ثم بين - سبحانه - أحوال الناس ، وأنهم في حاجة إلى الرسل ليبشروهم وينذروهم ويحكموا بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه فقال - تعالى - :
{ كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما بين في الآية المقتدمة أن سبب إصرار هؤلاء الكفار على كفرهم هو حب الدنيا ، بين هذه الآية أن هذا المعنى غير مختص بهذا الزمان ، بل كان حاصلا في الأزمنة المتقادمة ، لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق ثم اختلفوا ، وما كان اختلافهم إلا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا " .
و { أُمَّةً } القوم المجتمعون على الشيء الواحد يقتدي بعضهم ببعض مأخوذ من أم بمعنى قصد لأن كل واحد من أفراد القوم يؤم المجموع ويقصده في مختلف شؤونه .
وللعلماء أقوال في معنى قوله - تعالى - { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } .
القول الأول الذي عليه جمهور المفسرين أن المعنى : كان الناس أمة واحدة متفقين على توحيد الله - تعالى - مقرين له بالعبودية مجتمعين على شريعة الحق ثم اختلفوا ما بين ضال ومهتد ، فبعث الله إليهم النبيين ليبشروا من اهتدى منهم بجزيل الثواب ، ولينذروا من ضل بسوء العذاب ، وليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه بالحكم العادل ، والقول الفاصل .
قال القفال : ويشهد لصحة هذا الرأي قوله - تعالى - { فَبَعَثَ الله النبيين . . . } فهذا يدل على أن الأنبياء - عليهم السلام - إنما بعثوا حين الاختلاف ، ويتأكد هذا بقوله :
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " ويتأكد أيضاً بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين . . } .
و " كان " على هذا الرأي على بابها من المضي ، وعدم استمرار الحكم ، وعدم امتداده إلى المستقبل ، لأن الناس كانوا مهتدين ثم زالت الهداية عنهم أو عن كثير منهم بسبب اختلافهم فأرسل الله - تعالى - رسله لهدايتهم .
القول الثاني يرى أصحابه أن المعنى : كان الناس أمة واحدة مجتمعين على الضلال والكفر فبعث الله النبيين لهدايتهم .
و " كان " على هذا الرأي - أيضاً - على بابها من المضي والانقضاء ، ولا تحتاج على هذا الرأي إلى تقدير كلام محذوف ، وهو ثم اختلفوا فبعث . . إلخ .
ومن العلماء الذين رجحوا القول الأول الإِمام ابن كثير فقد قال : عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . . وهكذا قال قتادة ومجاهد . وقال العوفي عن ابن عباس { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول كانوا كفاراً { فَبَعَثَ الله النبيين } والقول الأول عن ابن عباس وهو أصح سنداً ومعنى ؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحاً - عليه السلام - فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض .
أما الرأي الثالث فقد قرره الإِمام القرطبي بقوله : ويحتمل أن تكون " كان " للثبوت ، والمراد الإِخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق ، لولا مَنُّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم . فلا يختص " كان " على هذا التأويل بالمضي فقط ، بيل معناه معنى قوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } وهذا الرأي قد اختاروه الأستاذ الإِمام محمد عبده تفسيره للآية الكريمة ووافقه عليه بعض العلماء الذين كتبوا في تفسير هذه الآية . قال الأستاذ الإِمام ما ملخصه .
" خلق الله الإِنسان أمة واحدة أي مرتبطاً بعضه ببعض في المعاش لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلا مجتمعين يعاون بعضهم بعضاً ، فكل واحد منهم يعيش ويحيا بشيء من عمله لكن قواه النفسية والبدنية قاصرة في توفير جميع ما يحتاج إليه ، فلا بد من انضمام قوى الآخرين إلى قوته . . . وهذا معنى قولهم : " الإنسان مدني بطبعه " يريدن بذلك أنه لم يوهب من القوى ما يكفي للوصول إلى جميع حاجاته إلا بالاستعانة بغيره . . . ولما كان الناس كذلك كان لا بد لهم من الاختلاف بمقتضى فطرهم ، وكان من رحمة الله أن يرسل إليهم مبشرين ومنذرين .
وترتيب بعثة الرسل على وحدة الأمة في الآية التي تفسرها يكون على هذا المعنى :
أن الله قضى أن يكون الناس أمة واحدة يرتبط بعضهم ببعض ولا سبيل لعقولهم وحدها إلى الوصول إلى ما يلزم لهم في توفير مصالحهم ودفع المضار عنهم ، لتفاوت عقولهم ، واختلاف فطرهم ، وحرمانهم من الإِلهام الهادي لكل منهم إلى ما يجب عليه نحو صاحبه ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأيدهم بالدلائل القاطعة على صدقهم ، وعلى أن ما يأتون به إنما هو من عند الله - تعالى - القادر على إثابتهم وعقوبتهم . . . " .
وقال فضيلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ما ملخصه : وإن هذا الرأي الذي اختاره الأستاذ الإِمام هو الذي نختاره ، وعلى هذا التأويل لا يكون ثمة حاجة إلى تقدير محذوف ، لأن ذات حالهم من كونهم لا علم لهم بالشرائع ولا تهتدي عقولهم إلى الحقائق بنفسها توجب البعث ، ولأن تلك الحال التي تكون على الفطرة وحدها توجب الاختلاف فتوجب بعث النبيين . . ثم إن نفس كل إنسان فيها نزوع إلى الاجتماع ، وحيث كان الاجتماع فلا بد من نظام يربط ، وشرع يحكم .
