التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة سبأ

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة [ سبأ ] هي السورة الرابعة والثلاثون في ترتيب المصحف ، أما في ترتيب النزول فهي السورة السابعة والخمسون ، وكان نزولها بعد سورة [ لقمان ] .

2- وسورة [ سبأ ] من السور المكية الخالصة ، وقيل هي مكية إلا الآية السادسة منها وهي قوله –تعالى- : [ ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ] .

3- وعدد آياتها خمس وخمسون آية في المصحف الشامي ، وأربع وخمسون آية في غيره . وسميت بهذا الاسم ، لاشتمالها على قصة أهل سبأ ، وما أصابهم من نقم بسبب عدم شكرهم لنعم الله –تعالى- عليهم .

4- وتبدأ سورة [ سبأ ] بالثناء على الله –تعالى- : [ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور ] .

ثم تحكي السورة الكريمة جانبا من أقوال الكافرين في تكذيبهم ليوم القيامة ، كما تحكي –أيضا- بعض أقوالهم الباطلة التي قالوها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ترد عليهم بما يخرس ألسنتهم .

5- ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب قصة داود وسليمان –عليهما السلام- ، فتحكي ما آتاهم الله –تعالى- إياه من خير وقوة وكيف أنهما قابلا نعم الله –تعالى- بالشكر والطاعة ، فزادهما –سبحانه- من فضله وعطائه : [ اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ] .

وكعادة القرآن الكريم في جمعه بين الترغيب والترهيب ، وبين حسن عاقبة الشاكرين ، وسوء عاقبة الجاحدين . . جاءت في أعقاب قصة داود وسليمان –عليهما السلام- ، قصة قبيلة سبأ ، وكيف أنهم قابلوا نعم الله الوفيرة بالجحود والإعراض ، فمحقها –سبحانه- من بين أيديهم ، كما قال –تعالى- : [ ذلك جزيناهم بما كفروا ، وهل نجازي إلا الكفور ] .

6- ثم ساقت السورة بعد ذلك بأسلوب تلقيني ألوانا من الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له .

نرى ذلك في قوله –تعالى- : [ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ، لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض . . ] .

وفي قوله –تعالى- : [ قل من يرزقكم من السموات والأرض ] .

وفي قوله –عز وجل- [ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء ، كلا بل هو الله العزيز الحكيم ] .

7- ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم [ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ] .

وعن أحوال الكافرين السيئة عندما يقفون أمام ربهم للحساب ، وكيف أن كل فريق منهم يلقى التبعة على غيره [ ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ، يرجع بعضهم إلى بعض القول ، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ، بل كنتم مجرمين ] .

8- ثم ترد السورة الكريمة على أولئك المترفين ، الذين زعموا أن أموالهم وأولادهم ستنفعهم يوم القيامة ، فتقرر أن ما ينفع يوم القيامة إنما هو الإيمان والعمل الصالح ، وأن الله –تعالى- هو صاحب الإعطاء والمنع والإغناء والإفقار .

قال –تعالى- : [ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ، إلا من آمن وعمل صالحا ، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ، وهم في الغرفات آمنون ] .

9- وبعد أن ساقت السورة ما ساقت من شبهات المشركين حول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وردت عليهم بما يزيد المؤمنين ثباتا على ثباتهم ، ويقينا على يقينهم ، أتبعت ذلك بدعوة هؤلاء الكافرين إلى التفكير والتدبر على انفراد ، في شأن دعوة هذا الرسول الكريم الذي يدعوهم إلى الحق ، لعل هذا التفكر يهديهم إلى الرشد .

قال –تعالى- : [ قل إنما أعظكم بواحدة ، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما يصاحبكم من جنة ، إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ] .

ثم ختمت السورة الكريمة بتهديدهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم وعنادهم ، وأنهم سيندمون –إذا ما استمروا على كفرهم- ولن ينفعهم الندم .

قال –تعالى- : [ وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل ، إنهم كانوا في شك مريب ] .

10- وهكذا نرى سورة سبأ قد ساقت أنواعا من الأدلة على وحدانية الله –تعالى- ، وعلى أن يوم القيامة حق ، وعلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه . . كما أنها حكت شبهات المشركين ، وردت عليهم بما يبطلها ، والحمد لله حمدا كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

كتبه الراجي عفو ربه

د . محمد سيد طنطاوي

افتتحت سورة ( سبأ ) بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل ، هو الله رب العالمين .

والحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الصدر عن اختيار من نعمة أو غيرها .

و ( أل ) فى الحمد للاستغراق ، بمعنى أن المستحق لجيمع المحامد ، ولكافة ألوان الثناء ، هو الله - تعالى - .

