التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة من يقتل مؤمناً متعمداً فقال : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .

أى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } قتله { فَجَزَآؤُهُ } الذى يستحقه بسبب هذه الجناية الكبيرة { جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } أى باقيا فيها مدة طويلة لا يعلم مقدارها إلا الله { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ } بسبب ما ارتكبه من منكر { وَلَعَنَهُ } أى طرده من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُ } من وراء ذلك كله { عَذَاباً عَظِيماً } يوم القيامة .

هذا وقد ساق المفسرون جملة من الآيات والأحاديث التى تهدد مرتكب هذه الكبيرة بالعذاب الشديد ؛ واختلفوا فى حكمها هل هى هى منسوخة أولا ؟ وهل للقاتل عمداً توبة أولا ؟ وقد أفاض الإِيمام ابن كثير فى بيان كل ذلك فقال ما ملخصه :

" هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم والذى هو مقرون بالشرك بالله فى غير ما آية . قال - تعالى - { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } والأحاديث فى تحريم القتل كثيرة جدا . فمن ذلك ما ثبت فى الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء " وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال المؤمن معتقا - أى خفيف الظهر ، سريع السير - ما لم يصب دما حراما . فإذا أصاب دما حراما بلح " أى : أعيا وانقطع .

وفى حديث آخر : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " .

ثم قال : وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا .

وقال البخارى : حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال :

سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة . فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها . فقال : نزلة هذه الآية . { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } هى آخر ما نزل وما نسخها شئ .

وروى ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير قال . سألت ابن عباس عن قوله - تعالى - { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } . فقال : إن الرجل إذا عرف الإِسلام ، وشرائع الإِسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم ؛ ولا توبة له .

ثم قال : والذى عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها . أن القتل له توبة فيما بينه وبين الله - تعالى - فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته .

قال الله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } فهذه الآية عامة فى جميع الذنوب ما عدا الشرك . وهى مذكورة فى هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء .

والمراد بالخلود هنا المكث الطويل . وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان فى قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان .

وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذه فمراد قائله الزجر والتوبة لا أنه لا يعتقد بطلان توبته .

والآية الكريمة { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } . الصواب فى معناها : أن جزاءه جهنم . فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره . وقد لا يجازى بل يعفى عنه . فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد . يخلد فى جهنم بالإِجماع . وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص . مرتكب كبيرة جزاؤه جهنم خالدا فيها . ولكن تفضل - سبحانه - فأخبر أنه لا يخلد فيها من مات موحداً فلا يخلد هذا . وقد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا . وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين . ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد فى النار . فهذا هو الصواب فى معنى الآية .

وبهذا نرى أن الآية الكريمة تنهى المؤمن نهيا قاطعا عن أن يمد يده بالسوء لقتل نفس حرم الله قتلها إلا بالحقن وتتوعد لاذى يفعل ذلك بغضب الله عليه وطرده من رحمته ، وإلحاق العذاب العظيم به يوم القيامة .

وبعد هذا التحذير الشديد من قتل النفس بغير حق ، وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن القتل بدون تبين أو تثبت من أجل التوصل إلى عرض من أعراض الدنيا الفانية ، فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

88

ذلك القتل الخطأ . فأما القتل العمد ، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان ؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة ؛ وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله :

( من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه . وأعد له عذابا عظيمًا ) . .

إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب - بغير حق - ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة ، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم . إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها .

ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة ؛ واتجه بعضهم - ومنهم ابن عباس - إلى أنه لا توبة منها . . ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . . فرجا للقاتل التائب المغفرة . . وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل .

والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى ، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم ، - قبل إسلامهم - يمشون على الأرض - وقد دخلوا في الإسلام - فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة . ولكنهم لا يفكرون في قتلهم . لا يفكرون مرة واحدة ؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدا ولذعا ومرارة . بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقا واحدا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } . .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يقتل مؤمنا عامدا قتله ، مريدا إتلاف نفسه ، { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } يقول : فثوابه من قتله إياه جهنم ، يعني : عذاب جهنم ، { خَالدا فيها } يعني : باقيا فيها . والهاء والألف في قوله : «فيها » من ذكر جهنم . { وَغَضبَ اللّهِ عَلَيْهِ } يقول : وغضب الله بقتله إياه متعمدا ، { وَلَعَنَهُ } يقول : وأبعده من رحمته وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما ، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره .

واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحقّ صاحبه أن يسمّى متعمدا بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجل رجلاً بحدّ حديد يجرح بحدّه ، أو يَبْضَع ويقطع ، فلم يقلع عنه ضربا به ، حتى أتلف نفسه ، وهو في حال ضربه إياه به قاصد ضربه أنه عامد قتله . ثم اختلفوا فيما عدا ذلك ، فقال بعضهم : لا عمد إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : العمد : السلاح أو قال : الحديد قال : وقال سعيد بن المسيب : هو السلاح .

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : العمد ما كان بحديدة ، وما كان بدون حديدة فهو شبه العمد ، لا قود فيه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، قال : العمد ما كان بحديدة ، وشبه العمد : ما كان بخشبة ، وشبه العمد لا يكون إلا في النفس .

حدثني أحمد بن حماد الدولابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، قال : من قتل في عصبية في رمي يكون منهم بحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بالعصيّ فهو خطأ ديته دية الخطأ ، ومن قتل عمدا فهو قود يديه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ومغيرة ، عن الحارث وأصحابه في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضا حتى يموت ، قال : أسأل الشهود أنه ضربه ، فلم يزل مريضا من ضربته حتى مات ، فإن كان بسلاح فهو قود ، وإن كان بغير ذلك فهو شبه العمد .

وقال آخرون : كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد ، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة عن عبيد بن عمير ، أنه قال : وأيّ عمد هو أعمد من أن يضرب رجلاً بعصا ثم لا يقلع عنه حتى يموت .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن إبراهيم ، قال : إذا خنقه بحبل حتى يموت أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود .

وعلة من قال كلّ ما عدا الحديد خطأ ، ما :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي عازب ، عن النعمان بن بشير ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كُلّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلاّ السّيْفَ ، وَلِكُلّ خَطَأٍ أرْشٌ » .

وعلة من قال : حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء حكم السيف من أن من قتل به قتيل عمد ، ما :

حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا أبو الوليد ، قا : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن يهوديّا قتل جارية على أوضاح لها بين حجرين ، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقتله بين حجرين .

قالوا : فأقاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر وذلك غير حديد . قالوا : وكذلك حكم كلّ من قتل رجلاً بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به ، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : كل من ضرب إنسانا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه ، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسه به أنه قاتل عمد ما كان المضروب به من شيء¹ للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها } فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : معناه : فجزاؤه جهنم إن جازاه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : هو جزاؤه ، وإن شاء تجاوز عنه .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن يسار ، عن أبي صالح : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : جزاؤه جهنم إن جازاه .

وقال آخرون : عُني بذلك رجل بعينه كان أسلم ، فارتدّ عن إسلامه وقتل رجلاً مؤمنا¹ قالوا : فمعنى الاَية : ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلاّ قتله ، فجزاؤه جهنم خالدا فيها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابة ، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الدية قبلها ، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله . قال ابن جريج وقال غيره : ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار ، ثم بعث مِقْيَسا وبعث معه رجلاً من بني فهر في حاجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاحتمل مقيس الفهري وكان أيّدا ، فضرب به الأرض ، ورضخ رأسه بين حجرين ، ثم أُلفي يتغنى :

قَتَلْتُ بِهِ فِهْرا وَحَمّلْتُ عَقْلَهُ ***سَرَاةَ بني النّجّار أرْبابِ فارعِ

فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أظُنّهُ قَدْ أحْدَثَ حَدَثا ، أمَا وَاللّهِ لَئِنْ كانَ فَعَلَ لا أُؤَمّنُهُ فِي حِلّ وَلا حَرَمٍ ، وَلا سِلْمٍ وَلا حَرْبٍ » فقتل يوم الفتح¹ قال ابن جريج : وفيه نزلت هذه الاَية { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . الاَية .

وقال آخرون : معنى ذلك : إلا من تاب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، قال : ثني سعيد بن جبير ، أو حدثني الحكم ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ، ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد ، فقال : إلا من ندم .

وقال آخرون : ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا كائنا من كان القاتل ، على ما وصفه في كتابه ، ولم يجعل له توبة من فعله . قالوا : فكلّ قاتل مؤمن عمدا فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار ، ولا توبة له . وقالوا : نزلت هذه الاَية بعد التي في سورة الفرقان . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن يحيى الجاري ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كفّ بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : جزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما . قال : أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأني له التوبة والهدي ، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : «ثَكِلَتْهُ أُمّهُ ! رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمّدا ، جاءَ يَوْمَ القِيامَة آخِذا بِيَمِينِه أوْ بِشِمالِهِ ، تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ دَما ، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرّحْمَنِ ، يَلْزَمُ قاتِلَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى يقولُ : سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَتَنِي » . والذي نفسي عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الاَية فما نسختها من آية حتى قُبِض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدهما من برهان .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد ، عن عمرو بن قيس ، عن يحيى بن الحارث التيمي ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما } فقيل له : وإن تاب وآمن وعمل صالحا ؟ فقال : وأنّى له التوبة ! .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا همام عن يحيى ، عن رجل ، عن سالم ، قال كنت جالسا مع ابن عباس ، فسأله رجل فقال : أرأيت رجلاً قتل مؤمنا متعمدا أين منزله ؟ قال : جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعدّ له عذابا عظيما . قال : أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنّي له الهدى ثكلته أمه ! والذي نفسي بيده لسمعته يقول يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ مُعَلّقا رأسُهُ باحْدَى يَدَيْهِ ، إمّا بِيَمِينِهِ أوْ بِشِمَالِهِ ، آخِذا صَاحِبَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ حِيالَ عَرْضِ الرّحْمَنِ يَقُولُ : يا رَبّ سَلْ عَبْدَكَ هَذَا عَلامَ قَتَلَنِي ؟ » فما جاء نبيّ بعد نبيكم ، ولا نزل كتاب بعد كتابكم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا عمان بن زريق ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس بنحوه ، إلا أنه قال في حديثه : فوالله لقد أنزلت على نبيكم ثم ما نسخها شيء ، ولقد سمعته يقول : { وَيْلٌ لِقاتِلِ المُؤْمِنِ ، يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَة آخِذا رأسَهُ بِيَدِهِ ثم ذكر الحديث نحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أي عديّ ، عن سعيد ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي عبد الرحمن بن أبزي : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } فقال : لم ينسخها شيء . وقال في هذه الاَية : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما } قال : نزلت في أهل الشرك .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير قال : أمرني عبد الرحمن بن أبزي أن أسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين ، فذكر نحوه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، عن زائدة ، عن منصور ، قال : حدثني سعيد بن جبير ، أو حُدثت عن سعيد بن جبير ، أن عبد الرحمن بن أبزي أمره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الاَيتين التي في النساء : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } . . . . إلى آخر الاَية ، والتي في الفرقان : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما } . . . إلى : { وَيخْلُدْ فِيهِ مُهانا } قال ابن عباس : إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة له . وأما التي في الفرقان ، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة : فقد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرّم الله بغير الحقّ وأتينا الفواحش ، فما ينفعنا الإسلام ؟ قال : فنزلت { إلاّ مَنْ تابَ } . . . الاَية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : ما نسخها شيء .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هي من آخر ما نزلت ما نسخها شيء .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فدخلت إلى ابن عباس فسألته ، فقال : لقد نزلت في آخر ما نزل من القرآن وما نسخها شيء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس معاوية بن قرّة ، قال : أخبرني شهر بن حوشب ، قال : سمعت ابن عباس يقول : نزلت هذه الاَية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّم } بعد قوله : { إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحا } بسنة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سلم بن قتيبة ، قال : حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرّة ، عن ابن عباس ، قال : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : نزلت بعد : { إلاّ مَنْ تَابَ } بسنة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إياس ، قال : ثني من سمع ابن عباس يقول : في قاتل المؤمن نزلت بعد ذلك بسنة ، فقلت لأبي إياس : من أخبرك ؟ فقال : شهر بن حوشب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي حصين ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } قال : ليس لقاتل توبة إلا أن يستغفر الله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني عمي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . الاَية ، قال عطية : وسئل عنها ابن عباس ، فزعم أنها نزلت بعد الاَية التي في سورة الفرقان بثمان سنين ، وهو قوله : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ } . . . إلى قوله : { غَفُورا رَحِيما } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مطرف ، عن أبي السفر ، عن ناجية ، عن ابن عباس ، قال : هما المبهمتان : الشرك ، والقتل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر : الإشراك بالله وقتل النفس التي حرّم الله¹ لأن الله سبحانه يقول : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن بعض أشياخه الكوفيين ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن ابن مسعود في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ } قال : إنها لمحكمة ، وما تزداد إلا شدة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : ثني هياج بن بسطام ، عن محمد بن عمرو ، عن موسى بن عقبة ، عن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : نزلت سورة النساء بعد سورة الفرقان بستة أشهر .

حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : ثني أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير ، قا : قال ابن عباس : يأتي المقتول يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه وأوداجه تشخب دما ، يقول : يا ربّ دمي عند فلان ! فيؤخذان فيسندان إلى العرش ، فما أدري ما يقضي بينهما . ثم نزع بهذه الاَية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها } . . . الاَية . قال ابن عباس : والذي نفسي بيده ما نسخها الله جلّ وعزّ منذ أنزلها على نبيكم عليه الصلاة والسلام .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، قال : سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت ، عن زيد بن ثابت ، قال : سمعت أباك يقول : نزلت الشديدة بعد الهينة بسنة أشهر ، قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } . . . إلى آخر الاَية ، بعد قوله : { وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ } . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبي الزناد ، قال : سمعت رجلاً يحدّث خارجة بن زيد ، قال : سمعت أباك في هذا المكان بمني يقول : نزلت الشديدة بعد الهينة ، قال : أراه بستة أشهر ، يعني : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا } بعد : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : ما نسخها شيء منذ نزلت ، وليس له توبة .

قال أبو جعفر : وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه إنْ جزاه جهنم خالدا فيها ، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله ، فلا يجازيهم بالخلود فيها ، ولكنه عزّ ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار ، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله : { يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا } .

فإن ظنّ ظانّ أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الاَية ، فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه ، لأن الشرك من الذنوب ، فإن الله عزّ ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله : { إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } والقتل دون الشرك .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل ، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس ، وإنّما أخّر لتهويل أمره ، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ } [ النساء : 92 ] .

والمتعمّد : القاصد للقتل ، مشتقّ من عَمَد إلى كذا بمعنى قَصد وذهب . والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس ، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء . ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء : القتل نوعان عمد وخطأ ، وهو الجاري على وفق الآية ، ومن الفقهاء من جعل نوعاً ثالثاً سمّاه شبه العمد ، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية ، إن صحّت فتأويلها متعيّن وتحمل على خصوص ما وردت فيه . وذكر ابن جرير والواحدي أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ مِقْيَساً بنَ صُبَابة{[217]} وأخاه هشام جاءا مسلمَين مهاجرين فوُجِد هشامٌ قتيلاً في بني النجّار ، ولم يُعرف قاتله ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مِقْيَسٌ مائةٌ من الأبل ، دية أخيه ، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهِر فلمّا أخَذ مقيس الإبلَ عدَا على الفهري فقتله ، واستاق الإبل ، وانصرف إلى مكة كافراً ، وأنشد في شأن أخيه :

قتلتُ به فهِراً وحَمَّلْتُ عقلَــه *** سُراة بني النجّار أرْبابَ فَارِع{[218]}

حلَلْتُ به وِتْري وأدركتُ ثأرتي *** وكنتُ إلى الأوثانِ أوّلَ راجع

وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة ، فقتِل بسوق مكة .

وقوله : { خالداً فيها } مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً ، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله ، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر ، على قول علمائنا من أهل السنّة ، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث ، وهو استعمال عربي . قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر :

ونحن لديه نسأل الله خُلْدَه *** يَرُدّ مَلْكاً وللأرضِ عامِرا

ومحمله عند من يُكفّر بالكبائر من الخوارج ، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر ، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة .

وكلا الفريقين متّفقون على أنّ التوبة تَرِد على جريمة قتل النفس عمداً ، كما تَرِد على غيرها من الكبائر ، إلاّ أنّ نَفراً من أهل السنّة شذّ شذوذاً بيّنا في محمل هذه الآية : فروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس : أنّ قاتل النفس متعمّداً لا تقبل له توبة ، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعُرف به ، أخذاً بهذه الآية ، وأخرج البخاري أنّ سعيد بن جبير قال : آيةٌ اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلتُ فيها إلى ابن عباس ، فسألتُه عنها ، فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها } الآية .

هي آخر ما نزل وما نسخَها شيء ، فلم يأخذ بطريق التأويل . وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس : فحمله جماعة على ظاهره ، وقالوا : إنّ مستنده أنّ هذه الآية هي آخر ما نزل ، فقد نَسخَت الآياتِ التي قبلها ، التي تقتضي عموم التوبة ، مثل قوله : { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 116 ] ، فقاتل النفس ممن لم يشأ الله يغفر له ومثل قوله { واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ، ومثل قوله : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلاّ مَن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 68 ، 69 ] . والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره ، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة . فأمّا حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه ، وهو طولُ المدّة في العقاب ، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوضضِ في شأن توبة القاتل المتعمّد ، وكيف يُحرم من قبول التوبة ، والتوبةُ من الكفر ، وهو أعظمُ الذنوب مقبولة ، فكيف بما هو دونه من الذنوب .

