التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَوۡ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالٗا وَلَأَوۡضَعُواْ خِلَٰلَكُمۡ يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (47)

ثم بين - سبحانه - المفاسد المترتبة على خروج المنافقين في جيش المؤمنين فقال : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ، وأصل الخبال . الاضطراب والمرض الذي يؤثر في العقل كالجنون ونحوه . أو هو الاضطراب في الرأى .

أى : لو خرج هؤلاء المنافقون معكم أيها المؤمنون إلى تبوك ما زادوكم شيئاً من الأشياء إلا اضطراباً في الرأى ؛ وفسادا في العمل ، وضعفا في القتال ، لأن هذا هو شأن النفوس المريضة التي تكره لكم الخير ، وتحب لكم الشر .

قال الآلوسى . والاستثناء مفرغ متصل ، والمستثنى منه محذوف ، ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زاده ؛ لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء .

وقال أبو حيان : إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج أيضاً اجتمعوا بهم زاد الخبال ، فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترتب .

وقوله : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } معطوف على قوله : " ما زادوكم " . والإِيضاع . كما يقول القرطبى . سرعة السير قال الراجز .

يا ليتنى فيها جذع . . . أخب فيها وأضع

يقال : وضع البعير . إذا أسرع في السير ، وأوضعته . حملته على العدو .

والخلل الفرجة بين الشيئين . والجمع الخلال ، أى : الفرج التي تكون بين الصفوف وهو هنا ظرف مكان بمعنى بين ، ومفعول الإِيضاح محذوف ، أى . ولأسرعوا بينكم ركائبهم بالوشايات والنمائم والإِفساد .

ففى الكلام استعارة تبعية ، حيث شبه سرعة إفسادهم لذات البين بسرعة سير الراكب ، ثم استعير لها الإِيضاع وهو للإِبل وأصل الكلام ولأوضعوا ركائبهم ، ثم حذفت الركائب .

وجملة { يَبْغُونَكُمُ الفتنة } في محل نصب على الحال من فاعل ( أوضعوا ) .

أى : لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا شراً وفساداً ، ولأسرعوا بينكم بالإِشاعات الكاذبة ، والأقوال الخبيثة ، حال كونهم باغين وطالبين لكم الافتتان في دينكم ، والتشكيك في صحة عقائدكم ، والتثبيط عن القتال ، والتخويف من قوة أعدائكم ، ونشر الفرقة في صفوفكم .

فالمراد بالفتنة هنا : كل ما يؤدى إلى ضعف المسلمين في دينهم أو في دنياهم .

وقوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } بيان لأحوال المؤمنين في ذلك الوقت .

أى . وفيكم . في ذلك الوقت . يا معشر المؤمنين ، أناس كثيرو السماع لهؤلاء المنافقين ، سريوا الطاعة لما يلقون إليهم من أباطيل .

قال ابن كثير . قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أى : مطيعون لهم ، ومستحسنون لحديثهم وكلامهم ، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدى إلى وقع شر بين المؤمنين وفساد كبير .

وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أى : عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم .

وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جمع الأحوال .

والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق . وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين .

وقال محمد بن إسحاق : كان الذين استأذنوا ، فيما بلغنى ، من ذوى الشرف ، منهم عبد الله بن أبى بن سلول ، والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يرخجوا فيفسدوا عليه جنده . وكان في جنده قوم أهل محبة لهم ، وطاعة فيما يدعونه إليه لشرفهم فقال : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } .

وقوله : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } تذييل المقصود منه وعيد هؤلاء المنافقين وتهديديهم بسبب ما قدمت أيديهم من مفاسد .

أى : والله - تعالى - لا تخفى عليه خافية من أحوال هؤلاء الظالمين ، وسيعاقبهم بالعقاب المناسب لجرائمهم ورذائلهم .

وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد وضحت أن هناك ثلاث مفاسد كانت ستترتب على خروج هؤلاء المنافقين مع المؤمنين إلى تبوك .

أما المفسدة الأولى : فهى زيادة الاضطراب والفوضى في صفوف المجاهدين .