وإنما كان الحمد مقصورا فى الحقيقة عليه وحده - سبحانه - ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء ، فهو صادر عنه ، ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، هو فى الحقيقة حمد له - لأنه - سحبانه - هو الذى وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه .

وقد اختار - سبحانه - افتتاح هذه السورة بصفة الحمد ، دون المدح أو الشكر ، لأنه وسط بينهما ، إذ المدح أعم من الحمد ، لأن المدح يكون للعاقبل وغيره ، فقد يمدح الإِنسان لعقله ، وتمدح اللؤلؤة لجماها ، أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر عنه من إحسان .

والحمد أخص من الشكر ، لأن الشكر من أجل نعمه وصلت إليك أما الحمد فيكون من أجل نعمة وصلت إليك أو إلى غيرك .

وفى القرآن الكريم خمس سور اشتركت فى الافتتاح بقوله - تعالى - : { الحمد للَّهِ . . } وهى سورة الفاتحة ، والأنعام ، وسبأ وفاطر .

ولكن لكل سورة من هذه السور ، منهج خاص فى بيان أسباب الحمد لله - تعالى - وحده .

وقد أحسن القرطبى - رحمه الله - عندما قال : فإن قيل : قد افتتح غيرها أى : سورة الأنعام - بالحمد لله ، فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره ؟ فالجواب أن لكل واحد منه معنى فى موضعه ، لا يؤدى عن غيره ، من أجل عقده بالنعم المختلفة ، و - أيضا - فلما فيه من الحجة فى هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون .

والمعنى : الحمد الكامل الشامل لله - تعالى - وحده ، لأنه هو ، الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض ، خلقا وملكا وتصرفا ، بحيث لا يخرج شئ فيهما عن إرادته ومشيئته .

وقوله : وله الحمد فى الآخرة ، تنبيه إلى أن حمده - عز وجل - ليس مقصورا على الدنيا ، بل يشمل الدنيا والآخرة .

فالمؤمنون فى الدنيا على ما وهبهم من نعم الإِيمان والإِحسان ، ويحمدونه فى الآخرة على ما منحهم من جنة عرضها السماوات والأرض ، ويقولون : { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } قال صاحب الكشاف : ولما قال - سبحانه - : الحمد لله ، ثم وصف ذاته بالإِنعام بجميع النعم الدنيوية ، كان معناه : أنه المحمود على نعم الدنيا ، تقول : احمد أخاك الذى كساك وحملك ، تريد : احمده على كسوته وحملانه .

ولما قال : { وَلَهُ الحمد فِي الآخرة } علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب .

وقال الآلوسى : والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل ، أن الأول على نهج العبادة ، والثانى على وجه التلذذ والاغتباط وقد ورد فى الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس .

وقال الجمل : فإن قلت : الحمد مدح للنفس ، ومدحها مستقبح فيما بين الخلق ، فما وجه ذلك ؟

فالجواب : ان هذا المدح دليل على أن حاله - تعالى - بخلاف حال الخلق ، وأنه يحسن منه ما يقبح من الخلق ، وذلك يدل على أنه - تعالى - مقدس عن أن تقاس أفعاله ، على افعال العباد .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَهُوَ الحكيم الخبير } أى : وهو - تعالى - الذى أحكم أمور الدارين ، ودبرها بحكمته ، وهو العليم بظواهر عباده وبواطنهم ، لا يخفى عليه شئ من أحوالهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة سبأ مكية وآياتها أربع وخمسون

موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية : توحيد الله ، والإيمان بالوحي ، والاعتقاد بالبعث . وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية . وبيان أن الإيمان والعمل الصالح - لا الأموال ولا الأولاد - هما قوام الحكم والجزاء عند الله . وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه .

والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء ؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه . وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة ، وأساليب شتى ؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية .

فعن قضية البعث يقول : ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم ) . .

وعن قضية الجزاء يقول : ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) . .

وفي موضع آخر قريب في سياق السورة : ( وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ? أفترى على الله كذبا أم به جنة ? بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) .

ويورد عدة مشاهد للقيامة ، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها ، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به ، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد : ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول . يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ? بل كنتم مجرمين . وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً . وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .

وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب . وقالوا : آمنا به . وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ? وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل . إنهم كانوا في شك مريب .

وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . .

ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة : ( قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .

ويرد قرب ختام السورة : ( قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ) . .

وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله ( الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ) . .

ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله : ( قل : ادعوا الذين زعمتم من دون الله ، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، وما لهم فيهما من شرك ، وما له منهم من ظهير ) . .

وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة : ( ويوم يحشرهم جميعاًثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا : سبحانك ! أنت ولينا من دونهم . بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) .

وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ، حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .

وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له ، وعجزهم عن معرفة موته : ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .

وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله : ( وقال الذين كفروا : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) . . وقوله : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا : ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى ، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين ) . .

ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة : ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ) . . ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها : إنا بما أرسلتم به كافرون . وقالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين . قل : إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً ، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون . والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ) . .

ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض : قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله . وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون . وما وقع لهؤلاء وهؤلاء . وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد .

هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى ، تعرض في كل سورة في مجال كوني ، مصحوبة بمؤثرات منوعة ، جديدة على القلب في كل مرة . ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال ، ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة ، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب . وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة . وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة . وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة ، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة . وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري ، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود .

فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل ؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله ، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . . ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .

والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة : ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . .

والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى : ( ولاتنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق . وهو العلي الكبير ) . .

أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) . . . الخ .

والمكذبون لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم ، وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة : ( قل : إنما أعظكم بواحدة . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .

وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة ، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة . حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسلفنا . .

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة ؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط لتيسير عرضها وشرحها . وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً . . وهذا هو طابع السورة الذي يميزها . .

تبدأ السورة بالحمد لله ، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها ، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين ، عن علم دقيق . وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق . وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث ، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد ؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم . .

وبذلك ينتهي الشوط الأول .

فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته ، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله . غير متبطرين ولا مستكبرين ، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين ، ويستفتونهم في أمر الغيب . وهم لا يعلمون الغيب . وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون . . . وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر . قصة سبأ . وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه : ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ) . . وذلك أنهم اتبعوا الشيطان ، وما كان له عليهم من سلطان ، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين !

ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله . وهم ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ) . . وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله - ولو كانوا من الملائكة - فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق . . ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض . والله مالك السماوات والأرض ، وهو الذي يرزقهم بلا شريك . . ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله ، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون . . ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه ، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء . ( كلا بل هو الله العزيز الحكيم ) . .

والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة ، وموقفهم منها ، وموقف المترفين من كل دعوة ، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم ؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء ، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد . ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين . كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين . . ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل . وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى ، وليس بكاذب ولا مجنون . . ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة . وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية : قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب . قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد . قل : إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب . . وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف .

والآن نأخذ بعد هذا العرض الإجمالي في التفصيل . .

( الحمد لله ، الذي له ما في السماوات ، وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو الرحيم الغفور . . )

ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله ، وتكذيبهم لرسوله ، وشكهم في الآخرة ، واستبعادهم للبعث والنشور . ابتداء بالحمد لله . والله محمود لذاته - ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر - وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله .

ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض ؛ فليس لأحد معه شيء ، وما لأحد في السماوات والأرض من شرك ، فله - سبحانه - كل شيء فيهما . . وهذه هي القضية الأولى في العقيدة . قضية التوحيد . والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض .

( وله الحمد في الآخرة ) . . الحمد الذاتي . والحمد المرتفع من عباده . حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا ، أو يشركون معه غيره عن ضلالة ، تتكشف في الآخرة ، فيتمحض له الحمد والثناء .

( وهو الحكيم الخبير ) . . الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة ؛ ويصرف الدنيا والآخرة بحكمة ؛ ويدبر أمر الوجود كله بحكمة . . الخبير الذي يعلم بكل شيء ، وبكل أمر ، وبكل تدبير علماً كاملاً شاملاً عميقاً يحيط بالأمور .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سُورة سَبأ

وهي مكية .

بسم الله الرحمن الرحيم

يخبر تعالى عن نفسه الكريمة : أن له الحمدَ المطلق في الدنيا والآخرة ؛ لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة ، المالك لجميع ذلك ، الحاكم في جميع ذلك ، كما قال : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : الجميع ملكه وعبيده وتحت قهره وتصرفه ، كما قال : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى } [ الليل : 13 ] .

ثم قال : { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ } ، فهو المعبود{[24144]} أبدا ، المحمود على طول المدى . وقال : { وَهُوَ الْحَكِيمُ } أي : في أقواله وأفعاله وشرعه وقَدَره ، { الْخَبِيرُ } الذي لا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عنه شيء .

وقال مالك عن الزهري : خبير بخلقه ، حكيم بأمره ؛ ولهذا قال : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا }


[24144]:- زيادة من أ.