ثم ساق - سبحانه - جانبا من قصة آدم - عليه السلام - فذكر لنا كيف أنه نسى عهد ربه له ، فأكل من الشجرة التى نهاه الله - تعالى - عن الأكل منها ، ومع ذلك فقد قبل - سبحانه - توبته ، وغسل حوبته . . . قال - تعالى - : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ . . . } .
اللام فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ . . . } هى الموطئة للقسم ، والمعهود محذوف ، وهو النهى عن الأكل من شجرة معينة ، كما وضحه فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } أى : والله لقد عهدنا إلى آدم - عليه السلام - وأوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة { مِن قَبْلُ } أن يخالف أمرنا فيقربها ويأكل منها ، أو من قبل أن نخبرك بذلك - أيها الرسول الكريم - .
والفاء فى قوله { فَنَسِيَ } للتعقيب ، والمفعول محذوف . أى : فنسى العهد الذى أخذناه عليه بعدم الأكل منها .
والنسيان هنا يرى بعضهم أنه بمعنى الترك ، وقد ورد النسيان بمعنى الترك فى كثير من آيات القرآن الكريم . ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } أى : نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا وهو يوم القيامة .
وعليه يكون المعنى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل بعدم الأكل من الشجرة فترك الوفاء بعهدنا وخالف ما أمرناه به .
وعلى هذا التفسير فلا إشكال فى وصف الله - تعالى - له بقوله : { ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } لأن آدم بمخالفته لما نهاه الله - تعالى - عنه وهو الأكل من الشجرة - صار عاصيا لأمر ربه .
ومن العلماء من يرى أن النسيان هنا على حقيقته ، أى : أنه ضد التذكر فيكون المعنى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ما عاهدناه عليه ، وغاب عن ذهنه ما نهيناه عنه ، وهو الأكل من الشجرة .
فإن قيل : إن الناسى معذور . فكيف قال الله - تعالى - فى حقه : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } فالجواب : أن آدم - عليه السلام - لم يكن معذورا بالنسيان ، لأن الذر بسبب الخطأ والنسيان والإكراه . من خصائص هذه الأمة الإسلامية ، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تجاوز لى عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ . . } . للنسيان معنيان : أحدهما : الترك ، أى ترك الأمر والعهد ، وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ، ومنه { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } وثانيهما : قال ابن عباس : " نسى " هنا من السهو والنسيان ، وإنما أخذ الإنسان من أنه عهد إليه فنسى . . . وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم فى ذلك الوقت مؤاخذا بالنسيان ، وإن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا .
والمراد تسلية النبى - صلى الله عليه وسلم - أى : أن طاعة بنى آدم للشيطان أمر قديم أى : إن نقَض هؤلاء - المشركون - العهد ، فإن آدم - أيضا - عهدنا إليه فنسى . . . " .
وقوله : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } مقرر لما قبله من غفلة آدم عن الوفاء بالعهد .
قال الجمل : وقوله : { نَجِدْ } يحتمل أنه من الوجدان بمعنى العلم ، فينصب مفعولين ، وهما " له " و " عزما " ويحتمل أنه من الوجود الذى هو ضد العدم فينصب مفعولا وهو { عَزْماً } والجار والمجرور متعلق بنجد .
والعزم : توطين النفس على الفعل ، والتصميم عليه ، والمضى فى التنفيذ للشىء . .
أى : فنسى آدم عهدنا ، ولم نجد له ثبات قدم فى الأمور ، يجعله يصبر على عدم الأكل من الشجرة بل لانت عريكته وفترت همته بسبب خديعة الشيطان له .
ثم تجيء قصة آدم ، وقد نسي ما عهد الله به إليه ؛ وضعف أمام الإغراء بالخلود ، فاستمع لوسوسة الشيطان : وكان هذا ابتلاء من ربه له قبل أن يعهد إليه بخلافة الأرض ؛ ونموذجا من فعل إبليس يتخذ أبناء آدم منه عبرة . فلما تم الابتلاء تداركت آدم رحمة الله فاجتباه وهداه . .