وأما المفسدة الثانية : فهى الإِسراع بينهم بالوشايات والنمائم والإِشاعات الكاذبة .

وأما المفسدة الثالثة : فهى الحرص على تفريق كلمتهم ، وتشكيكهم في عقيدتهم .

وهذه المفاسد الثلاث ما وجدت في جيش إلا وأدت إلى انهزامه وفشله .

ومن هنا كان تثبيط الله - تعالى - لهؤلاء المنافقين ، نعمة كبرى للمؤمنين .

ومن هنا - أيضاً - كانت الكثرة العددية في الجيوش لا تؤتى ثمارها المرجوة منها ، إلا إذا كانت متحدة في عقيدتها ، وأهدافها ، واتجاهاتها . . أما إذا كانت هذه الكثرة مشتملة على عدد كبير من ضعاف الإِيمان ، فإنها في هذه الحالة يكون ضرر أكبر من نفعها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَوۡ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالٗا وَلَأَوۡضَعُواْ خِلَٰلَكُمۡ يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (47)

( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ، وفيكم سماعون لهم ، واللّه عليم بالظالمين ) . .

والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف ، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش ؛ ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم اضطراباً وفوضى . ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل . وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين . ولكن اللّه الذي يرعى دعوته ويكلأ رجالها المخلصين ، كفى المؤمنين الفتنة ، فترك المنافقين المتخاذلين قاعدين :

( واللّه عليم بالظالمين ) . .

والظالمون هنا معناهم( المشركون ) فقد ضمهم كذلك إلى زمرة المشركين !

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَوۡ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالٗا وَلَأَوۡضَعُواْ خِلَٰلَكُمۡ يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} (47)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لو خرج أيها المؤمنون فيكم هؤلاء المنافقون، "ما زَادُوكُمْ إلاّ خَبالاً "يقول: لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادا وضرّا ولذلك ثبطتهم عن الخروج معكم. وقد بيّنا معنى الخبال بشواهده فيما مضى قبل. "وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ" يقول: ولأسرعوا بركائبهم السير بينكم. وأصله من إيضاع الخيل والركاب، وهو الإسراع بها في السير، يقال للناقة إذا أسرعت السير: وضعت الناقة... وأوضعها صاحبها: إذا جدّ بها وأسرع...

وأما أصل الخلال: فهو من الخلل: وهي الفرج تكون بين القوم في الصفوف وغيرها ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تَرَاصّوا فِي الصّفُوفِ لا يَتَخَلّلُكُمْ أوْلادُ الحَذَفِ».

وأما قوله: "يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ" فإن معنى يبغونكم الفتنة: يطلبون لكم ما تفتنون به عن مخرجكم في مغزاكم، بتثبيطهم إياكم عنه، يقال منه: بغيته الشرّ، وبغيته الخير...: إذا التمسته له، بمعنى: بغيت له...

وأما قوله: "وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وفيكم سماعون لحديثكم لهم يؤدونه إليهم عيون لهم عليكم... عن مجاهد: "وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ" قال: محدّثون عيون غير منافقين...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيكم من يسمع كلامهم ويطيع لهم... عن ابن إسحاق، قال: كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم: عبد الله بن أبيّ ابن سلولَ والجدّ بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معهم فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم، فقال: "وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ"، فعلى هذا التأويل: وفيكم أهل سمع وطاعة منكم لو صحبوكم أفسدوهم عليكم بتثبيطهم إياهم عن السير معكم.

وأما على التأويل الأوّل، فإن معناه: وفيكم منهم سماعون يسمعون حديثكم لهم، فيبلغونهم ويؤدونه إليهم عيون لهم عليكم.

وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب تأويل من قال: معناه: وفيكم سماعون لحديثكم لهم يبلغونه عنكم عيون لهم، لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم: سماع، وصف من وصف به أنه سماع للكلام، كما قال الله جلّ ثناؤه في غير موضع من كتابه: "سمّاعُونَ للْكَذِبِ" واصفا بذلك قوما بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه، وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه له سامع ومطيع، ولا تكاد تقول: هو له سماع مطيع.

