ، فلما أصيبوا بالترف والجحود تركوا العناية بإصلاح هذه السدود ، فتصدعت ، واجتاحت المياه آراضيهم فأفسدتها ، واكتسبت مساكنهم ، فتفرقوا عنها ، ومزقوا شر ممزق ، وضرب بهم الأمثال التى منها قولهم : تفرقوا أيدى سبأ . وهو مثل بضرب لمن تفرق شملهم تفرقا لا الاجتماع لهم معه .

وهذا ما حدث لقبيلة سبأ فقد تفرق بعضهم غلى المدينة المنورة كالأوس والخزرج ، وذهب بعضهم إلى عمان كالأزد ، وذهب بعضهم إلى الشام كقبيلة غسان .

وقوله : { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } الأكل : هو الثمر ، ومنه قوله - تعالى - : { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } أى : ثمرها . والخمط : هو ثمر الأراك أو هو النبت المر الذى لا يمكن أكله .

و ( الأثل ) هو نوع من الشجر يشبه شجر الطرفاء . أو هو نوع من الشجر كثير الشوك و ( السدر ) هو ما يعرف بالنبق . أو هو نوع من الثمار التى يقل الانتفاع بها .

والمعنى : فأعرض أهل سبأ عن شكرنا وطاعتنا . . فكانت نتيجة ذلك ، أن أرسلنا عليهم السيل الجارف ، الذى احتج أراضهيم ، فأفسد مزارعهم ، وأجلاهم عن ديارهم ، ومزقهم شر ممزق . . وبدلناهم بالجنان اليانعة التى كانوا يعيشون فيها ، بساتين أخرى قد ذهبت ثمارها الطيبة اللذيذة ، وحلت محلها ثمار مرة لا تؤكل ، وتناثرت فىأما كنهم الأشجار التى لا تسمن ولا تغنى من جوع ، بدلا من تلك الأشجار التى كانت تحمل لهم ما لذ وما طاب ، وعظم نفعه .

فالمقصود من الآية الكريمة ببيان أن الجحود والبطر ، يؤديان إلى الخراب والدمار ، وإلى زوال النعم وتحويلها إلى نقم .

ولذا جاء التعقيب بعد هذه الآية بقوله - تعالى - : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ} (16)

10

( فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم ، وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل : خمط وأثل وشيء من سدر قليل ) . .

أعرضوا عن شكر الله ، وعن العمل الصالح ، والتصرف الحميد فيما أنعم الله عليهم ، فسلبهم سبب هذا الرخاء الجميل الذي يعيشون فيه ، وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه ، فحطم السد وانساحت المياه فطغت وأغرقت ؛ ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت واحترقت . وتبدلت تلك الجنان الفيح صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة :

( وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل : خمط وأثل وشيء من سدر قليل ) . .

والخمط شجر الأراك أو كل شجر ذي شوك . والأثل شجر يشبه الطرفاء . والسدر النبق . وهو أجود ما صار لهم ولم يعد لهم منه إلا قليل !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ} (16)

15

وقوله : { فَأَعْرَضُوا } أي : عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم ، وعدلوا إلى عبادة الشمس ، كما قال هدهد سليمان : { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ . إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ . وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } [ النمل : 22 ، 24 ] .

وقال محمد بن إسحاق ، عن وهب بن مُنَبّه : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا .

وقال السُّدِّي : أرسل الله إليهم اثني عشر ألف نبي ، والله {[24256]} أعلم .

وقوله : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } : قيل : المراد بالعرم المياه . وقيل : الوادي . وقيل : الجُرَذ . وقيل : الماء الغزير . فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته ، مثل : " مسجد الجامع " . و " سعيد كُرْز " حكى ذلك السهيلي . {[24257]}

وذكر غير واحد منهم ابن عباس ، ووهب بن منبه ، وقتادة ، والضحاك ؛ أن الله ، عز وجل ، لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم ، بعث على السد دابة من الأرض ، يقال لها : " الجُرَذ " نقبته - قال وهب بن منبه : وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجُرَذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمان ، فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير ، وولجت إلى السَّدّ فنقبته ، فانهار عليهم .

