التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (167)

ثم بين - سبحانه - ما توعد به أولئك اليهود من عقوبات بسبب كفرهم وفسوقهم وإفسادهم في الأرض فقال - تعالى - : { وَإِذْ تَأَذَّنَ . . . } .

قوله { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } منصوب على المفعولية بمقدر معطوف على { وَسْئَلْهُمْ } أى : واذكر يا محمد لليهود وقت أن تأذن ربك .

وتأذن بمعنى آذن ، أى : أعلم . يقال : آذن الأمر وبالأمر أى : أعلمه . وأذن تأذيناً : أكثر الإعلام .

وأجرى مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله ، ولذلك جىء بلام القسم ونون التوكيد في جوابه وهو قوله - تعالى - " ليبعثن عليهم . . . إلخ " .

وقوله { إلى يَوْمِ القيامة } متعلق بقوله { لَيَبْعَثَنَّ } .

والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن أعلم الله - تعالى - هؤلاء اليهود وأسلافهم بأنهم إن غيروا وبدلوا ولم يؤمنوا بأنبيائهم ، ليسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم سوء العذاب كالإذلال وضرب الجزية وغير ذلك من صنوف العذاب إن ربك لسريع العقاب لمن أقام على الكفر ، وجانب طريق الحق ، وإنه لغفور رحيم لمن تاب وآمن وعمل صالحاً . وهذا من باب قرن الترغيب بالترهيب حتى لا ييأس العاصى من رحمة الله بسبب ذنوبه السابقة إذا هو أقبل على الله بالتوبة والعمل الصالح كما قال - تعالى - { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } ولقد يبدو للبعض أن هذا الوعيد لليهود قد توقف بسبب ما نرى لهم الآن من دولة وصولة ولكن الذي نعتقده أن هذا الوعيد ما توقف مع ما لهم من دولة ، فإنهم ما زالوا محل احتقار الناس وبغضهم ، وحتى الدول التي تناصرهم إنما تناصرهم لأن السياسة تقتضى ذلك بينما شعوب هذه الدول تكره أولئك اليهود وتزدريهم وتنفر منهم .

وما قامت لليهود تلك الدولة إلا لأن المسلمين قد فرطوا في حق خالقهم ، وفى حق أنفسهم ، ولم يأخذوا بالأسباب التي شرعها الله لهم لحرب أعدائهم فكانت النتيجة أن أقام اليهود دولة لهم في قلب البلاد الإسلامية وعندما يعود المسلمون إلى الأخذ التام الكامل بتعاليم دينهم وإلى مباشرة الأسباب التي شرعها الله مباشرة سليمة ، عندما يفعلون ذلك تعود إليهم عزتهم المسلوبة وكرامتهم المغصوبة .

وصدق الله إذ يقول : { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } هذا وقوله - تعالى - { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (167)

138

ثم كانت اللعنة الأبدية على الجميع - إلا الذين يؤمنون بالنبي الأمي ويتبعونه - بما انتهى إليه أمرهم بعد فترة من المعصية التي لا تنتهي ؛ وصدرت المشيئة الإلهية بالحكم الذي لا راد له ولا معقب عليه :

( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . إن ربك لسريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم ) . .

فهو إذن الأبد الذي تحقق منذ صدوره ؛ فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب . والذي سيظل نافذاً في عمومه ، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب . وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا ، جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة ، الناكثة العاصية ، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية ؛ ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف . .

ولقد يبدو أحياناً أن اللعنة قد توقفت ، وأن يهود قد عزت واستطالت ! وإن هي إلا فترة عارضة من فترات التاريخ . . ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة التالية ، وما بعدها إلى يوم القيامة . لقد تأذن الله بهذا الأمر الدائم إلى يوم القيامة - كما أخبر الله نبيه في قرآنه - معقباً على هذا الأمر بتقرير صفة الله سبحانه في العذاب والرحمة :

( إن ربك لسريع العقاب ، وإنه لغفور رحيم ) . .

فهو بسرعة عقابه يأخذ الذين حقت عليهم كلمته بالعذاب - كما أخذ القرية التي كانت حاضرة البحر - وهو بمغفرته ورحمته يقبل التوبة ممن يثوب من بني إسرائيل ، ممن يتبعون الرسول النبي الذي يجدونه مكتوباً عندهم ، في التوراة والإنجيل . . فليس عذابه - سبحانه - عن نقمة ولا إحنة . إنما هو الجزاء العادل لمن يستحقونه ، ووراءه المغفرة والرحمة . .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبۡعَثَنَّ عَلَيۡهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (167)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني جلّ ثناؤه بقوله:"وَإذْ تَأذّنَ": واذكر يا محمد إذ آذن ربك فأعلم. وهو تفعل من الإيذان...يعني بقوله آذن: أعلم...عن مجاهد، في قول الله: "وَإذْ تَأذّنَ رَبّكَ "قال: أمر ربك...

وقوله: "لَيَبْعَثَنّ عَلَيْهِمْ "يعني: أعلم ربك ليبعثنّ على اليهود من يسومهم سوء العذاب، قيل: إن ذلك العرب بعثهم الله على اليهود يقاتلون من لم يسلم منهم ولم يعط الجزية، ومن أعطى منهم الجزية كان ذلك له صَغَارا وذلة...

"إنّ رَبّكَ لَسَرَيعُ العِقابِ وَإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد لسريع عقابه إلى من استوجب منه العقوبة على كفره به ومعصيته له. "وإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول: وإنه لذو صفح عن ذنوب من تاب من ذنوبه فأناب وراجع طاعته، يستر عليها بعفوه عنها، رحيم له أن يعاقبه على جرمه بعد توبته منها، لأنه يقبل التوبة ويُقيل العثرة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إن ربك لسريع العقاب} يأخذهم في حال أمنهم، ليس كما يأخذ ملوك الأرض قومهم بعد ما يتقدم منهم إليهم تخويف، فعند ذلك يأخذهم بالعذاب. أو يقال {لسريع العقاب} أي عن سريع يأخذ عقابه. وقوله تعالى: {لسريع العقاب} لمن كفر، وكذّب {وإنه لغفور رحيم} لمن آمن، وصدّق بالله ورسوله...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{تَأَذَّنَ رَبُّكَ} عزم ربك، والمعنى: وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثنَّ على اليهود {إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب} فكانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر. ومعنى ليبعثن عليهم ليسلطنّ عليهم، كقوله: {بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد} [الإسراء: 5]

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... فمعنى هذه الآية وإذ علم الله ليبعثن عليهم، ويقتضي قوة الكلام أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء، كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم علم الله لأفعلن كذا، نحا إليه أبو علي الفارسي... وقال مجاهد: {تأذن} معناه: قال، وروي عنه أن معناه: أمر...والضمير في {عليهم} لمن بقي من بني إسرائيل لا للضمير في «لهم». وقوله: {من يسومهم} قال سعيد بن جبير هي إشارة إلى العذاب، وقال ابن عباس هي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته... والصحيح أنها عامة في كل من حال اليهود معه هذه الحال، و {يسومهم} معناه يكلفهم ويحملهم، و {سوء العذاب} الظاهر منه الجزية والإذلال... ثم حسن في آخر هذه الآية لتضمنها الإيقاع بهم والوعيد أن ينبه على سرعة عقاب الله ويخوف بذلك تخويفاً عاماً لجميع الناس ثم َرَّجى ذلك لطفاً منه تبارك وتعالى.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{وإنه لغفور رحيم}؛ ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بعد بيان عقابه تعالى لطائفة منهم قال عز وجل:

{وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} تأذن صيغة تفعُّل من الإيذان، وهو الإعلام الذي يبلغ فيدرك بالآذان، ويتضمن هنا تأكيد القسم، ومعنى العهد المكتوب الملتزم، بدليل مجيء لام القسم ونون التوكيد في جوابه. والمعنى: واذكر أيها الرسول الخاتم العام إذ أعلم ربك هؤلاء القوم مرة بعد المرة أنه قد قضى في علمه وكتب على نفسه، وفاقا لما أقام عليه نظام الاجتماع البشري من سننه ليبعثن ويسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، أي يريده ويوقعه بهم، عقابا على ظلمهم وفسقهم وفسادهم، وهو مجاز من سوم الشيء، كما يقال سامه خسفا. وسوء العذاب ما يسوء صاحبه ويذله، وهو هنا سلب الملك، وإخضاع القهر.