وأما قوله: "وَاللّهُ عَلِيمٌ بالظّالِمِينَ" فإن معناه: والله ذو علم بمن يوجه أفعاله إلى غير وجوهها ويضعها في غير مواضعها، ومن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر ومن يستأذنه شكّا في الإسلام ونفاقا، ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين ومن يسمعه ليسرّ بما سرّ المؤمنين ويساء بما ساءهم، لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم. وقد بيّنا معنى الظلم في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

فيه بيان وجه خروجهم لو خرجوا وإخبارٌ أن المصلحة للمسلمين كانت في تخلفهم، وهذا يدلّ على أن معاتبة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} أن الله علم أنه لو لم يأذن لهم لم يخرجوا أيضاً فيظهر للمسلمين كذبهم ونفاقهم؛ وقد أخبر الله تعالى أن خروجهم لو خرجوا على هذا الوجه كان يكون معصية وفساداً على المؤمنين. وقوله: {مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً}، والخَبَالُ الاضطراب في الرأي، فأخبر الله تعالى أنهم لو خرجوا لَسَعَوْا بين المؤمنين في التضريب وإفساد القلوب والتخذيل عن العدو، فكان ذلك يوجب اضطراب آرائهم. فإن قال قائل: لم قال: {مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً} ولم يكونوا على خِبال يُزاد فيه؟ قيل له: يحتمل وجهين، أحدهما: أنه استثناء منقطع، تقديره: ما زادوكم قوة لكن طلبوا لكم الخبال. والآخر: أنه يحتمل أن يكون قومٌ منهم قد كانوا على خَبَالٍ في الرأي لما يعرض في النفوس من التلوّن إلى أن استقر على الصواب، فيقوِّيه هؤلاء حتى يصير خبالاً معدولاً به عن صواب الرأي. قوله تعالى: {وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ}. قال الحسن: ولأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم.

وقوله تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ} فإن الفتنة ههنا المحنة باختلاف الكلمة والفرقة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أخبر عن سابق علمه بهم، وذكر ما علم أنه لا يكون أَنْ لو كان كيف يكون، فقال: ولو ساعدوكم في الخروج لكان ما يلحقكم من سوء سيرتهم في الفتنة بينكم، والنميمة فيكم، والسعي فيما يسوؤكم أكثر مما نالكم بتخلُّفِهم من نقصان عددكم. ومَنْ ضررُه أكثرُ من نفعِه فَعَدَمَهُ خيرٌ مِنْ وجودِه، ومَنْ لا يحصل منه شيء غيرُ شرورهِ فتخَلُّفُه أَنْفَعُ مِنْ حضوره...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة. فإن قلت: فلم خطَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت: لأنّ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها، فمن ثم أتاه العتاب ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت عليهم الحجّة ولم تبق لهم معذرة. ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. فإن قلت: ما معنى قوله: {مَعَ القاعدين}؟ قلت: هو ذمّ لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} [التوبة: 87، 93]. {إِلاَّ خَبَالاً} ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأنَّ الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيراً إلاّ خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلاً؛ لأنّ الخبال بعض أعمّ العام كأن قيل ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً والخبال الفساد والشر {ولأَوْضَعُواْ خلالكم} ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين...، والمراد الإسراع بالنمائم؛ لأنّ الراكب أسرع من الماشي.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {لو خرجوا فيكم} الآية، خبر بأنهم لو خرجوا لكان خروجهم مضرة، وقولهم {إلا خبالاً} استثناء من غير الأول، وهذا قول من قدر أنه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال، فيزيد المنافقون فيه، فكأن المعنى ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالاً، ويحتمل أن يكون استثناء غير منقطع وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك كان فيه منافقون كثير ولهم لا محالة خبال، فلو خرج هؤلاء لالتأموا مع الخارجين فزاد الخبال، والخبال الفساد في الأشياء المؤتلفة الملتحمة ...

...