وقال قتادة وغيره : الجُرَذ : هو الخَلْد ، نقبت أسافله حتى إذا ضَعف ووَهَى ، وجاءت أيام السيول ، صَدمَ الماءُ البناءَ فسقط ، فانساب الماء في أسفل{[24258]} الوادي ، وخرّبَ ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك ، ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال ، فيبست وتحطمت ، وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة ، كما قال الله وتعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } .

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وعطاء الخُرَاساني ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي : وهو الأراك ، وأكلة البَرير .

{ وَأَثْل } : قال العوفي ، عن ابن عباس : هو الطَّرْفاء .

وقال غيره : هو شجر يشبه الطرفاء . وقيل : هو السّمُر . فالله أعلم .

وقوله : { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } : لما كان أجودَ هذه الأشجار المبدل بها هو السّدْر قال : { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } ، فهذا الذي صار أمر تَيْنك{[24259]} الجنتين إليه ، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة ، والظلال العميقة والأنهار الجارية ، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسّدْر ذي الشوك الكثير والثمر القليل . وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله ، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا{[24260]} وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ }


[24256]:- في ت ، س: "فالله".
[24257]:- الروض الأنف (1/15).
[24258]:- في ت: "أصل".
[24259]:- في ت ، أ: "تللك".
[24260]:- في ت: "بكفرهم" وهو خطأ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ} (16)

وبعث إليهم فيما روي ثلاثة عشر نبياً فكفروا بهم وأعرضوا ، فبعث الله تعالى على ذلك السد جرداً أعمى توالد فيه وخرقه شيئاً بعد شيء وأرسل سيلاً في ذلك الوادي ، فيحتمل ذلك السد ، فيروى أنه كان من العظم وكثرة الماء بحث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار ، ويروى أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه ، وروي أنه صرف الماء من موضعه الذي كان فيه أولاً فتعطل سقي الجنات ، واختلف الناس في لفظة { العرم } فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة : { العرم } في لغة اليمن : جمع عرمة : وهو كل ما بني أو سنم{[9632]} ليمسك الماء ويقال ذلك بلغة أهل الحجاز المسناة .

قال الفقيه الإمام القاضي : كأنها الجسور{[9633]} والسداد{[9634]} ونحوها ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :

وفي ذلك للمتأسي أسوة ومآرب . . . عفا عليها العرم

رخام بناه لهم حمير . . . إذا جاءه موارة لم يرم{[9635]}

ومنه قول الآخر :

ومن سبأ الحاضرين مأرب إذ . . . يبنون من دون سيله العرما{[9636]}

وقال ابن عباس وقتادة الضحاك { العرم } اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني له ، وقال ابن عباس أيضاً إن سيل ذلك الوادي أبداً يصل إلى مكة وينتفع به ، وقال ابن عباس أيضاً { العرم } الشديد .

قال الفقيه الإمام القاضي : فكأنه صفة للسيل من العرامة ، والإضافة إلى الصفة مبالغة وهي كثيرة في كلام العرب ، وقالت فرقة { العرم } اسم الجرذ .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف ، وقيل { العرم } اسم المطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل ، وقوله { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } قول فيه تجوز واستعارة وذلك أن البدل من «الخمط والأثل » لم يكن جنات ، لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوباً جيداً وضرب ظهره هذا الضرب ثوب صالح لك ونحو هذا ، وقوله { ذواتي } تثنية ذات ، و «الخمط » شجر الأراك قاله ابن عباس وغيره ، وقيل «الخمط » كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حمضة أو نحوه ، ومنه تخمط اللبن إذا تغير طعمه ، و «الأثل » ضرب من الطرفاء هذا هو الصحيح ، وكذا قال أبو حنيفة في كتاب النبات ، قال الطبري وقيل هو شجر شبيه بالطرفاء وقيل إنه السمر ، و «السدر » معروف وهو له نبق شبه العناب لكنه في الطعم دونه بكثير ، وللخمط ثمر غث هو البريد ، وللأثل ثم قليل الغناء غير حسن الطعم ، وقرأ ابن كثير ونافع «أكْل » بضم الهمزة وسكون الكاف ، وقرأ الباقون بضم الهمزة وضم الكاف ، وروي أيضاً عن أبي عمرو سكون الكاف وهما بمعنى الجنى والثمر ، ومنه قوله تعالى

