والمقصود بالتلاوة فى قوله - تعالى - : { اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } : القراءة المصحوبة بضبط الألفاظ ، وبتفهم المعانى . والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كل من آمن به . أى : اقرأ - أيها الرسول الكريم - ما أوحينا إليك من آيات هذا القرآن قراءة تدبر واعتبار واتعاظ ، ودوام على ذلك ، ومر أتباعك أن يقتدوا بك فى المواظبة على هذه القراءة الصحيحة النافعة .
{ وَأَقِمِ الصلاة } أى : وواظب على إقامة الصلاة فى أوقاتها بخشوع وإخلاص واطمئنان ، وعلى المؤمنين أن يقتدوا لك فى ذلك .
وقوله : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } تعليل للأمر بالمحافظة على إقامة الصلاة بخشوع وإخلاص . أى : دوام - أيها الرسول الكريم - على إقامة الصلاة بالطريقة التى يحبها الله - تعالى - ، فإن من شأن الصلاة التى يؤديها المسلم فى أوقاتها بشخوع وإخلاص ، أن تنهى مؤديها عن ارتكاب الفحشاء - وهى كل ما قبح قوله وفعله - ، وعن المنكر - وهو كل ما تنكره الشرائع والعقول السليمة - .
قال الجمل : " ومعنى نهيها عنهما ، أنها سبب الانتهاء عنها لأنها مناجاة لله - تعالى - ، فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته ، وإعراض كل عن معاصيه .
قال ابن مسعود : فى الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصى الله ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تنهه عن المنكر ، لم يزدد من الله إلا بعداً . .
وروى عن أنس - رضى الله عنه - أن فتى من الأنصار ، كان يصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم ثم يأتى الفواحش ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم - فقال : إن صلاته ستناه ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله .
والخلاصة : أن من شأن الصلاة المصحوبة بالإِخلاص والخشوع وبإتمام سنننها وآدابها ، أن تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فإن وجدت إنساناً يؤدى الصلاة ، ولكنه مع ذلك يرتكب بعض المعاصى ، فأقول لك : إن الذنب ليس ذنب الصلاة ، وإنما الذنب ذنبه ذا المرتكب للمعاصى ، لأنه لم يؤد الصلاة أداء مصحوباً بالخشوع والإِخلاص .
. . . وإنما أداها دون أن يتأثر بها قلبه . . ولعلها تنهاه فى يوم من الأيام ببركة مداومته عليها ، كما جاء فى الحديث الشريف : " إن الصلاة ستنهاه " .
وقوله - سبحانه - : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } أى : ولذكر الله - تعالى - بجميع أنواعه من تسبيح وتحميد وتكبير وغير ذلك من ألوان العبادة والذكر ، أفضل وأكبر من كل شئ آخر ، لأن هذا الذكر لله - تعالى - فى كل الأحوال ، دليل على صدق الإِيمان ، وحسن الصلة بالله - تعالى - .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } ، قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر . . أى : ولذكر الله - تعالى - إياكم ، أكبر من ذكركم إياه - سبحانه - . .
وروى عن جماعة من السلف أن المعنى : ولذرك العبد لله - تعالى - ، أكبر من سائر الأعمال .
أخرج الإِمام أحمد عن معاذ بن جبل قال : ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله يوم القيامة ، من ذكر الله - تعالى - .
وقيل : المراد بذكر الله : الصلاة . كما فى قوله - تعالى - : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } أى : إلى الصلاة ، فيكون المعنى : وللصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبر عنها به ، للإِيذان بأن ما فيها من ذكر الله - تعالى - هو العمدة فى كونها مفضلة على الحسنات ، نهاية عن السيئات .
ويبدو لنا أن المراد بذكر الله - تعالى - هنا : ما يشمل كل قول طيب وكل فعل صالح ، يأتيه المسلم بإخلاص وخشوع ، وعلى رأس هذه الأقوال والأفعال : التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل ، والصلاة وما اشتملت عليه من أقوال وأفعال . .
وأن المسلم متى أكثر من ذكر الله - تعالى - ، كان ثوابه - سبحانه - له ، وثناؤه عليه ، أكبر وأعظم من كل قول ومن كل فعل .
وقوله - سبحانه - : { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } تذييل قصد به الترغيب فى إخلاص العبادة لله ، والتحذير من الرياء فيها .