والقصص القرآني يجيء في السياق متناسقا معه . وقصة آدم هنا تجيء بعد عجلة الرسول بالقرآن خوف النسيان ، فيذكر في قصة آدم نقطة النسيان . وتجيء في السورة التي تكشف عن رحمة الله ورعايته لمن يجتبيهم من عباده ، فيذكر في قصة آدم أن ربه اجتباه فتاب عليه وهداه . ثم يعقبها مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة الطائعين من أبنائه وعاقبة العصاة . وكأنما هي العودة من رحلة الأرض إلى المقر الأول ليجزى كل بما قدمت يداه .
فلنتبع القصة كما جاءت في السياق :
( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ) . .
وعهد الله إلى آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة ، تمثل المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة ، وتأكيد الشخصية ، والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عندما تريد ؛ فلا تستعبدها الرغائب وتقهرها . وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرقي البشري . فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي البشري . وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج الأولى .
من أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده لخلافة الأرض باختبار إرادته ، وتنبيه قوة المقاومة فيه ، وفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين الرغائب التي يزينها الشيطان ، وإرادته وعهده للرحمن . وها هي ذي التجربة الأولى تعلن نتيجتها الأولى : ( فنسي ولم نجد له عزما )ثم تعرض تفصيلاتها :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىَ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } .
يقول تعالى ذكره : وإن يضيع يا محمد هؤلاء الذين نصرّف لهم في هذا القرآن من الوعيد عهدي ، ويخالفوا أمري ، ويتركوا طاعتي ، ويتبعوا أمر عدوّهم إبليس ، ويطيعوه في خلاف أمري ، فقديما ما فعل ذلك أبوهم آدم وَلَقَدْ عَهِدْنا إلَيْهِ يقول : ولقد وصينا آدم وقلنا له : إنّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنّكُما منَ الجَنّةِ فوسوس إليه الشيطان فأطاعه ، وخالف أمري ، فحلّ به من عقوبتي ما حلّ .
وعنى جلّ ثناؤه بقوله : مِنْ قَبْلُ هؤلاء الذين أخبر أنه صرف لهم الوعيد في هذا القرآن وقوله : فَنَسِيَ يقول : فترك عهدي ، كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : " وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ " يقول : فترك .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَنَسِيَ قال : ترك أمر ربه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : قال له " يا آدَمُ إِن هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِك فَلا يُخْرِجَنّكُمَا مِنَ الجَنّةِ فَتَشْقَى " فقرأ حتى بلغ : " لا تَظْمَأُ فِيها وَلا تَضْحَى " ، وقرأ حتى بلغ : " وَمُلْكٍ لا يَبْلَى " قال : فنسي ما عهد إليه في ذلك ، قال : وهذا عهد الله إليه ، قال : ولو كان له عزم ما أطاع عدوّه الذي حسده ، وأبى أن يسجد له مع مَنْ سجد له إبليس ، وعصى الله الذي كرّمه وشرّفه ، وأمر ملائكته فسجدوا له .
حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن ، ومؤمل ، قالوا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما سُمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي .
وقوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " اختلف أهل التأويل في معنى العزم ها هنا ، فقال بعضهم : معناه الصبر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " أي صبرا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " ، قال : صبرا .
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجَوْزَجاني ، قال : حدثنا أبو النضر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، مثله .
وقال آخرون : بل معناه : الحفظ ، قالوا : ومعناه : ولم نجد له حفظا لما عهدنا إليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : حفظا لما أمرته .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، عن الأشجعيّ ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : حفظا .
حدثنا عباد بن محمد ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : حفظا لما أمرته به .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " يقول : لم نجد له حفظا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : العزم : المحافظة على ما أمره الله تبارك وتعالى بحفظه ، والتمسك به .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " يقول : لم نجعل له عزما .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا الحجاج بن فضالة ، عن لقمان بن عامر ، عن أبي أمامة قال : لو أن أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق الله تعالى آدم إلى يوم الساعة ، ووضعت في كفة ميزان ، ووضع حلم آدم في الكفة الأخرى ، لرجح حلمه بأحلامهم ، وقد قال الله تعالى : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " .
قال أبو جعفر : وأصل العزم اعتقاد القلب على الشيء ، يقال منه : عزم فلان على كذا : إذا اعتقد عليه ونواه ومن اعتقاد القلب : حفظ الشيء ، ومنه الصبر على الشيء ، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تبارك وتعالى ، وهو قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " فيكون تأويله : ولم نجد له عزم قلب ، على الوفاء لله بعهده ، ولا على حفظ ما عهد إليه .
لما كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومع قومه ذات عبرة للمكذبين والمعاندين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاندوه ، وذلك المقصود من قَصَصها كما أشرنا إليه آنفاً عند قوله { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً } [ طه : 99 ، 100 ] فكأن النبي صلى الله عليه وسلم استحب الزيادة من هذه القِصص ذات العبرة رجاء أن قومه يفيقون من ضلالتهم كما أشرنا إليه قريباً عند قوله { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } [ طه : 114 ] ؛ أعقبت تلك القصة بقصة آدم عليه السلام وما عرّض له به الشيطان ، تحقيقاً لفائدة قوله { وقل رب زدني علماً } [ طه : 114 ] . فالجملة عطف قصة على قصة والمناسبة ما سمعتَ .
والكلام معطوف على جملة { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } . وافتتاح الجملة بحرف التحقيق ولام القسم لمجرد الاهتمام بالقصة تنبيهاً على قصد التنظير بين القصتين في التفريط في العهد ، لأن في القصة الأولى تفريط بني إسرائيل في عهد الله ، كما قال فيها { ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد } [ طه : 86 ] ، وفي قصة آدم تفريطاً في العهد أيضاً . وفي كون ذلك من عمل الشيطان كما قال في القصة الأولى { وكذلك سولت لي نفسي } [ طه : 96 ] وقال في هذه { فوسوس إليه الشيطان } [ طه : 120 ] . وفي أن في القصتين نسياناً لما يجب الحفاظ عليه وتذكره فقال في القصة الأولى { فَنَسِيَ } [ طه : 16 ] وقال في هذه القصة { فنسي ولم نجد له عزماً } .
وعليه فقوله { من قبلُ } حُذف ما أضيف إليه ( قبلُ ) . وتقديره : من قبل إرسال موسى أو من قبل ما ذكر ، فإن بناء ( قبلُ ) على الضم علامة حذف المضاف إليه ونيّة معناه . والذي ذكر : إما عهد موسى الذي في قوله تعالى : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } [ طه : 13 ] وقوله { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } [ طه : 16 ] ؛ وإما عهد الله لبني إسرائيل الذي ذكّرهم به موسى عليه السلام لما رجع إليهم غضبان أسفاً ، وهو ما في قوله { أفطال عليكم العهد } [ طه : 86 ] الآية .
والمراد بالعهد إلى آدم : العهد إليه في الجنّة التي أنسي فيها .
والنسيان : أطلق هنا على إهمال العمل بالعهد عمداً ، كقوله في قصة السامري { فَنَسي } ، فيكون عصياناً ، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى : { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } الآية ، وقد مضت في سورة الأعراف ( 20 ، 21 ) . وهذا العهد هو المُبيّن في الآية بقوله { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك } [ طه : 117 ] الآية .
والعزم : الجزم بالفعل وعدم التردد فيه ، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه لعسر عمله أو إيثار ضده عليه . وتقدم قوله تعالى : { وإن عزموا الطلاق } في سورة البقرة ( 227 ) . والمراد هنا : العزم على امتثال الأمر وإلغاءُ ما يحسِّن إليه عدمَ الامتثال ، قال تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] ، وقال { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] ، وهم نوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وموسى ، وداوود ، وعيسى عليهم السلام .
واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلاً لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث .