ثم بين - سبحانه - صفات المتقين الذين يصلحون فى الأرض ولا يفسدون ، والذين أعد لهم - سبحانه - جنته فقال - تعالى - { الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء } : أى الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله فى جميع أحوالهم ، فهم يبذلونها ابتغاء وجه ربهم فى حال يسرهم وفى حال عسرهم ، وفى حال سرورهم وفى حال حزنهم ، وفى حال صحتهم وفى حال مرضهم ، لا يصرفهم صارف عن إنفاق أموالهم فى وجوه الخير ما داموا قادرين على ذلك .
وقوله { الذين يُنفِقُونَ } : فى محل جر صفة للمتقين . ويجوز أن يكون فى محل نصب أو رفع على القطع المشعر بالمدح .
وقال { يُنفِقُونَ } بالفعل المضارع ، للإشارة بأنهم يتجدد إنفاقهم فى سبيل الله آنا بعد آن بدون انقطاع .
وقدم الإنفاق على غيره من صفاتهم لأنه وصف إيجابى يدل على صفاء نفوسهم ، وقوة إخلاصهم ، فإن المال شقيق الروح ، فإذا أنفقواه فى حالتى السراء والضراء كان ذلك دليلا على التزامهم العميق لتعاليم دينهم وطاعة ربهم .
وقد مدح الله - تعالى - الذين ينفقون أموالهم فى سبيله فى عشرات الآيات من كتابه ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أما الصفتان الثانية والثالثة من صفات هؤلاء المتقين فهما قوله تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس } .
أى سارعوا أيها المؤمنون إلى العمل الصالح الذى يوصلكم إلى جنة عظيمة أعدها الله - تعالى - لمن يبذلون أموالهم فى السراء والضراء ، ولمن يمسكون غيظهم ، ويمتنعون عن إمضائه مع القدرة عليه ، ولمن يغضون عمن أساء إليهم . فالمراد بكظم الغيظ حبسه وإمساكه . يقال : كظم فلان غيظه إذا حبسه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بمن أغضبه . ويقال : كظم البعير جرته ، إذا ردها وكف عن الاجترار . وكظم القربة : إذا ملأها وشد على فمها ما يمنع من خروج ما فيها .
وقد ساق ابن كثير جملة من الأحاديث التى وردت فى فضل كظم الغيظ والعفو عن الناس ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب " .
وروى الإمام أحمد - بسنده - عن حارثة بن قدامة السعدى أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله : قل لى قولا ينفعنى وأقلل على لعلى أعقله : فقال له : " لا تغضب " فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا كل ذلك يقول : " لا تغضب " " .
وعن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عن من ظلمه ويعط من حرمه ، ويصل من قطعه " .
وكظم الغيظ والعفو عن الناس هاتان الصفتان إنما تكونان محمودتين عندما تكون الإساءة متعلقة بذات الإنسان ، أما إذا كانت الإساءة متعلقة بالدين بأن انتهك إنسان حرمة من حرمات الله ففى هذه الحالة يجب الغضب من أجل حرمات الله ، ولا يصح العفو عمن انتهك هذه الحرمة .
فلقد وصفت السيدة عائشة النبى صلى الله عليه وسلم بأنه كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شىء .
وقوله { والله يُحِبُّ المحسنين } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
والإحسان معناه الإتقان والإجادة . وأل فى المحسنين إما للجنس أى والله - تعالى - يحب كل محسن فى قوله و عمله ، ويكون هؤلاء الذين ذكر الله صفاتهم داخلين دخولا أوليا .
وإما أن تكون للعهد فيكون المعنى : والله - تعالى - يحب هؤلاء المحسنين الذين من صفاتهم أنهم ينفقون أموالهم في كل حال من أحوالهم ، ويكظمون غيظهم ، ويعفون عمن ظلمهم .
ثم يأخذ في بيان صفات المتقين :
( الذين ينفقون في السراء والضراء ) . .
فهم ثابتون على البذل ، ماضون على النهج ، لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء . السراء لا تبطرهم فتلهيهم . والضراء لا تضجرهم فتنسيهم . إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ؛ والتحرر من الشح والحرص ؛ ومراقبة الله وتقواه . . وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها ، المحبة للمال بفطرتها . . ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال ، إلا دافع أقوى من شهوة المال ، وربقة الحرص ، وثقلة الشح . . دافع التقوى . ذلك الشعور اللطيف العميق ، الذي تشف به الروح وتخلص ، وتنطلق من القيود والأغلال . .
ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة . فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها ، كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل - كما سيأتي في السياق القرآني - مكررا كذلك . مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة ، وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله .
( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ) . .
كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل ، بنفس البواعث ونفس المؤثرات . فالغيظ انفعال بشري ، تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ؛ فهو إحدى دفعات التكوين البشري ، وإحدى ضروراته . وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ؛ وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات .
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى . وهي وحدها لا تكفي . فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ؛ فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ؛ ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين . . وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن . . لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين . . إنها العفو والسماحة والانطلاق . .
إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ؛ وشواظ يلفح القلب ؛ ودخان يغشى الضمير . . فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب ، فهو الانطلاق من ذلك الوقر ، والرفرفة في آفاق النور ، والبرد في القلب ، والسلام في الضمير .
والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون . والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون . . والله " يحب " المحسنين . . والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير ، الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم . .
ومن حب الله للإحسان وللمحسنين ، ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه . وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب . . فليس هو مجرد التعبير الموحي ، ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير !
والجماعة التي يحبها الله ، وتحب الله . . والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان . . هي جماعة متضامة ، وجماعة متآخية ، وجماعة قوية . ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق !
{ الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } أُعدت الجنة التي عرضها السموات والأرض للمتقين ، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله ، إما في صرفه على محتاج ، وإما في تقوية مضعف على النهوض للجهاد في سبيل الله .
وأما قوله : { فِي السّرّاء } فإنه يعني : في حال السرور بكثرة المال ، ورخاء العيش والسرّاء : مصدر من قولهم سرّني هذا الأمر مسرّة وسرورا¹ والضراء : مصدر من قولهم : قد ضرّ فلان فهو يضرّ إذا أصابه الضرّ ، وذلك إذا أصابه الضيق والجهد في عيشه .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } يقول : في العسر واليسر .
فأخبر جلّ ثناؤه أن الجنة التي وصف صفتها لمن اتّقاه وأنفق ماله في حال الرخاء والسعة وفي حال الضيق والشدة في سبيله .
وقوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } يعني : والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه ، يقال منه : كظم فلان غيظه : إذا تجرّعه فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها وانتصارها ممن ظلمها . وأصل ذلك من كظم القربة ، يقال منه : كظمتُ القربة : إذا ملأتها ماء ، وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غمّا وحزنا ، ومنه قول الله عزّ وجلّ ، { وابْيَضّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } يعني ممتلىء من الحزن ، ومنه قيل لمجاري المياه الكظائم لامتلائها بالماء ، ومن قيل : أخذت بكظمه يعني بمجاري نفسه . والغيظ : مصدر من قول القائل : غاظني فلان فهو يغيظني غيظا ، وذلك إذا أحفظه وأغضبه .
وأما قوله : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } فإنه يعني : والصافحين عن الناس عقوبة ذنوبهم إليهم ، وهم على الانتقام منهم قادرون ، فتاركوها لهم .
وأما قوله { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } فإنه يعني : فإن الله يحبّ من عمل بهذه الأمور التي وصف أنه أعدّ للعاملين بها الجنة التي عرضها السموات والأرض . والعاملون بها هم المحسنون ، وإحسانهم هو عملهم بها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ } . . . الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } أي وذلك الإحسان ، وأنا أحبّ من عمل به .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاء وَالضّرّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } : قوم أنفقوا في العسر واليسر ، والجهد والرخاء ، فمن استطاع أن يغلب الشرّ بالخير فليفعل ، ولا قوّة إلا بالله ، فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم .
حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محرز أبو رجاء ، عن الحسن ، قال : يقال يوم القيامة : ليقم من كان له على الله أجر ! فما يقوم إلا إنسان عفا . ثم قرأ هذه الاَية : { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا داود بن قيس ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل ، عن عمّ له ، عن أبي هريرة في قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ كَظَمَ غَيْظا وَهُوَ يَقْدِرُ على إنْفَاذِهِ مَلأَهُ اللّهُ أمْنا وإيمانا » .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَالكَاظِمِينَ الغَيُظَ } . . . إلى الاَية : { واللّهُ يُحِبّ المُحْسِنِينَ } ، فالكاظمين الغيظ كقوله : { وإذَا مَا غَضِبُوا هُمُ يَغْفِرُونَ }¹ يغضبون في الأمر لو وقعوا به كان حراما فيغفرون ويعفون ، يلتمسون بذلك وجه الله¹ { وَالعَافِينَ عَنِ النّاسِ } كقوله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ } . . . إلى : { ألاَ تُحِبّونَ أن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ } يقول : لا تقسموا على أن لا تعطوهم من النفقة شيئا واعفوا واصفحوا .
ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة ، بقوله : { الذين ينفقون } الآية ، وظاهر هذه الآية أنها مدح بفعل المندوب إليه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : { في السراء والضراء } ، معناه : في العسر واليسر .
قال القاضي : إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط وسرور النفس ، ومع العسر الكراهية وضر النفس ، وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كاد أن يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له ، والكظام : السير الذي يشد به فم الزق والقربة ، وكظم البعير جرته{[3538]} : إذا ردها في جوفه ، وقد يقال لحبسه الجرة قبل أن يرسلها إلى فيه ، كظم ، حكاه الزجّاج ، فقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ومنه قول الراعي : [ الكامل ]
فَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بجِرَّةٍ . . . من ذي الأباطح أذرعين حقيلا{[3539]}
و { الغيظ } : أصل الغضب ، وكثيراً ما يتلازمان ، ولذلك فسر بعض الناس { الغيظ } بالغضب وليس تحرير الأمر كذلك ، بل { الغيظ } فعل النفس لا يظهر على الجوارح ، والغضب حال لها معه ظهور في الجوارح وفعل ما ولا بد ، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله تعالى ، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند إليه تعالى غيظ ، وخلط ابن فورك في هذه اللفظة ، ووردت في كظم الغيظ وملك النفس عند الغضب أحاديث ، وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس ، ومنه قوله عليه السلام< ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب>{[3540]} ، ومنه قول النبي عليه السلام : ( ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في الله ) {[3541]} ، وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال : «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ، ملأه الله أمناً وإيماناً »{[3542]} ، والعفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير ، وهذا حيث يجوز للإنسان ألا يعفو ، وحيث يتجه حقه ، وقال أبو العالية : { والعافين عن الناس } ، يريد المماليك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن على جهة المثال ، إذ هم الخدمة ، فهم مذنبون كثيراً ، والقدرة عليهم متيسرة ، وإنفاذ العقوبة سهل ، فلذلك مثل هذا المفسر به ، وذكر تعالى بعد ذلك أنه { يحب المحسنين } ، فعم هذه الوجوه وسواها من البر ، وهذا يدلك على أن الآية في المندوب إليه ، ألا ترى إلى سؤال جبريل عليه السلام ، فقال : ما الإيمان ؟ ثم قال ما الإسلام ؟ فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم المفروضات ، ثم قال له : ما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) {[3543]} ، الحديث .