وحمل جماعة مراد ابن عبّاس على قصد التهويل والزجر ، لئلاّ يجترىء الناس على قتل النفس عمداً ، ويرجون التوبة ، ويَعْضُدون ذلك بأنّ ابن عباس رُوي عنه أنّه جاءه رجل فقال : « ألِمَنْ قتل مؤمناً متعمّداً توبة » فقال : « لاَ إلاّ النار » ، فلمّا ذهب قال له جلساؤه « أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إنّ توبته مقبولة » فقال : « إنّي لأحْسِبُ السائل رجلاً مغضَباً يريد أن يقتل مؤمناً » ، قل : فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك . وكان ابن شهاب إذا سألَه عن ذلك من يَفْهَم مِنْه أنّه كان قَتل نفساً يقول له : « توبتُك مقبولة » وإذا سأله من لم يقتل ، وتوسّم من حاله أنّه يحاول قتلَ نفس ، قال له : لا توبةَ للقاتل .

وأقول : هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت ، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره ، دون تأويل ، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز ، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة ، بخلاف بقية آي الوعيد ، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمةً أو منسوخة ، لأنّهم لم يجدوا مَلْجأ آخرَ يأوُون إليه في حملها على ما حُملت عليه آيات الوعيد : من محامِل التأويل ، أو الجمععِ بين المتعارضات ، فآووا إلى دَعوى نسخخِ نصّها بقوله تعالى في سورة الفرقان ( 68 ، 69 ) :

{ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى قوله { إلاّ من تاب } لأنّ قوله : ومن يفعل ذلك إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة ، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر ، وإمّا أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمداً مما عُدَّ معها . ولذا قال ابن عباس لسعيد بن جبير : إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء . ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا ، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون ، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة . وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] ، بناء على أنّ عموم { من يشاء } نَسَخ خصوصَ القتل . وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَسٍ بن صُبابة ، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر ، وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ « من » شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن ؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه . وهذه كلّها ملاجىء لا حاجة إليها ، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها ، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به ، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر . على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود . إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض . وهو الوعيد ، لا أنواعه . وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة . وهو الذي يتعيّن اللجأ إليه ، والتعويل عليه .


[217]:مقيس بميم مكسورة وقاف وتحتية بوزن منبر . وصبابة بصاد مهملة وبائين موحدتين قيل هو اسن أمه.
[218]:فارع اسم حصن في المدينة لبني النجار.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} (93)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ومن يقتل مؤمنا عامدا قتله، مريدا إتلاف نفسه، {فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ}: فثوابه من قتله إياه جهنم، يعني: عذاب جهنم، {خَالدا فيها}: باقيا فيها. والهاء والألف في قوله: «فيها» من ذكر جهنم.

{وَغَضبَ اللّهِ عَلَيْهِ}: وغضب الله عليه بقتله إياه متعمدا،

{وَلَعَنَهُ}: وأبعده من رحمته وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره.

واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحقّ صاحبه أن يسمّى متعمدا بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجل رجلاً بحدّ حديد يجرح بحدّه، أو يَبْضَع ويقطع، فلم يقلع عنه ضربا به، حتى أتلف نفسه، وهو في حال ضربه إياه به قاصد ضربه أنه عامد قتله. ثم اختلفوا فيما عدا ذلك؛ فقال بعضهم: لا عمد إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا. قال عطاء: العمد: السلاح أو قال: الحديد.

وقال آخرون: كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل. عن عبيد بن عمير، أنه قال: وأيّ عمد هو أعمد من أن يضرب رجلاً بعصا ثم لا يقلع عنه حتى يموت.

عن إبراهيم، قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت أو ضربه بخشبة حتى يموت فهو القود.

وعلة من قال كلّ ما عدا الحديد خطأ، ما:

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كُلّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلاّ السّيْفَ، وَلِكُلّ خَطَأٍ أرْشٌ».

وعلة من قال: حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء حكم السيف من أن من قتل به قتيل عمد، ما:

حدثنا به ابن بشار، قال: حدثنا أبو الوليد، قا: حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن يهوديّا قتل جارية على أوضاح لها بين حجرين، فأتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقتله بين حجرين.

قالوا: فأقاد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر وذلك غير حديد. قالوا: وكذلك حكم كلّ من قتل رجلاً بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثل المقتول به، نظير حكم اليهودي القاتل الجارية بين الحجرين.

والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: كل من ضرب إنسانا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسه به أنه قاتل عمد ما كان المضروب به من شيء¹ للذي ذكرنا من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها} فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه؛ فقال بعضهم: معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه.

وقال آخرون: عُني بذلك رجل بعينه كان أسلم، فارتدّ عن إسلامه وقتل رجلاً مؤمنا قالوا: فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمنا متعمدا مستحلاّ قتله، فجزاؤه جهنم خالدا فيها... عن عكرمة: أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الدية قبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله. قال ابن جريج وقال غيره: ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار، ثم بعث مِقْيَسا وبعث معه رجلاً من بني فهر في حاجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فاحتمل مقيس الفهري وكان أيّدا، فضرب به الأرض، ورضخ رأسه بين حجرين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أظُنّهُ قَدْ أحْدَثَ حَدَثا، أمَا وَاللّهِ لَئِنْ كانَ فَعَلَ لا أُؤَمّنُهُ فِي حِلّ وَلا حَرَمٍ، وَلا سِلْمٍ وَلا حَرْبٍ» فقتل يوم الفتح، قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا...}

وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب. عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ} قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهد، فقال: إلا من ندم.

وقال آخرون: ذلك إيجاب من الله الوعيد لقاتل المؤمن متعمدا كائنا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة من فعله. قالوا: فكلّ قاتل مؤمن عمدا فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له. وقالوا: نزلت هذه الآية بعد التي في سورة الفرقان...

عن سالم بن أبي الجعد، قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعدّ له عذابا عظيما. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأني له التوبة والهدي، فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «ثَكِلَتْهُ أُمّهُ! رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلاً مُتَعَمّدا، جاءَ يَوْمَ القِيامَة آخِذا بِيَمِينِه أوْ بِشِمالِهِ، تَشْخُبُ أوْدَاجُهُ دَما، فِي قُبُلِ عَرْشِ الرّحْمَنِ، يَلْزَمُ قاتِلَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى يقولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَتَنِي». والذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قُبِض نبيكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدهما من برهان.

حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن يحيى بن الحارث التيمي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما} فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحا؟ فقال: وأنّى له التوبة!.

وقال [ابن عباس] في هذه الآية: {وَالّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إلها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثاما} قال: نزلت في أهل الشرك.

عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا} قال: ليس لقاتل توبة إلا أن يستغفر الله.

وأولى القول في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه -إنْ جزاه- جهنم خالدا فيها، ولكنه يعفو أو يتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عزّ ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: {يا عِبادِيَ الّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعا}.

فإن ظنّ ظانّ أن القاتل إن وجب أن يكون داخلاً في هذه الآية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلاً فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله عزّ ذكره قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله: {إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} والقتل دون الشرك.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} لدينه، يقتله عمدا غير غالط ولا جاهل عالما بذلك، وإلى قتله ليدينه قاصدا، ومن كان هذه صفته فقد كفر، ووجب له هذا الوعيد الذي ذكره في كتابه الكريم إلا أن يجدد إيمانه، فإن الله تعالى يقبل إيمانه وتوبته...

ثم الدليل أن الآية في من قتل مسلما لدينه قاصدا لنفسه دون دينه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة: 178) وإنما كتب عليهم إذا كان القتل قتل عمد، وأبقى لهم بعد القتل اسم الإيمان. ثم قال: {فمن عفي له من أخيه شيء} فأبقى لهم اسم الأخوة. ثم قال: {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} أطمعه في رحمته عز وجل، وبعيد أن يكون له مع هذا خلود في النار. فدلت الآية على بقاء اسم الإيمان وعلى رجاء الرحمة،... وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كان في من قبلكم رجل قتل تسعا وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه، فقال: إني قتلت تسعا وتسعين نفسا بغير حق فهل لي من توبة؟ فقال: لا، فقتله، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل، فأتاه، فقال: إني قتلت مئة نفس بغير حق، فهل لي من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها ناسا يعبدون الله، فاعبده معهم. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصم به ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأتاهم ملك، فجعلوه حكما بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، قال: أيهما كان أدنى وأقرب فهو له، فقاسوه، فوجدوه أدنى من الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة" (البخاري: 3470)...

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

غلظ الله وعيد قاتل المؤمن عمدا للمبالغة في الردع والزجر...

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :

اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟

فقال قوم: هي محكمة، واحتجوا بأنها خبر، والأخبار لا تحتمل النسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين، إحداهما قالت: هي على ظاهرها، وقاتل المؤمن مخلد في النار. والفرقة الثانية قالت: هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر، ثم أسلم الكافر، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العام المخصص، فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التخصيص أن يكون قتله مستحلا، فيستحق الخلود لاستحلاله. وقال قوم: هي مخصوصة في حق من لم يتب، واستدلوا بقوله تعالى في الفرقان: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70]. وقال آخرون: هي منسوخة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48]...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم القتل الخطأ ذكر بعده بيان حكم القتل العمد، وله أحكام مثل وجوب القصاص والدية، وقد ذكر تعالى ذلك في سورة البقرة وهو قوله: {يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} فلا جرم ههنا اقتصر على بيان ما فيه من الإثم والوعيد...

نقل عن ابن عباس أنه قال: توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة، وقال جمهور العلماء: إنها مقبولة، ويدل عليه وجوه:

الحجة الأولى: أن الكفر أعظم من هذا القتل فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول.

الحجة الثانية: قوله تعالى في آخر الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا} وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة: فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى.

الحجة الثالثة: قوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر، فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى، والله أعلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ساق تعالى الخطأ مساق ما هو للفاعل منفراً عنه هذا التنفير، ناسب كل المناسبة أن يذكر ما ليس له من ذلك، إذ كان ضبط النفس بعد إرسالها شديداً، فربما سهلت قتل من تحقق إسلامه إحنة، وجرت إليه ضغينة وقوت الشبه فيه شدة شكيمة، ولعمري إن الحمل على الكف بعد الإرسال أصعب من الحمل على الإقدام! وإنما يعرف ذلك من جرب النفوس حال الإشراف على الظفر واللذاذة بالانتقام مع القوى والقدرة فقال: {ومن يقتل مؤمناً} ولعله أشار بصيغة المضارع إلى دوم العزم على ذلك لأجل الإيمان، وهو لا يكون إلا كفراً، وترك الكلام محتملاً زيادة تنفير من قتل المسلم {متعمّداً} أي وأما الخطأ فقد تقدم حكمه في المؤمن وغيره {فجزاؤه} أي على ذلك {جهنم} أي تتلقاه بحالة كريهة جداً كما تجهم المقتول {خالداَ فيها} أي ماكثاً إلى ما لا آخر له {وغضب الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له مع ذلك {عليه ولعنه} أي وأبعده من رحمته {وأعد له عذاباً عظيماً} أي لا تبلغ معرفته عقولكم، وإن عمم القول في هذه الآية كان الذي خصها ما قبلها وما بعدها من قوله تعالى {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48 و116] لا آية الفرقان فإنها مكية وهذه مدنية...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم بين تعالى حكم قتل المؤمن تعمدا بما يوافق مفهوم هذه الآية من كونه ليس من شأنه أن يقع من مؤمن فلم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعد به الكافرين فقال: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابا عظيما}.

