ثم صارحهم برفضه التام لما يتوهمونه من العودة إلى ملتهم فقال : { قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } .
أى : قد اختلقنا على الله - تعالى - أشنع أنواع الكذب إن عدنا في ملتكم الباطلة بعد إذ نجانا الله بهدايتنا إلى الدين الحق وتنزيهنا عن الاشراك به - سبحانه - .
قال صاحب المنار : وهذا كلام مستأنف لبيان أهم الأمرين بالرفض والكراهية ، وهو إنشاء في صور الخبر . فإما أن يكون تأكيداً قسميا لرفض دعوة الملأ إياهم إلى العودة في ملتهم ، كما يقول القائل : برئت من الذمة إن فعلت كذا ، فيكون مقابلة لقسمهم بقسم أعرق منه في التوكيد وإما أن يكون تعجبا خرج لا على مقتضى الظاهر ، وأكد بقد والفعل الماضى ، والمعنى ما أعظم افتراءنا على الله - تعالى - إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وهدانا إلى صراطه المستقيم " .
ثم كرر هذا الرفض بأبلغ وجه فقال : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أى ما يصح لنا ولا يتأتى منا أن نعود في ملتكم الباطلة في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال أو في وقت مشيئة الله - المتصرف في جميع الشئون - عودتنا إليها ، فهو وحده القادر على ذلك ولا يقدر عليه غيره لا أنتم ولا نحن ، لأننا موقنون بأن ملتكم باطلة وملتنا هى الحق والموقن لا يستطيع إزالة يقينه ولا تغييره وإنما ذلك بيد مقلب القلوب ، الذي وسع علمه كل شىء .
وهذا اللون من الأدب العالى ، حكاه القرآن عن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في مخاطبتهم ، فأنت ترى أن شعيبا - عليه السلام - مع ثقته المطلقة في أنه لن يعود هو وأتباعه إلى ملة الكفر أبداً ، مع ذلك هو يفوض الأمر إلى الله تأدباً معه ، فلا يجزم بمشيئته هو ، بل يترك الأمر لله ، فقد يكون في علمه سبحانه ما يخفى على البشر ، مما تقتضيه حكمته وإرادته .
قال صاحب الانتصاف : " وموقع قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة ، والاطلاع على الأمور الغائبة ، فإن العود إلى الكفر جائز في قدرة الله أن يقع من العبد : ولو وقع فبقدرة الله ومشيئته المغيبة عن خلقه . فالحذر قائم ، والخوف لازم ، ونظيره قول إبراهيم - عليه السلام - { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } لما رد الأمر إلى المشيئة وهى مغيبة ، مجد الله - تعالى - بالانفراد بعلم الغائبات " .
ثم يترك شعيب - عليه السلام - قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتوجه إلى الله بالاعتماد والدعاء فيقول : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } .
أى : على الله وحده وكلنا أمرنا ، فهو الذي يكفينا أمر تهديدكم ووعيدكم ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، ربنا احكم بيننا وبين قومنا الذين ظلمونا بالحق وأنت خير الحكامين ، لخلو حكمك عن الجور والحيف .
فقوله : { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } إظهار للعجز من جانب شعيب ، وأنه في مواجهته لأولئك المستكبرين لا يعتمد إلا على الله وحده ، ولا يأوى إلا إلى ركنه المكين ، وحصنه الحصين . والجملة الكريمة تفيد الحصر لتقديم المعمول فيها .
وقوله : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا } إعراض عن مجادلتهم ومفاوضتهم بعد أن تبين لهم عنادهم وسفههم ، وإقبال على الله - تعالى - بالتضرع والدعاء .
والفتح : أصله إزالة الأغلاق عن الشىء ، واستعمل في الحكم ، لما فيه من إزالة الاشكال في الأمر . ومنه قيل للحاكم : فاتح وفتاح لفتحه أغلاق الحق ، وقيل للحكومة : الفتاحة - بضم الفاء وكسرها .
أخرج البيهقى عن ابن عباس قال : ما كنت أدرى قوله - تعالى - { رَبَّنَا افتح } حتى سمعت ابنة ذى يزن تقول لزوجها وقد جرى بينها وبينه كلام : تعال أفاتحك ، تريد أقاضيك وأحاكمك .
وقوله : { بالحق } بهذا القيد إظهارا للنصفة والعدالة .
والخلاصة أنك إذا تأملت في رد شعيب - عليه السلام - على ما قاله المستكبرون من قومه ، تراه يمثل اسمى ألوان الحكمة وحسن البيان ، فهو يرد على وعيدهم وتهديدهم بالرفض التام لما يبغون ، والبغض السافر لما يريدونه منه ، ثم يكل الأمور كلها إلى الله ، مظهرا الاعتماد عليه وحده ، ثم يتجه إليه - سبحانه - بالدعاء متلمسا منه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق الذي مضت به سنته في التنازع بين المرسلين والكافرين ، وبين سائر المحقين والمبطلين .
( قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ) . .
إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت و الجاهلية ، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة للّه وحده ، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون اللّه يقرون لهم بسلطان اللّه . . إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد إذ قسم اللّه له الخير وكشف له الطريق ، وهداه إلى الحق ، وأنقذه من العبودية للعبيد - إنما يؤدي شهادة كاذبة على اللّه ودينه . شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة اللّه خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت ! أو مؤداها - على الأقل - أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود ، وشرعية في السلطان ؛ وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان باللّه . فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن باللّه . . وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى ، ولم يرفع راية الإسلام . شهادة الاعتراف براية الطغيان . ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان اللّه في الحياة !
وكذلك يستنكر شعيب - عليه السلام - ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم اللّه منها :
( وما يكون لنا أن نعود فيها ) . .
وما من شأننا أصلاً ؛ وما ينبغي لنا قطعاً أن نعود فيها . . يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة ، التي تعلن خروجها عن سلطانه ، ودينونتها للّه وحده بلا شريك معه أو من دونه .
إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة للّه وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت ! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق ! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة ! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه " الإنسانية " لا توجد ، والإنسان عبد للإنسان - وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان ؟ ! . . وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به ، ورضاه أو غضبه عليه ؟ ! . . وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته ؟ ! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان ؟ !
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة . . إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج . كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات . فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها ، فيذبحهم على مذبح هواه ، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه ! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية . . حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت ، سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار ! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار . . والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون اللّه . إنما يعيش في وهم ، أو يفقد الإحساس بالواقع !
إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال . . ومهما تكن تكاليف العبودية للّه ، فهيأربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة . فضلاً على وزنها في ميزان اللّه . .
يقول السيد أبو الأعلى المودودي في كتاب : " الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية " :
" . . . وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية ، لا يخفى عليه أن المسألة - التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها - إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها . وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه ، وأنه لا بد للركاب أن يسافروا - طوعاً أو كرهاً - إلى تلك الجهة نفسها . فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية . ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طراً ، ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمر ، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية ، وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم ، وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبونها ، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية ، وإنشاء النظام الجماعي ، وتحديد القيم الخلقية . فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون باللّه ويرجون حسابه . . فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح ، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم . وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها ، وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو . إن لم تمحق وتنقرض آثارها . وأما إذا كانت هذه السلطة - سلطة الزعامة والقيادة والإمامة - بأيدي رجال انحرفوا عن اللّه ورسوله ، واتبعوا الشهوات ، وانغمسوا في الفجور والطغيان ، فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء ، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها ، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها . . . "
. . . " والظاهر أن أول ما يطالب به دين اللّه عباده ، أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد ، حتى لا يبقى في اعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير اللّه تعالى . ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله اللّه تعالى ، وجاء به الرسول الأمي الكريم - [ ص ] - ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد ، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب اللّه تعالى وسخطه . وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال ؛ ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم ، يذكرون اللّه قابعين في زواياهم ، منقطعين عن الدنيا وشؤونها ، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات ! ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه . والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضي اللّه تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها . . ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة ، حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة - ولو قيد شعرة - وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم . وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق ، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض . وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية ، والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها ، يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد . . ثم انظروا إلى ما كسب " الجهاد " من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين ، حتى إنالقرآن ليحكم " بالنفاق " على الذين ينكلون عنه ويثاقلون إلى الأرض . ذلك أن " الجهاد " هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق ، ليس غير . وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين . وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن باللّه ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل ، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق . . فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب ، فاعلم أنه مدخول في إيمانه ، مرتاب في أمره ، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك ؟ " . . .
. . . " إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض اللّه لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام . فكل من يؤمن باللّه ورسوله ويدين دين الحق ، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام ، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب ، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون اللّه ، ويرجون حسابه ، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند اللّه الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها " . .
إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله للّه ، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد ؛ كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم . . إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت - تحت رايته - بكل ما فيها من تضحيات ؛ ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول ، كما أنها أذل وأحقر ! . . إنه يدعوهم للكرامة ، وللسلامة ، في آن . .
لذلك قالها شعيب عليه السلام مدوية حاسمة :
( قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها )
ولكن شعيباً بقدر ما يرفع رأسه ، وبقدر ما يرفع صوته ، في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه . . بقدر ما يخفض هامته ، ويسلم وجهه في مواجهة ربه الجليل ، الذي وسع كل شيء علماً . فهو في مواجهة ربه ، لا يتألى عليه ولا يجزم بشيء أمام قدره ، ويدع له قياده وزمامه ، ويعلن خضوعه واستسلامه :
( إلا أن يشاء اللّه ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً ) . .
إنه يفوض الأمر للّه ربه ، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه . . إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت ، من العودة في ملتهم ؛ ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة ؛ ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته . . ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة اللّه به وبهم . . فالأمر موكول إلى هذه المشيئة ، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون ، وربهم وسع كل شيء علماً . فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم .
إنه أدب ولي اللّه مع اللّه . الأدب الذي يلتزم به أمره ، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره . ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه .
وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم ، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق ، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق :
( على اللّه توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق . وأنت خير الفاتحين ) . .
وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر : مشهد تجلي حقيقة " الألوهية " في نفس ولي اللّه ونبيه . .
إنه يعرف مصدر القوة ، وملجأ الأمان . ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان . ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه ، والتي ليس منها مفر . إلا بفتح من ربه ونصر .
فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه ، فقد أعظمنا الفِرْية على الله في جعل الشركاء معه أندادًا . وهذا تعبير منه عن أتباعه . { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا } وهذا ردّ إلى المشيئة ، فإنه يعلم كل شيء ، وقد أحاط بكل شيء علمًا ، { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } أي : في أمورنا ما نأتي منها وما نذر { رَبَّنَا افْتَحْ{[11968]} بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } أي : افصل بيننا وبين قومنا ، وانصرنا عليهم ، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } أي : خير الحاكمين ، فإنك العادل الذي لا يجور أبدًا .
{ قد افترينا على الله كذبا } قد اختلقنا عليه . { إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجانا الله منها } شرط جوابه محذوف دليله : { قد افترينا } وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة ، وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد اقتربنا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها حيث نزعم أن لله تعالى ندا ، وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم عليه حق . وقيل إنه جواب قسم وتقديره : والله لقد افترينا . { وما يكون لنا } وما يصح لنا . { أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } خذلاننا وارتدادنا ، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله . وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون . { وسع ربنا كل شيء علما } أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم . { على الله توكّلنا } في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار . { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } احكم بيننا وبينهم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة . أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه . { وأنت خير الفاتحين } على المعنيين .