وقوله: {يبغونكم الفتنة} أي يطلبون لكم الفتنة...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنواع المفاسد الحاصلة من خروجهم وهي ثلاثة: الأول: قوله: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الخبال والشر والفساد في كل شيء، ومنه يسمى العته بالخبل، والمعتوه بالمخبول، وللمفسرين عبارات قال الكلبي: إلا شرا، وقال يمان: إلا مكرا، وقيل: إلا غيا، وقال الضحاك: إلا غدرا، وقيل: الخبال الاضطراب في الرأي، وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لقوم آخرين، ليختلفوا وتفترق كلمتهم...

النوع الثاني: من المفاسد الناشئة من خروجهم قوله تعالى: {ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة}... فالمراد من الآية: السعي بين المسلمين بالتضريب والنمائم...

... المسألة الخامسة:...قوله: {ولأوضعوا خلالكم} أي بالنميمة والإفساد... ومعنى {الفتنة} ههنا افتراق الكلمة وظهور التشويش. واعلم أن حاصل الكلام هو أنهم لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالا، والخبال هو الإفساد الذي يوجب اختلاف الرأي وهو من أعظم الأمور التي يجب الاحتراز عنها في الحروب لأن عند حصول الاختلاف في الرأي يحصل الانهزام والانكسار على أسهل الوجوه. ثم بين تعالى أنهم لا يقتصرون على ذلك بل يمشون بين الأكابر بالنميمة فيكون الإفساد أكثر، وهو المراد بقوله: {ولأوضعوا خلالكم}. فأما قوله: {وفيكم سماعون لهم} ففيه قولان: الأول: المراد: فيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، وهذا قول مجاهد وابن زيد.

والثاني: قال قتادة: فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم، فإذا ألقوا إليهم أنواعا من الكلمات الموجبة لضعف القلب قبلوها وفتروا بسببها عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي.

فإن قيل: كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ونيتهم في الجهاد؟

قلنا: لا يمتنع فيمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ولا يمتنع كون بعض الناس مجبولين على الجبن والفشل وضعف القلب، فيؤثر قولهم فيهم، ولا يمتنع أن يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساء المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتعظيم، فلهذا السبب يؤثر قول هؤلاء الأكابر من المنافقين فيهم، ولا يمتنع أيضا أن يقال: المنافقون على قسمين: منهم من يقتصر على النفاق ولا يسعى في الأرض بالفساد، ثم إن الفريق الثاني من المنافقين يحملونهم على السعي بالفساد بسبب إلقاء الشبهات والأراجيف إليهم. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {والله عليم بالظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات والمخالفات، والله أعلم.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47) لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون (48)} هاتان الآيتان في بيان حال هؤلاء المنافقين ما كانت تكون عليه لو خرجوا، والتذكير بما كان من أحوالهم السابقة الدالة على ذلك.

هذا التفات عن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أمرهم إلى خطاب جماعة المؤمنين الذين معه، يقول: لو خرج هؤلاء المنافقون المستأذنون في القعود في جماعتكم أيها المؤمنون ما زادوكم شيئا من الأشياء إلا خبالا، أي اضطرابا في الرأي، وفسادا في العمل، وضعفا في القتال، وخللا في النظام، فإن الخبال كما قال الراغب: هو الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابا كالجنون، والمرض المؤثر في العقل والفكر. والمراد ما زادوكم قوة ومنعة وإقداما، كما هو شأن القوة العددية المتحدة في العقيدة والمصلحة، بل ضعفا وفشلا ومفسدة، كما حصل في غزوة حنين، فإن المنافقين ولوا الأدبار في أول المعركة، وتبعهم ضعفاء الإيمان من المؤلفة قلوبهم من طلقاء فتح مكة، فاضطرب لذلك الجيش كله وفسد نظامه، فولى أكثر المؤمنين معهم بلا روية ولا تدبر، كما هو شأن جماعات البشر في مثل هذه الأحوال. {ولأوضعوا خلالكم} الوضع والإيضاع كما في التاج أهون سير الدواب، وقيل ضرب من سير الإبل دون الشد، وقيل هو فوق الخبب. قال الأزهري، ويقال: وضع الرجل إذا عدا أي أسرع وهو مجاز، ويقال أوضع راحلته اه. وخلال الأشياء ما يفصل بينها من فروج ونحوها، والمعنى ولأوضعوا ركائبهم أو ولأسرعوا في الدخول في خلالكم وما بينكم سعيا بالنميمة وتفريق الكلمة. {يبغونكم الفتنة} أي حال كونهم يبغون بذلك أن يفتنوكم بالتشكيك في الدين والتثبيط عن القتال، والتخويف من قوة الأعداء. {وفيكم سماعون لهم} أي وفيكم أناس من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العزم والعقل كثيرو السمع لهم، لاستعدادهم لقبول وسوستهم. وقيل أناس نمامون يسمعون لأجلهم ما يعنيهم من أقوالكم فيلقونها إليهم، وهو بعيد وإن رجحه الطبري وقدمه الزمخشري، وسماع بالتشديد صيغة مبالغة لا يختص بما قاله الطبري فيها، فإن أولئك المنافقين الذين استأذنوا لم يكونوا معروفين متميزين بحيث تكون لهم هيئة مجتمعة في الجيش تتخذ الجواسيس لتنظيم عملها.