قال الأستاذ الإمام:

هذا فرع عن كون القتل ليس من شأن المؤمن مع المؤمن لأنه ينافي الإيمان. وقال ابن عباس هذه الآية آخر آية نزلت في عقاب القتل. وقال بعض الصحابة إن قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} النساء:48] نزل قبل هذه الآية بستة أشهر فهذه الآية مخصصة له وقد قلنا من قبل إن قوله تعالى: {لمن يشاء} فيه مع تغليظ أمر الشرك أن كل شيء بمشيئته تعالى فلو شاء أن يخصص أحدا بالمغفرة فلا مردّ لمشيئته.

وقد يقال إنه أخرج من هذه المشيئة من يقتل مؤمنا متعمدا فآية: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} نزلت ترغيبا للمشركين الذين آذوا النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان، وهم الذين نزل فيهم: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:8] وقد نقل عن ابن عباس أن قاتل العمد لا توبة له وقالوا إن آية الفرقان نزلت في المشركين والتوبة فيها متعلقة بعدة أعمال منها القتل ومنها الشرك.

أقول ويعني بآية الفرقان قوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان:70] بعد أن ذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، وتوعد على ذلك كله بمضاعفة العذاب والخلود فيه.

قال: وقد يقال كيف تقبل التوبة من المشرك القاتل الزاني ولا تقبل من المؤمن الذي ارتكب القتل وحده؟ ويمكن أن يُجاب من القائلين بعدم توبة القاتل بأن المشرك الذي لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور له شبه عذر لأنه كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ولم يكن ظهر له صدق النبوة وما يتبع ذلك، فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه هو كفر وضلال تاب وأناب وآمن وعمل الصالحات، فهو جدير بالعفو وإن كان في إجرامه السابق مقصرا في النظر والاستدلال، وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وتحريم الله للقتل وجعل قاتل النفس البريئة كقاتل الناس جميعا فلا عذر له، بل لا يعقل أن يرجح هواه على إيمانه مع أنه لم يطرأ على إيمانه من الشك الاضطراري ما يكون له شبه عذر. أما إذا طرأ عليه ذلك فإن حكمه حكم القاتل الكافر. وذلك أن الكافر الذي بلغته الدعوة ولم يؤمن لم يعرض عن الإيمان إلا لأن الدليل لم يظهر له على صحة النبوة، وهو يعاقب على التقصير في النظر وتصحيح الاستدلال حتى يخلد في النار. وإذا أحسن النظر وتبين له الهدى فآمن واهتدى يغفر له ما قد سلف في زمن الكفر، لأنه كان عملا مرتبا على الكفر، والكفر نفسه كان خطأ منه فأشبه قتله قتل الخطأ. ومثله من أخطأ في الدليل بعد التسليم به لشبهة عرضت على إيثاره لهواه على ما عند الله.

أما القاتل المؤمن فأمره على غير ذلك فإنه مؤمن بالله وبرسوله وبما جاء به إيمان يقين وإذعان لما جاء به الدين من تعظيم أمر الدماء، وهو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير بحكم الإيمان فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه، وحل ما عقده وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته وتجرئة الناس على مثل ذلك حتى يهن المسلمون ويضعفوا ويكون بأسهم بينهم شديدا. لا جرم أن عقابه يكون شديدا بحيث لا تقبل توبته.

ومن نظر إلى انحلال أمر الإسلام والمسلمين بعدما أقدم بعضهم على سفك دم بعض من زمن طويل يظهر له وجه هذا وأن القاتل لا يعذر بهذه الجراءة على هذه الجريمة وهو لم تعرض له شبهة في أمر الله، إذ لا رائحة للعذر في عمله بل هو مرجح للغضب وحب الانتقام وشهوة النفس على أمر الله تعالى، ومن فضل شهوة نفسه الخسيسة الضارة على نظر الله وعلى كتابه ودينه ومصلحة المؤمنين بغير شبهة ما فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة، ويدل على هذا قوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران:134] وتأمل قوله: {يعلمون} ولو سمح الله أن يفضل أحد شهوته أو حميته وغضبه على الله ورسوله وكتابه ودينه والمؤمنين، ووعده بالمغفرة، لتجرأ الناس على كل شيء ولم يكن للدين ولا للشرع حرمة في قلوبهم. فهذا تقرير قول من قالوا إن القاتل لا تقبل توبته ولابد من عقابه والروايات فيه عن الصحابة والسلف كثيرة تراجع في تفسير ابن جرير.

هذا ما عندنا عن الأستاذ الإمام في الآية وهو من خير ما يبين به وجه ما ذهب إليه المشددون في هذه الجناية...

أقول: وقد استكبر الجمهور خلود القاتل في النار وأوّله بعضهم بطول المكث فيها وهذا يفتح باب التأويل لخلود الكفار فيقال إن المراد به طول المكث أيضا. وقال بعضهم إن هذا جزاؤه الذي يستحقه إن جازاه الله تعالى وقد يعفو عنه فلا يجازيه، رواه ابن جرير عن أبي مجلز. وفيه أن الأصل في كل جزاء أن يقع لاستحالة كذب الوعيد كالوعد وأن العفو والتجاوز قد يقع عن بعض الأفراد لأسباب يعلمها الله تعالى، فليس في هذا التأويل تفص من خلود بعض القاتلين في النار، والظاهر أنهم يكونون الأكثرين، لأن الاستثناء إنما يكون في الغالب للأقلين. وقال بعضهم إن هذا الوعيد مقيد بقيد الاستحلال والمعنى ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا له فجزاؤه جهنم خالدا فيها الخ. وفيه أن الآية ليس فيها هذا القيد ولو أراده الله تعالى لذكره كما ذكر قيد العمد، وأن الاستحلال كفر فيكون الجزاء متعلقا به لا بالقتل، والسياق يأبى هذا.

