التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

ثم بين - سبحانه - ما حدث لموسى عندما اقترب من النار فقال : { فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا . . } و { أَن } هنا مفسرة ، لما فى النداء من معنى القول .

وقوله : { بُورِكَ } من البركة ، بمعنى ثبوت الخير وكثرته . والخير هنا يتمثل فى تكليم الله - تعالى - لنبيه موسى . وفى ندائه له . وتشريفه برسالته ، وتأييده بالمعجزات .

والمراد بمن فى النار : من هو قريب منها ، وهو موسى - عليه السلام - .

والمراد بمن حولها : الملائكة الحاضرون لهذا النداء ، أو الأماكن المجاورة لها .

أى : فلما وصل موسى - عليه السلام - إلى القرب من مكان النار ، نودى موسى من قبل الله - عز وجل - على سبيل التكريم والتحية : أن قُدس وطهر واختير للرسالة من هو بالقرب منها وهو موسى - عليه السلام - ومن حولها من الملائكة ، أو الأماكن القريبة منها .

قال الآلوسى : " قوله : { مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } ذهب جماعة إلى أن فى الكلام مضافا مقدراً فى موضعين . أى : من فى مكان النار ، ومن حول مكانها قالوا : ومكانها البقعة التى حصلت فيها ، وهى البقعة المباركة ، المذكورة فى قوله - تعالى - : { فَلَمَّآ أَتَاهَا } أى : النار - { نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة . . } وقيل : من فى النار : موسى - عليه السلام - ، ومن حولها : الملائكة الحاضرون . . . وقيل الأول الملائكة ، والثانى موسى ، واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازاً عن القرب التام . . . وأيا ما كان فالمراد بذلك بشارة موسى - عليه السلام - " .

وقال الشوكانى : " ومذهب المفسرين أن المراد بالنار - هنا - النور " .

وقوله - تعالى - : { وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين } من تتمة النداء ، وخبر منه - تعالى - لموسى بالتنزيه . لئلا يتوهم من سماع كلامه - تعالى - التشبيه بما للبشر من كلام .

أى : وتنزه الله - عز وجل - وتقدس رب العالمين عن كل سوء ونقص ومماثلة للحوادث .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

ومضى موسى - عليه السلام - إلى النار التي آنسها ، ينشد خبرا ، فإذا هو يتلقى النداء الأسمى :

( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها . وسبحان الله رب العالمين . يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ) . .

إنه النداء الذي يتجاوب به الكون كله ، وتتصل به العوالم والأفلاك ؛ ويخشع له الوجود كله وترتعش له الضمائر والأرواح . النداء الذي تتصل فيه السماء بالأرض ، وتتلقى الذرة الصغيرة دعوة خالقها الكبير ، ويرتفع فيه الإنسان الفاني الضعيف إلى مقام المناجاة بفضل من الله .

( فلما جاءها نودي ) . . بهذا البناء للمجهول - وهو معلوم - ولكنه التوقير والإجلال والتعظيم للمنادي العظيم .

( نودي أن بورك من في النار ومن حولها ) . .

فمن ذا كان في النار ? ومن ذا كان حولها ? إنها على الأرجح لم تكن نارا من هذه النار التي نوقدها . إنما كانت نارا مصدرها الملأ الأعلى . نارا أوقدتها الأرواح الطاهرة من ملائكة الله للهداية الكبرى . وتراءت كالنار وهذه الأرواح الطاهرة فيها . ومن ثم كان النداء : ( أن بورك من في النار )إيذانا بفيض من البركة العلوية على من في النار من الملائكة ومن حولها . . وفيمن حولها موسى . . وسجل الوجود كله هذه المنحة العليا . ومضت هذه البقعة في سجل الوجود مباركة مقدسة بتجلي ذي الجلال عليها ، وإذنه لها بالبركة الكبرى .

وسجل الوجود كله بقية النداء والنجاء : ( وسبحان الله رب العالمين . يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ) . .

نزه الله ذاته وأعلن ربوبيته للعالمين ، وكشف لعبده أن الذي يناديه هو الله العزيز الحكيم . وارتفعت البشرية كلها في شخض موسى - عليه السلام - إلى ذلك الأفق الوضيء الكريم . ووجد موسى الخبر عند النار التي آنسها ، ولكنه كان الخبر الهائل العظيم ؛ ووجد القبس الدافىء ، ولكنه كان القبس الذي يهدي إلى الصراط المستقيم .

وكان النداء للاصطفاء ؛ ووراء الاصطفاء التكليف بحمل الرسالة إلى أكبر الطغاة في الأرض فى ذلك الحين . ومن ثم جعل ربه يعده ويجهزه ويقويه :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

أي : فلما أتاها رأى{[21962]} منظرًا هائلا عظيمًا ، حيث انتهى إليها ، والنار تضطرم في شجرة خضراء ، لا تزداد النار إلا توقدًا ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء .

قال ابن عباس وغيره : لم تكن نارًا ، إنما كانت نورًا{[21963]} يَتَوَهَّج .

وفي رواية عن ابن عباس : نور رب العالمين . فوقف موسى متعجبًا مما رأى ، فنودي أن بورك من في النار . قال ابن عباس : [ أي ]{[21964]} قُدّس .

{ وَمَنْ حَوْلَهَا } أي : من الملائكة . قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - [ و ]{[21965]} هو الطيالسي - حدثنا شعبة والمسعودي ، عن عمرو بن مُرَّة ، سمع أبا عُبَيْدة يحدث ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل{[21966]} . زاد المسعودي : " وحجابه النور - أو النار - لو كشفها لأحْرَقَتْ سُبُحات وجهه كل شيء أدركه بصره " . ثم قرأ أبو عُبَيْدة : { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } {[21967]}

وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيح لمسلم ، من حديث عمرو بن مُرَّة ، به{[21968]} .

وقوله : { وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : الذي يفعل ما يشاء ولا يشبه شيئا من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العلي العظيم ، المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسموات ، بل هو الأحد الصمد ، المنزه عن مماثلة المحدثات .


[21962]:- في ف : "ورأى".
[21963]:- في ف : "وإنما نور".
[21964]:- زيادة من ف ، أ.
[21965]:- زيادة من ف ، أ.
[21966]:- في ف : "عمل الليل بالنهار وعمل النهار بالليل".
[21967]:- ورواه أحمد في مسنده (4/401) من طريق وكيع عن المسعودي بنحوه.
[21968]:- صحيح مسلم برقم (179).