{والله عليم بالظالمين} من هؤلاء وغيرهم، أي محيط علما بذواتهم وسرائرهم وأعمالهم ما تقدم منها وما تأخر، وبما هم مستعدون له في كل حال مما وقع ومما لم يقع ولا يقع، ككون هؤلاء المنافقين لا يزيدون المؤمنين -لو خرجوا فيهم- إلا خبالا الخ، فهو كقوله في خلفاء اليهود منهم الذين كانوا يغرونهم بعداوة النبي صلى الله عليه وسلم ويغرونهم بما يعدونهم به من نصرهم عليه الذي حكاه عنهم في سورة الحشر وكذبهم فيه بقوله: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} [الحشر: 12]، فأحكامه تعالى فيهم على علم تام، ليس فيها ظن ولا اجتهاد كاجتهاد الرسل في الإذن لهم، الذي تثبت هذه الآية نفسها أنه مبني على أصل صحيح، وهو أن خروجهم شر لا خير، وضعف لا قوة، ولكنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يخرجون إذا لم يأذن لهم؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن أعلمه الله، ولم يعلمه تعالى بذلك قبل نزول هذه الآيات. فاجتهاده صلوات الله وسلامه عليه فيهم كاجتهاده في الإعراض عن الأعمى [عبد الله ابن أم مكتوم] عندما جاءه وهو يدعو أكابر رجال قريش إلى الإسلام، وقد لاح له بارقة رجاء في إيمانهم بتحدثهم معه، فإنه صلى الله عليه وسلم علم أن إقباله عليه ينفرهم ويقطع عليه طريق دعوتهم، وكان يرجو بإيمانهم انتشار الإسلام في جميع العرب، فتولى عنه وتلهى بهذه الفكرة، ولم يكن يعلم قبل إعلام الله تعالى أن سنته في البشر أن يكون أول من يتبع الأنبياء والمصلحين فقراء الأمم وأوساطها، دون أكابر مجرميها المترفين ورؤسائها الذين يرون في اتباع غيرهم ضعة بذهاب رياستهم، ومساواتهم لمن دونهم الخ فيكفرون عنادا، ويجحدون بآيات الله استكبارا لا اعتقادا. وكان من حكمة الله عزَّ وجلَّ في تربية رسوله وتكميله أن يبين له بعض الحقائق بعد اجتهاده الشخصي البشري فيها لتكون أوقع في نفسه وأنفس أتباعه، فيحرصوا على العمل بمقتضاها، ولا يبيحوا لأنفسهم تحكيم آرائهم أو أهوائهم فيها، وكذلك كان سلفنا الصالحون الذين أورثهم الله بهداية كتابه وسنة رسوله الأرض من بعد أهلها، فخلف من بعدهم خلف تركوها، فغلب عليهم الجهل والنفاق، فسلبهم ذلك الملك العظيم، فهل يفقه أهل عصرنا ويعتبرون؟ ومتى يتدبرون ويهتدون؟