وقال بعضهم إن هذا نزل في رجل بعينه فهو خاص به. وهذا أضعف التأويلات، لا لأن العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب فقط، بل لأن نص الآية على مجيئه بصيغة العموم "من "الشرطية جاء بفعل الاستقبال فقال: "ومن يقتل" ولم يقل: "ومن قتل". وقال آخرون إن هذا الجزاء حتم إلا من تاب وعمل من الصالحات ما يستحق به العفو عن هذا الجزاء كله أو بعضه. وفيه أنه اعتراف بخلود غير التائب المقبول التوبة في النار، ولعل أظهر هذه التأويلات قول من قال إن المراد بالخلود طول المكث لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود وهم لا يعتقدون أن شيئا يدوم دواما لا نهاية له. وكون حياة الآخرة لا نهاية لها لم يؤخذ من هذا اللفظ وحده بل من نصوص أخرى.

إن ابن عباس (رضي الله عنهما) كان يقول: إن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له كما ذكرنا ذلك في عبارة شيخنا وعبارة الكشاف، ونقل ابن جرير القول بقبول توبته عن مجاهد وهو تلميذ ابن عباس. وذكر روايات كثيرة عن ابن عباس في عدم قبول توبته...

وقد بين الأستاذ الإمام الفرق بين قبول توبة المشرك من الشرك وما يتبعه من الجرائم وعدم قبول توبة المؤمن من القتل على قول ابن عباس، وهو فرق واضح معقول من وجه وغير معقول من وجه آخر، وهو أنه لا ينطبق على قاعدتنا في حكمة الله في الجزاء على الشرك والذنوب وعلى الإيمان والأعمال الصالحة وقد بيناها مرارا كثيرة، وهي أن الجزاء تابع لتأثير الاعتقاد والعمل في تزكية النفس أو تدسيتها.

نعم إن إقدام المرء بعد الإيمان ومعرفة ما عظم الله تعالى من تحريم الدماء وما شدد من الجزاء على جريمة القتل يكاد يكون ردة عن الإسلام وهو أولى بما ورد في الصحيح (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...) وقد تقدم في بحث التوبة في تفسير هذه السورة، فإن القتل أكبر إثما وأشد جرما من الزنا والسرقة وشرب الخمر التي ورد بها الحديث، ولكن لا نسلم ما قاله شيخنا من أنه ليس لفاعله شبهة عذر بعد الإسلام، وإذا سلمنا ذلك وحكمنا بأن نفس القاتل قد صارت بالقتل شر النفوس وأشدها رجسا، وأبعدها عن موجبات الرحمة، وهو معنى ما في الآية من اللعنة، فلا نستطيع أن نحكم بأن صلاحها بالتوبة النصوح والمواظبة على الأعمال الصالحة متعذر ولا متعسر.

أما شبهة العذر أو شبهه فقد يظهر فيمن كان شديد الغضب حديد المزاج، إذا رأى من خصمه ما يثير غضبه وينسيه ربه، فقد يندفع إلى القتل لا يملك فيه نفسه، إلا أن يقال إن هذا القتل لا يعد من العمد أو التعمد الذي هو أبلغ من العمد لما في صيغة التفعل من الدلالة على معنى التربص أو التروي في الشيء. وقد ذكروا أن الضرب بما لا يقتل في الغالب إذا أفضى إلى القتل لا يسمى عمدا بل شبه عمد كالضرب بالعصا. وإنما العمد ما كان بمحدد وما في معناه مما جرت العادة بكونه يقتل كبندق الرصاص المستعمل في هذا الزمان بآلاته الجديدة كالبندقية والمسدس، واشترطوا فيه أن يقصد به القتل فإنه قد يطلق الرصاص عليه بقصد الإرهاب وهو ينوي أن لا يصيبه فيصيبه بدون قصد. ولفظ التعمد يدل على هذا وعلى أكثر منه كما قلنا آنفا.

وأما كون القاتل قد تصلح نفسه وتتزكى بالتوبة النصوح فهو معقول في نفسه وواقع ويدخل في عموم ما ورد في التوبة، ولا نعرف نفسا غير قابلة للصلاح، إلا نفس من أحاطت به خطيئته وران على قلبه ما كان يكسب من الأوزار، بطول الممارسة والتكرار، إذ يألف بذلك الشر ويأنس به حتى لا تتوجه نفسه إلى حقيقة التوبة بكراهة ما كان عليه ومقته والرجوع عنه، لا أنه يتوب ولا يقبل الله توبته.

فمن وقعت منه جريمة القتل فأدرك عقبها أنه تعرض بذلك للخلود في النار، واستحق لعنة الله تعالى والطرد من رحمته، وباء بغضبه وتهول في عذابه العظيم، فعظم عليه ذنبه، وضاقت عليه نفسه، فندم أشد الندم، فأناب واستغفر، وعزم على أن لا يعود إلى هذا الحنث العظيم، ولا إلى غيره من المعاصي والأوزار، وأقبل على المكفرات، وواظب على الباقيات الصالحات، إلى أن أدركه الممات، وهو على هذه الحال، فهو ولا شك في محل الرجاء، وحاش لله أن يخلد مثله في النار.

نعم إن أمراء الجور الذين يسفكون دماء من يخالفون أهواءهم، وزعماء السياسة الذين يجعلون من قوانين جمعياتهم اغتيال من يعارضهم في سياستهم، وكبراء اللصوص الذين يقتلون المؤمن وغير المؤمن بغير الحق لأجل التمتع بماله، كل أولئك الفجار، الذين يقتلون مع التعمد وسبق الإصرار، جديرون بأن ينالوا الجزاء الذي توعدت به الآية من الخلود في النار، ولعنة الله وغضبه وعذابه العظيم الذي لا يعرف كنهه سواه عز وجل، لأنهم وإن كان فيهم من يعدون في كتب تقويم البلدان ودفاتر الإحصاء وسجلات الحكومة من المسلمين ليسوا في الحقيقة من المؤمنين بالله وبصدق كتابه ورسوله فيما أخبرا به من وعيده على القتل وغيره، فهم لا يراقبون الله في عمل، ولا يخافون عقابه على ذنب، وقلما يوجد فيهم من يذكر التوبة بقلبه أو لسانه، إلا ما يذكر عن بعض عوام اللصوص من حركة اللسان ببعض الألفاظ التي لا يعقلون حقيقة معناها، ومنها: أستغفر الله وأتوب إليه، وهو يكذب في ذلك عليه.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق شمس الدين بن القيم رحمه الله في "المدارج "فإنه قال -بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال:

وقالت فِرقَة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه. وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص. فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين. ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه، وإعمالا لأرجحها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ذلك القتل الخطأ. فأما القتل العمد، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان؛ والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة؛ وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله:

(من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه. وأعد له عذابا عظيمًا)..

إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب -بغير حق- ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم. إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها.

ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم -ومنهم ابن عباس- إلى أنه لا توبة منها.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).. فرجا للقاتل التائب المغفرة.. وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل.

والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم، -قبل إسلامهم- يمشون على الأرض -وقد دخلوا في الإسلام- فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة. ولكنهم لا يفكرون في قتلهم. لا يفكرون مرة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدا ولذعا ومرارة. بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقا واحدا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل، لأنّه هو المتوقّع حصوله من الناس، وإنّما أخّر لتهويل أمره، فابتدأ بذكر قتْل الخطأ بعنوان قوله: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ}... والمتعمّد: القاصد للقتل،... والأفعال كلّها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمّد بأن يكون فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلاّ وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تُزهق به الأرواح في متعارف الناس...

وقوله: {خالداً فيها} مَحْمَلهُ عند جمهور علماء السنّة على طول المُكث في النار لأجل قتل المؤمن عمداً، لأنّ قتل النفس ليس كفراً بالله ورسوله، ولا خلودَ في النار إلاّ للكفر، على قول علمائنا من أهل السنّة، فتعيّن تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث، وهو استعمال عربي...

والحقّ أنّ محلّ التأويل ليس هو تقدّمَ النزول أو تأخُّره، ولكنّه في حمل مطلق الآية على الأدلّة التي قيّدت جميع أدلّة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة...

المؤكّدات هنا [في قوله: وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما] مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض. وهو الوعيد، لا أنواعه...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هكذا يبشع الحق لنا جريمة القتل العمد. لأن التعمد يعني أن القاتل قد عاش في فكرة أن يقتل، ولذلك يقال في القانون "قتل مع سبق الإصرار". أي أن القاتل قد عاش القتل في تخيله ثم في فعله، وكان المفروض في الفترة التي يرتب فيها القتل أن يراجعه وازعه الديني، وهذا يعني أن الله قد غاب عن باله مدة التحضير للجريمة، ومادام قد عاش ذلك فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، ومادام الإنسان قد غاب باله عن الله فالله يغيبه عن رحمته... وهنا نجد أكثر من مرحلة في العذاب: جزاء جهنم، خلود في النار، غضب من الله، لعنة من الله، إعداد من الله لعذاب عظيم؟ فكان جهنم ليست كل العذاب؛ ففيه عذاب وفيه خلود في النار وفيه غضب وفيه لعنة ثم إعداد لعذاب عظيم...

.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]

لقد أعطى الإسلام للإنسان أهمية كبيرة في مفاهيمه وتشريعاته، فاعتبر الحياة الإنسانية قيمة عظيمة في وعي الإنسان المسلم ووجدانه، مما ولّد في داخله شعوراً باحترامها على مستوى وجوب الاحتياط في حفظها وسلامتها، لكونها ملكاً لله الذي لا يبيح لأحد التصرف فيها بالقتل إلا بإذن الله،... وعلى هذا الأساس تكون المعادلة الإسلامية التشريعية أن الإنسان كلما ازداد إيماناً، كلما ازداد بُعداً عن الاعتداء على أرواح الناس واحتراماً لحياتهم؛ مما يجعل من الإيمان عنصر ضمانٍ للحياة العامة، كما هو عنصر ضمان للحياة الخاصة...

{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} إذ ذاك من الكبائر التي يستحق عليها الخلود في النار، لأن تعمّد قتل المؤمن يدل على نفسية خبيثة حاقدة، لا تحترم الحياة ولا تحترم الإيمان. وقد وردت في السنَّة أحاديث تدل على أن حرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة سبعين مرة، مما يوحي بالفكرة التي قدمناها في بداية الحديث بأنَّ قيمة حياة المؤمن عند الله في المستوى الكبير من الأهمية والاحترام...

ولكن ذلك لا يمنع من قبول توبة القاتل إذا تاب لله وندم على فعله، مع الاحتفاظ بحق أولياء الدم في القصاص أو الدية، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء ويقبل التوبة عن عباده، حتى أن الشرك يمكن أن يغفرْه الله لمن تاب عنه ودخل في الإسلام. أما قضية الحديث عن الخلود في النار للقاتل، فإنها تتصل بالاستحقاق كأية معصية كبيرة، ولا تتصل بالفعلية، كأيّ ذنبٍ من الذنوب التي يستحق الإنسان عليها العقاب، ولكن يمكن للعفو الإلهي أن ينال المذنبين إذا تابوا وإذا انفتحت عليهم رحمة الله. وعلى ضوء هذا، فلا بد من تأويل الروايات الدالة على أنه «لا توبة لقاتل المؤمن إلا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب» كما عن ابن عباس بحملها على عدم سقوط القصاص بتوبته، باعتبار أن ذلك يدخل في حقوق الناس لا في حق الله المجرد، مما يجعل القضية خاضعةً لموقف أولياء الدم، وربما تحمل هذه الروايات على سلوك سبيل التغليظ في القتل، كما روي عن سفيان الثوري أنّه سئل عن توبة القاتل، فقال: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلي الرّجل قالوا له: تب...

وقد نقل صاحب مجمع البيان عن بعض الإمامية أن قاتل المؤمن لا يوفق للتوبة، بمعنى أنه لا يختار التوبة. ونلاحظ عليه أنّ هذا خلاف الواقع، لأننا نعرف الكثيرين من القتلة تابوا توبة نصوحاً، وندموا على ذلك...