{ تؤتي أكلها كل حين }{[9637]} [ إبراهيم : 25 ] أي جناها ، وقرأ جمهور القراء بتنوين «أكل » وصفته [ خمط ] وما بعده ، قال أبو علي : البدل في هذا لا يحسن لأن ­الخمط­ ليس بالأكل و­الأكل­ ليس بالخمط نفسه والصفة أيضاً كذلك ، لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها ، ويحسن قراءة الجمهور أن هذا الاسم قد جاء بمجيء الصفات في قول الهذلي [ الطويل ]

عقار كماء الني ليس بخمطة . . . ولا خلة يكوي الشروب شهابها{[9638]}

وقرأ أبو عمرو بإضافة «أكلِ » إلى «خمطٍ » وبضم كاف «أكلُ خمطٍ » ، ورجع أبو علي قراءة الإضافة .


[9632]:سنِم الشيء: ارتفع على وجه الأرض، فهو سنم، وهي سنِمة، ومنه: سنِم البعير بمعنى: عظم سَنَامه.
[9633]:قال النحاس: المُسنّاة: هي التي يسميها أهل مضر الجسر.
[9634]:السِّداد: ما سددت به خللا، ويقال: سِداد القارورة: لما يسد فمها.
[9635]:هما من قصيدة قالها الأعشى يمدح قيس بن معد يكرب، والإشارة بقوله:(ففي ذلك) إلى الموت في البيت قبلهما: وللموت خير لمن ناله إذا المرء أمته لم تدم والرواية في الديوان:(ومأرب قفى) بدلا من(عفى)، والموّار: المضطرب المتحرك، وفي الديوان:(إذا جاء ماؤهم)، وفسر أبو عبيدة قوله:(لم يرم) فقال: أي حبسه. وبعد البيتين يقول: فأروى الزروع وأعنابها على سعة ماؤهم إذ قسم فعاشوا بذلك في غبطة فجار بهم جارف منهزم
[9636]:البيت في(اللسان-سبأ) غير منسوب، قال:"وكان أبو عمرو يقرأ:(لسبأ)، قال: من سبأ...البيت"، فهو شاهد على أن (سبأ) يترك صرفه على إرادة القبيلة، كما انه يصرف على إرادة الحي كما قال ابن عطية، وشاهده: أضحت ينفرها الولدان من سبأ كأنهم تحت دفيها دحاريج
[9637]:من الآية(25) من سورة (إبراهيم).
[9638]:البيت في (اللسان-خلل)، والعُقار: التي تعاقر العقل أو الدن، أي: بقي منها بقية في أسفل الدن لطول مر السنين عليها، وماء النيء: ما قطر من اللحم، يريد: هي في لونه وصفائه، والخمطة: التي أخذت طعم الإدراك ولم تدرك، والخلة: الحامضة، ولا خلة: في مجاوزة القدر، يعني لم تخرج من حال الخمر إلى حال الحموضة والخل، يقول: هي في لون ماء اللحم الذي لم ينضج بعد، وليست كالخمطة التي لم تدرك بعد، ولا كالخلة التي جاوزت القدر فصارت خلا، فليس يكوى الشروب شهابها، أي: لا يؤذيهم ما فيها من حذة ونار، والشُّروب: جمع شرب وهم الندامى.