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سماعون لهم، واللّه عليم بالظالمين).. والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش؛ ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم اضطراباً وفوضى. ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل. وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين. ولكن اللّه الذي يرعى دعوته ويكلأ رجالها المخلصين، كفى المؤمنين الفتنة، فترك المنافقين المتخاذلين قاعدين: (واللّه عليم بالظالمين).. والظالمون هنا معناهم (المشركون) فقد ضمهم كذلك إلى زمرة المشركين!...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 46]

في بداية هذا الربع، أخبر الحق سبحانه وتعالى نبيه بحقيقة ما انطوى عليه المنافقون الذين كانوا منبثين بين المسلمين يقومون بدور "الطابور الخامس "المتعارف عليه في هذا العصر، فبين أنهم لو كانوا راغبين في الخروج مع رسول الله للقاء الروم في الشام لتأهبوا لذلك من أول وهلة، ولما تخاذلوا وترددوا، ثم كشف الحق سبحانه وتعالى عن اللطف الخفي، الذي حصل بعدم خروجهم، ذلك أنهم لو شاركوا المسلمين في الخروج إلى غزوة تبوك لكان وجودهم بين ظهرانيهم مثارا للبلبلة والاضطراب والخبال، ووقودا لإشعال نار الفتنة، وإفساد ذات البين، مما يعكر الجو ويشغل البال، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، ولكن كره الله انبعاثهم} أي أبغض خروجهم {فثبطهم} أي أخرهم عن الخروج: {وقيل اقعدوا مع القاعدين، لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} أي لمشوا بينكم بالنميمة، وحركوا بينكم عوامل البغضاء المؤدية إلى الفتنة: {وفيكم سماعون لهم} أي وفيكم من يستحسن حديثهم الخداع، إذ إنكم لستم جميعا على بينة من أمرهم، فهم منافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وبذلك يقع السامع لهم في الشرك، ويحدث بين المؤمنين – بسبب دسيستهم وسعايتهم – فساد كبير، وإلى هذا التفسير ذهب قتادة وغيره من المفسرين. ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: {وفيكم سماعون لهم} أنه يوجد منبثا من بينكم عيون لهم، منهم وإليهم، يتتبعون أخباركم وينقلونها إليهم أولا بأول، لإفساد خطة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعطيل سير المؤمنين، وإلى هذا التفسير الثاني ذهب مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير الطبري. قال ابن كثير: "والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق".

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وفي الآية التالية إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للتأثر والأسف فحسب، بل لعله مدعاة للسرور، لأنّهم لا ينفعونكم فحسب، بل سيكونون بنفاقهم ومعنوياتهم المتزلزلة وانحرافهم الأخلاقي مصدراً لمشاكل أُخرى جديدة. والآية في الحقيقة تعطي درساً للمسلمين أن لا يكترثوا بكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكميتهم وعددهم، بل عليهم أن يفكروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قِلّة، فهذا درس لمسلمي الماضي والحاضر والمستقبل. وتقول الآية: (لو خرجوا فيكم) أي إِلى تبوك للقتال (ما زادوكم إلاّ خبالا). «الخبَال» بمعنى الاضطراب والتردد. والخَبَل على زنة «الأجَل» معناه الجنون. والخَبْلُ على زنة «الطَبْل» معناه فساد الأعضاء. فبناءً على ذلك فإنّ حضورهم بتلك الروحيّة الفاسدة المقرونة بالتردد والنفاق لا أثر له سوى إيجاد الشك والتردد وتثبيط العزائم بين جنود الإِسلام. وتضيف الآية قائلة: (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ثمّ تنذر المسلمين مِن المتأثرين بهم في صفوف المسلمين (وفيكم سمّاعون لهم). «السمّاع» تطلق على من يسمع كثيراً دون تروٍّ أو تدقيق، فيصدِّق كل كلام يسمعه. فبناءً على ذلك فإنّ وظيفة المسلمين الراسخين في الإيمان مراقبة مثل هؤلاء الضعفاء لئلا يقعوا فريسة المنافقين الذئاب. كما يَرِدُ هذا الاحتمال، وهو أنّ المراد من السمّاع في الآية هو الجاسوس الذي يتجسّس بين المسلمين ويجمع الأخبار للمنافقين. وتُختتم الآية بالقول: (والله عليم بالظالمين)...