التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

ثم صارحهم برفضه التام لما يتوهمونه من العودة إلى ملتهم فقال : { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } .

أى : قد اختلقنا على الله - تعالى - أشنع أنواع الكذب إن عدنا في ملتكم الباطلة بعد إذ نجانا الله بهدايتنا إلى الدين الحق وتنزيهنا عن الاشراك به - سبحانه - .

قال صاحب المنار : وهذا كلام مستأنف لبيان أهم الأمرين بالرفض والكراهية ، وهو إنشاء في صور الخبر . فإما أن يكون تأكيداً قسميا لرفض دعوة الملأ إياهم إلى العودة في ملتهم ، كما يقول القائل : برئت من الذمة إن فعلت كذا ، فيكون مقابلة لقسمهم بقسم أعرق منه في التوكيد وإما أن يكون تعجبا خرج لا على مقتضى الظاهر ، وأكد بقد والفعل الماضى ، والمعنى ما أعظم افتراءنا على الله - تعالى - إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وهدانا إلى صراطه المستقيم " .

ثم كرر هذا الرفض بأبلغ وجه فقال : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أى ما يصح لنا ولا يتأتى منا أن نعود في ملتكم الباطلة في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال أو في وقت مشيئة الله - المتصرف في جميع الشئون - عودتنا إليها ، فهو وحده القادر على ذلك ولا يقدر عليه غيره لا أنتم ولا نحن ، لأننا موقنون بأن ملتكم باطلة وملتنا هى الحق والموقن لا يستطيع إزالة يقينه ولا تغييره وإنما ذلك بيد مقلب القلوب ، الذي وسع علمه كل شىء .

وهذا اللون من الأدب العالى ، حكاه القرآن عن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في مخاطبتهم ، فأنت ترى أن شعيبا - عليه السلام - مع ثقته المطلقة في أنه لن يعود هو وأتباعه إلى ملة الكفر أبداً ، مع ذلك هو يفوض الأمر إلى الله تأدباً معه ، فلا يجزم بمشيئته هو ، بل يترك الأمر لله ، فقد يكون في علمه سبحانه ما يخفى على البشر ، مما تقتضيه حكمته وإرادته .

قال صاحب الانتصاف : " وموقع قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة ، والاطلاع على الأمور الغائبة ، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد : ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه . فالحذر قائم ، والخوف لازم ، ونظيره قول إبراهيم - عليه السلام - { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } لما رد الأمر إلى المشيئة وهى مغيبة ، مجد الله - تعالى - بالانفراد بعلم الغائبات " .

ثم يترك شعيب - عليه السلام - قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتوجه إلى الله بالاعتماد والدعاء فيقول : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } .

أى : على الله وحده وكلنا أمرنا ، فهو الذي يكفينا أمر تهديدكم ووعيدكم ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، ربنا احكم بيننا وبين قومنا الذين ظلمونا بالحق وأنت خير الحكامين ، لخلو حكمك عن الجور والحيف .

فقوله : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } إظهار للعجز من جانب شعيب ، وأنه في مواجهته لأولئك المستكبرين لا يعتمد إلا على الله وحده ، ولا يأوى إلا إلى ركنه المكين ، وحصنه الحصين . والجملة الكريمة تفيد الحصر لتقديم المعمول فيها .

وقوله : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا } إعراض عن مجادلتهم ومفاوضتهم بعد أن تبين لهم عنادهم وسفههم ، وإقبال على الله - تعالى - بالتضرع والدعاء .

والفتح : أصله إزالة الأغلاق عن الشىء ، واستعمل في الحكم ، لما فيه من إزالة الاشكال في الأمر . ومنه قيل للحاكم : فاتح وفتاح لفتحه أغلاق الحق ، وقيل للحكومة : الفتاحة - بضم الفاء وكسرها .

أخرج البيهقى عن ابن عباس قال : ما كنت أدرى قوله - تعالى - { رَبَّنَا افتح } حتى سمعت ابنة ذى يزن تقول لزوجها وقد جرى بينها وبينه كلام : تعال أفاتحك ، تريد أقاضيك وأحاكمك .

وقوله : { بالحق } بهذا القيد إظهارا للنصفة والعدالة .

والخلاصة أنك إذا تأملت في رد شعيب - عليه السلام - على ما قاله المستكبرون من قومه ، تراه يمثل اسمى ألوان الحكمة وحسن البيان ، فهو يرد على وعيدهم وتهديدهم بالرفض التام لما يبغون ، والبغض السافر لما يريدونه منه ، ثم يكل الأمور كلها إلى الله ، مظهرا الاعتماد عليه وحده ، ثم يتجه إليه - سبحانه - بالدعاء متلمسا منه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق الذي مضت به سنته في التنازع بين المرسلين والكافرين ، وبين سائر المحقين والمبطلين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

59

( قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ) . .

إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت و الجاهلية ، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة للّه وحده ، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون اللّه يقرون لهم بسلطان اللّه . . إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد إذ قسم اللّه له الخير وكشف له الطريق ، وهداه إلى الحق ، وأنقذه من العبودية للعبيد - إنما يؤدي شهادة كاذبة على اللّه ودينه . شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة اللّه خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت ! أو مؤداها - على الأقل - أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود ، وشرعية في السلطان ؛ وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان باللّه . فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن باللّه . . وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى ، ولم يرفع راية الإسلام . شهادة الاعتراف براية الطغيان . ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان اللّه في الحياة !

وكذلك يستنكر شعيب - عليه السلام - ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم اللّه منها :

( وما يكون لنا أن نعود فيها ) . .

وما من شأننا أصلاً ؛ وما ينبغي لنا قطعاً أن نعود فيها . . يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة ، التي تعلن خروجها عن سلطانه ، ودينونتها للّه وحده بلا شريك معه أو من دونه .

إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة للّه وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت ! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق ! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة ! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه " الإنسانية " لا توجد ، والإنسان عبد للإنسان - وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان ؟ ! . . وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به ، ورضاه أو غضبه عليه ؟ ! . . وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته ؟ ! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان ؟ !

على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة . . إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج . كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات . فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها ، فيذبحهم على مذبح هواه ، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه ! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية . . حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت ، سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار ! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار . . والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون اللّه . إنما يعيش في وهم ، أو يفقد الإحساس بالواقع !

إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال . . ومهما تكن تكاليف العبودية للّه ، فهيأربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة . فضلاً على وزنها في ميزان اللّه . .

يقول السيد أبو الأعلى المودودي في كتاب : " الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية " :

" . . . وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية ، لا يخفى عليه أن المسألة - التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها - إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها . وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه ، وأنه لا بد للركاب أن يسافروا - طوعاً أو كرهاً - إلى تلك الجهة نفسها . فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية . ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طراً ، ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمر ، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية ، وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم ، وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبونها ، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية ، وإنشاء النظام الجماعي ، وتحديد القيم الخلقية . فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون باللّه ويرجون حسابه . . فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح ، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم . وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها ، وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو . إن لم تمحق وتنقرض آثارها . وأما إذا كانت هذه السلطة - سلطة الزعامة والقيادة والإمامة - بأيدي رجال انحرفوا عن اللّه ورسوله ، واتبعوا الشهوات ، وانغمسوا في الفجور والطغيان ، فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء ، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها ، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها . . . "

. . . " والظاهر أن أول ما يطالب به دين اللّه عباده ، أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد ، حتى لا يبقى في اعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير اللّه تعالى . ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله اللّه تعالى ، وجاء به الرسول الأمي الكريم - [ ص ] - ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد ، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب اللّه تعالى وسخطه . وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال ؛ ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم ، يذكرون اللّه قابعين في زواياهم ، منقطعين عن الدنيا وشؤونها ، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات ! ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه . والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضي اللّه تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها . . ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة ، حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة - ولو قيد شعرة - وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم . وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق ، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض . وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية ، والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها ، يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد . . ثم انظروا إلى ما كسب " الجهاد " من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين ، حتى إنالقرآن ليحكم " بالنفاق " على الذين ينكلون عنه ويثاقلون إلى الأرض . ذلك أن " الجهاد " هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق ، ليس غير . وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين . وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن باللّه ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل ، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق . . فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب ، فاعلم أنه مدخول في إيمانه ، مرتاب في أمره ، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك ؟ " . . .

. . . " إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض اللّه لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام . فكل من يؤمن باللّه ورسوله ويدين دين الحق ، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام ، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب ، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون اللّه ، ويرجون حسابه ، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند اللّه الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها " . .

إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله للّه ، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد ؛ كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم . . إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت - تحت رايته - بكل ما فيها من تضحيات ؛ ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول ، كما أنها أذل وأحقر ! . . إنه يدعوهم للكرامة ، وللسلامة ، في آن . .

لذلك قالها شعيب عليه السلام مدوية حاسمة :

( قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها )

ولكن شعيباً بقدر ما يرفع رأسه ، وبقدر ما يرفع صوته ، في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه . . بقدر ما يخفض هامته ، ويسلم وجهه في مواجهة ربه الجليل ، الذي وسع كل شيء علماً . فهو في مواجهة ربه ، لا يتألى عليه ولا يجزم بشيء أمام قدره ، ويدع له قياده وزمامه ، ويعلن خضوعه واستسلامه :

( إلا أن يشاء اللّه ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً ) . .

إنه يفوض الأمر للّه ربه ، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه . . إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت ، من العودة في ملتهم ؛ ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة ؛ ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته . . ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة اللّه به وبهم . . فالأمر موكول إلى هذه المشيئة ، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون ، وربهم وسع كل شيء علماً . فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم .

إنه أدب ولي اللّه مع اللّه . الأدب الذي يلتزم به أمره ، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره . ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه .

وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق ، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق :

( على اللّه توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق . وأنت خير الفاتحين ) . .

وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر : مشهد تجلي حقيقة " الألوهية " في نفس ولي اللّه ونبيه . .

إنه يعرف مصدر القوة ، وملجأ الأمان . ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان . ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه ، والتي ليس منها مفر . إلا بفتح من ربه ونصر .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه ، فقد أعظمنا الفِرْية على الله في جعل الشركاء معه أندادًا . وهذا تعبير منه عن أتباعه . { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا } وهذا ردّ إلى المشيئة ، فإنه يعلم كل شيء ، وقد أحاط بكل شيء علمًا ، { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } أي : في أمورنا ما نأتي منها وما نذر { رَبَّنَا افْتَحْ{[11968]} بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } أي : افصل بيننا وبين قومنا ، وانصرنا عليهم ، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } أي : خير الحاكمين ، فإنك العادل الذي لا يجور أبدًا .


[11968]:في ك، م: "احكم".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

{ قد افترينا على الله كذبا } قد اختلقنا عليه . { إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجانا الله منها } شرط جوابه محذوف دليله : { قد افترينا } وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة ، وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد اقتربنا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها حيث نزعم أن لله تعالى ندا ، وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم عليه حق . وقيل إنه جواب قسم وتقديره : والله لقد افترينا . { وما يكون لنا } وما يصح لنا . { أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } خذلاننا وارتدادنا ، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله . وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون . { وسع ربنا كل شيء علما } أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم . { على الله توكّلنا } في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار . { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } احكم بيننا وبينهم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة . أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه . { وأنت خير الفاتحين } على المعنيين .