أى : داوموا - أيها المؤمنون . على تلاوة القرآن الكريم ، بتدبر واعتبار ، وأقيموا الصلاة فى أوقاتها بخشوع وخضوع ، وأكثروا من ذكر الله - تعالى - فى كل أحوالكم ، فإن الله - تعالى - يعلم ما تفعلونه وما تصنعونه من خير أو شر ، وسيجازى - سبحانه - الذين آساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى
وفي نهاية الشوط يربط الكتاب الذي أنزل على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ويربط الصلاة وذكر الله ، بالحق الذي في السماوات والأرض ، وبسلسلة الدعوة إلى الله من لدن نوح عليه السلام :
( اتل ما أوحي إليك من الكتاب ، وأقم الصلاة ، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) . .
اتل ما أوحي إليك من الكتاب فهو وسيلتك للدعوة ، والآية الربانية المصاحبة لها ، والحق المرتبط بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض .
وأقم الصلاة إن الصلاة - حين تقام - تنهى عن الفحشاء والمنكر . فهي اتصال بالله يخجل صاحبه ويستحيي أن يصطحب معه كبائر الذنوب وفواحشها ليلقى الله بها ، وهي تطهر وتجرد لا يتسق معها دنس الفحشاء والمنكر وثقلتهما . " من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا " . وما أقام الصلاة كما هي إنما أداها أداء ولم يقمها . . وفرق كبير بينهما . . فهي حين تقام ذكر لله . ( ولذكر الله أكبر ) . أكبر إطلاقا أكبر من كل اندفاع ومن كل نزوع . وأكبر من كل تعبد وخشوع .
فلا يخفى عليه شيء ، ولا يلتبس عليه أمر . وأنتم إليه راجعون . فمجازيكم بما تصنعون . .
ثم قال تعالى آمرا رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن ، وهو قراءته وإبلاغه للناس : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } يعني : أن الصلاة تشتمل على شيئين : على ترك الفواحش والمنكرات ، أي : إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك . وقد جاء في الحديث من رواية عمران ، وابن عباس مرفوعا : " مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم تزده من الله إلا بعدا " {[22599]} .
[ ذكر الآثار الواردة في ذلك ]{[22600]} :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس ، حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد ، حدثنا عمر بن أبي عثمان ، حدثنا الحسن ، عن عمران بن حصين قال : سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قال : " مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فلا صلاة له " {[22601]} .
وحدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي حدثنا أبو معاوية ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بعدا " . ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية{[22602]} .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن العلاء بن المسيب ، عمن ذكره ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قال : فَمَنْ لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا . فهذا موقوف{[22603]} .
قال ابن جرير : وحدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا علي بن هاشم بن{[22604]} البريد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر " . قال : وقال سفيان : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] قال : فقال سفيان : أي والله ، تأمره وتنهاه . {[22605]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال أبو خالد مَرَّة : عن عبد الله - : " لا صلاة لِمَنْ لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة تنهاه{[22606]} عن الفحشاء والمنكر " {[22607]} .
والموقوف أصح ، كما رواه الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : قيل لعبد الله : إن فلانا يطيل الصلاة ؟ قال : إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها{[22608]} .
وقال ابن جرير : قال علي : حدثنا إسماعيل بن مسلم{[22609]} ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بُعْدا " {[22610]} .
والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن وقتادة ، والأعمش وغيرهم ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا جرير - يعني ابن عبد الحميد - عن الأعمش ، عن أبي صالح قال : أراه عن جابر - شك الأعمش - قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانا يصلي فإذا أصبح سرق ، قال : " سينهاه{[22611]} ما يقول " {[22612]} .
وحدثنا محمد بن موسى الحَرشي{[22613]} حدثنا زياد بن عبد الله ، عن الأعمش عن أبي صالح ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه - ولم يشك{[22614]} - ثم قال : وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن الأعمش واختلفوا في إسناده ، فرواه غير واحد عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أو غيره ، وقال قيس عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، وقال جرير وزياد : عن عبد الله ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن جابر .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش قال : أنبأنا أبو صالح{[22615]} عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق ؟ فقال : " إنه سينهاه ما يقول{[22616]}-{[22617]} " .
وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى ، وهو المطلوب الأكبر ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أي : أعظم من الأول ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } أي : يعلم جميع أقوالكم وأعمالكم .
وقال أبو العالية في قوله : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } ، قال : إن الصلاة فيها ثلاث خصال{[22618]} فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة : الإخلاص ، والخشية ، وذكر الله . فالإخلاص يأمره بالمعروف ، والخشية تنهاه عن المنكر ، وذكر القرآن يأمره وينهاه .
وقال ابن عَوْن الأنصاري : إذا كنت في صلاة فأنت في معروف ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر ، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر .
وقال حماد بن أبي سليمان : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } يعني : ما دمت فيها .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ، يقول : ولذكر الله لعباده أكبر ، إذا ذكروه من ذكرهم إياه .
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس . وبه قال مجاهد ، وغيره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن داود بن أبي هند ، عن رجل ، عن ابن عباس : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : ذكر الله عند طعامك وعند منامك . قلت : فإن صاحبًا لي في المنزل يقول غير الذي تقول : قال : وأي شيء يقول ؟ قلت : قال : يقول الله : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] ، فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه . قال : صدق .
قال : وحدثنا أبي ، حدثنا النفيلي ، حدثنا إسماعيل ، عن خالد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } قال : لها وجهان ، قال : ذكر الله عندما حرمه ، قال : وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدَّثنا هُشَيْم ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة قال : قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ؟ قال : قلت : نعم . قال : فما هو ؟ قلت : التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة ، وقراءة القرآن ، ونحو ذلك . قال : لقد قلت قولا عجبًا ، وما هو كذلك ، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه ، أكبر من ذكركم إياه{[22619]}
. وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس . وروي أيضا عن ابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وسلمان الفارسي ، وغيرهم . واختاره ابن جرير .
{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب } تقربا إلى الله تعالى بقراءته وتحفظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه ، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف به بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه . { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث إنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه . روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه ، فوصف له عليه السلام فقال : " إن صلاته ستنهاه " فلم يلبث أن تاب . { ولذكر الله اكبر } وللصلاة اكبر من سائر الطاعات ، وانما عبر عنها به للتعليل بأن اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات ، أو لذكر الله إياكم برحمته اكبر من ذكركم إياه بطاعته . { والله يعلم ما تصنعون } منه ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة .
ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره وتلاوة القرآن الذي أوحي إليه ، وإقامة الصلاة أي إدامتها والقيام بحدودها ثم أخبر حكماً منه { إن الصلاة تنهى } صاحبها وممتثلها { عن الفحشاء والمنكر } .
قال الفقيه الإمام القاضي : وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله تعلى وتوهم الوقوف بين يدي العظمة ، وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقو ب صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأعماله وانتهى عن الفحشاء والمنكر ، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله ، فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون ، وقد روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه فكلم في ذلك فقال : إني أقف بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك النيا فكيف مع ملك الملوك .
قال الفقيه الإمام القاضي : فهذه صلاة تنهى ولا بد الفحشاء والمنكر ، ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان ، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تركته الصلاة يتمادى على بعده وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعداً »{[9256]} وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غير صحيح السند ، سمعت أبي رضي الله عنه يقوله فإذا قررناه ونظرنا معناه فغير جائز أن نقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى كأنها معصية ، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله تعالى بل تتركه في حاله ومعاصيه من الفحشاء والمنكر تبعده ، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان بسبيله ، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله تعالى ، وقيل لابن مسعود إن فلاناً كثير الصلاة ، فقال : إنها لا تنفع إلا من أطاعها ، وقرأ الربيع بن أنس «إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر » ، وقال ابن عمر { الصلاة } ها هنا القرآن ، وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي : إن الصلاة تنهى ما دمت فيها .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذه عجمة وأنى هذا مما روى أنس بن مالك قال : كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئاً من الفواحش والسرقة إلا ركبه ، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «إن صلاته ستنهاه » فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألم أقل لكم » ؟ وقوله تعالى : { ولذكر الله أكبر } قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن مسعود وأبو قرة : معناه ، { ولذكر الله } إياكم { أكبر } من ذكركم إياه{[9257]} ، وقيل معناه { ولذكر الله أكبر } مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر ، قال ابن زيد وقتادة معناه { ولذكر الله أكبر } من كل شيء ، وقيل لسلمان أي الأعمال أفضل ؟ فقال : أما تقرأ القرآن { ولذكر الله أكبر } . ومنه حديث الموطأ عن أبي الدرداء «ألا أخبركم بخير أعمالكم ؟ » الحديث ، وقيل معناه { ولذكر الله } كبير كأنه يحض عليه في هذين التأويلين الأخيرين .
قال الفقيه الإمام القاضي : وعندي أن المعنى { ولذكر الله أكبر } على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر .
فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر مراقب ، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى كما في الحديث «ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه »{[9258]} ، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهي ، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله تعالى ، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى ، وذكر الله تعالى العبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه ، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه ، قال الله عز وجل { فاذكروني أذكركم }{[9259]} [ البقرة : 152 ] وباقي الآية ضرب من التوعد والحث على المراقبة .