ومصداق هذا وتفصيله على ما قررنا قوله تعالى في أول سورة الإسراء {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} [الإسراء: 4] إلى قوله {وليتبروا ما علوا تتبيرا} [الإسراء: 7] قال: {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8] الآية أي وإن عدتم بعد عقاب المرة الآخرة إلى الإفساد، عدنا إلى التعذيب والإذلال، وقد عادوا فسلط الله عليهم النصارى فسلبوا ملكهم الذي أقاموه بعد نجاتهم من السبي البابلي، وقهروهم واستذلوهم، ثم جاء الإسلام فعاداه منهم الذين كانوا هربوا من الذل والنكال ولجؤوا إلى بلاد العرب فعاشوا فيها أعزاء آمنين، ولم يفوا للنبي صلى الله عليه وسلم بما عاهدهم عليه إذ أمنهم على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم، بل غدروا به وكادوا له، ونصروا المشركين عليه، فسلطه الله عليهم فقاتلهم فنصره عليهم، فأجلى بعضهم، وقتل بعضا، وأجلى عمر من بقي منهم، ثم فتح عمر سورية بعضها بالصلح كبيت المقدس، وبعضها عنوة، فصار اليهود من سيادة الروم الجائرة القاهرة فيها إلى سلطة الإسلام العادلة، ولكنهم ظلوا أذلة بفقد الملك والاستقلال. وقد بينا حقيقة حالهم، وما يحاولونه من استعادة ملكهم في هذا الزمان في غير هذا الموضع من هذا التفسير، وفي مواضع من المنار.

{إن ربك لسريع العقاب} للأمم التي تفسق عن أمره وتفسد في الأرض فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} [الإسراء: 16] أي أمرناهم بالحق والعدل، والرحمة والفضل، فعصوا وفسقوا عن الأمر، وأفسدوا وظلموا في الأرض، فحق عليهم القول، بمقتضى سنته تعالى في الخلق، فحل بهم الهلاك على الفور.

{وإنه لغفور رحيم} لمن تاب عقب الذنب، وأصلح ما كان أفسد في الأرض، قبل أن يحق عليه القول {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82] وهذا كما قال في اليهود بعد ذكر إفسادهم مرتين {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8] وقلما ذكر الله عذاب الفاسقين المفسدين، إلا وقرنه بذكر المغفرة والرحمة للتائبين المحسنين، حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمته بذنب عمله بجهالة، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بكرمه وعفوه وهو مصر على ذنبه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم كانت اللعنة الأبدية على الجميع -إلا الذين يؤمنون بالنبي الأمي ويتبعونه- بما انتهى إليه أمرهم بعد فترة من المعصية التي لا تنتهي؛ وصدرت المشيئة الإلهية بالحكم الذي لا راد له ولا معقب عليه فهو إذن الأبد الذي تحقق منذ صدوره؛ فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب. والذي سيظل نافذاً في عمومه، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب. وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا، جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة، الناكثة العاصية، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية؛ ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وحاصل المعنى: أن الله أعلمهم بذلك وتوعدهم به، وهذا كقوله تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} في سورة إبراهيم (7). ومعنى البعث: الإرسال وهو هنا مجاز في التقييض والإلهام، وهو يؤذن بأن ذلك في أوقات مختلفة وليس ذلك مستمراً يوماً فيوماً، ولذلك اختبر فعل ليبعثن} دُون نحو ليلزمنهم، وضمن معنى التسليط فعدي بعلى كقوله: {بعثنا عليكم عباداً لنا} [الإسراء: 5] وقوله: {فأرسلنا عليهم الطوفان} [الأعراف: 133].

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

تفرق اليهود وتشتتهم: هذه الآيات إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر الله تعالى، وسحقت الحق والعدل والصدق.

ويُستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الاستقرار والطمأنينة أبداً، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة، فإنّها مع ذلك ستعيش حالة اضطراب دائم وقلق مستمر، إلاّ أن تغيّر بصدق سلوكها، وتكفّ عن الظلم والفساد.