وعلى هذا التأويل أيضا تكون الفاء في قوله : { فَبَعَثَ . . . } - وهي التي يقول عنها النحويون إنها للترتيب والتعقيب - في موضعها من غير حاجة إلى تقدير ، لأن كون الناس أمة واحدة اقتضت الرسالة واقتضت الاختلاف .
و " كان " على هذا التأويل تدل على الاستمرار والثبوت ، لأن الناس بمقتضى فطرهم دائما في حاجة إلى شرع السماء لا يهتدون إلا به .
ثم قال فضيلته : وقد يقول قائل : إن جعل " كان " للاستمرار يفيد أن وحدة الناس في الفطرة وتأديتها إلى التناحر يقتضي بعث النبيين إلى يوم القيامة ، وأنه لا بد من نبي لعصرنا ، ونحن نسلم بالاعتراض ولا ندفع إيراده ونقول : نعم إنه لا بد من قيام رسالة إلى يوم القيامة وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي جاءت بكتاب تتجدد به الرسالة والبعث إلى أن تفني الأرض ومن عليها وهذا الكتاب هو القرآن الكريم الذي لا تبلى جدته ، والذي تكفل الله بحفظه ، وبإعجازه إلى يوم القيامة ، والذي من يقرؤه فكأنهما يتلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم " .
هذه هي أشهر الأقوال في معنى قوله - تعالى - { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } وهناك أقوال أخرى لم نذكرها لضعفها .
وقوله - تعالى - : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } معطوف على { فَبَعَثَ } ، والمراد بالكتاب الجنس .
والمعنى : وأنزل - سبحانه - مع هؤلاء النبيين الذين بعثهم مبشرين ومنذرين كلامه الملتبس بالحق والجامع لما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا ، لكي يفصلوا بواسطته بين الناس فيما اختلفوا من شئون دينيه ودنيويه .
وذكر - سبحانه - الكتاب بصيغة المفرد للإِشارة إلى أن كتب النبيين وإن تعددت إلا أنها في جوهرها كتاب واحد لاشتمالها على شرع واحد في أصله ، وإذا كان هناك خلاف بينها ففي تفاصيل الأحكام وفروعها لا في جوهرها وأصولها ، وقوله : { بالحق } متعلق بأنزل ، أو حال من الكتاب أي ملتبسا شاهدا به .
والضمير في قوله : { لِيَحْكُمَ . . } يجوز أن يعود إلى الله - تعالى - أو إلى النبيين ، أو إلى الكتاب . ورجح بعضهم عودته إلى الكتاب لأنه أقرب مذكور . والجملة تعليلية للإِنزال المذكور .
وفي إسناد الحكم إلى الكتاب تنبيه للناس إلى أن من الواجب عليهم أن يرجعوا إليه عند كل اختلاف . لأن هذا هو المقصد الأساسي من إنزال الكتب السماوية .
وللأستاذ الإِمام محمد عبده كلام نفيس في هذا المعنى فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : " الحكم مسند إلى الكتاب نفسه ، فالكتاب ذاته هو الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وفيه نداء للحاكمين بالكتاب أن يلزموا حكمه ، وألا يعدلوا عنه إلى ما تسوله الأنفس وتزينه الأهواء . . ولو ساغ للناس أن يؤولوا نصا من نصوص الكتب على حسب ما تنزع إليه عقولهم بدون رجوع إلى بقية النصوص ، لما كان لإِنزال الكتب فائدة ، ولما كانت الكتب في الحقيقة حاكمة ، بل كانت متحكمة فيها الأهواء ، فننعود المصلحة مفسدة ، وينقلب الدواء علة ، ولهذا رد الله الحكم إلى الكتاب نفسه لا إلى هوى الحاكم به .
. ونسبة الحكم إلى الكتاب هي كنسبة النطق والهدى والتبشير إليه في قوله - تعالى - : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } وقوله - تعالى - : { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين . . . } ثم بقول - رحمه الله - " يتخذ الواحد منهم كلمة من الكتاب أو أثراً مما جاء به وسيلة إلى تسخير غيره لما يريد ، وذلك قطع الكلمة أو الأثر عن بقية ما جاء في الكتاب والآثار الأخر ولي اللسان أو تأويله بيغر ما قصد منه ؛ وما هم المؤول أن يعمل بالكتاب وإنما كل ما يقصد هو أن يصل إلى مطلب لشهوته ، أو عضد لسطوته ، سواء أهدمت أحكام الله أم قامت ، واعوجت السبيل أم استقامت ، ثم يأتي ضال آخر يريد أن ينال من هذا ما نال غيره ، فيحرف ويؤول حتى يجد المخدوعين بقوله ، ويتخذهم عونا على الخادع الأول ، فيقع الاختلاف والاضطراب ، وآلة المختلفين في ذلك هو الكتاب .
ثم بين - سبحانه الأسباب التي أدت إلى اختلاف الناس في الكتاب الذي أنزله لهدايتهم فقال { وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ } .
والضمير في قوله : { فِيهِ } وفي قوله : { أُوتُوهُ } يعود إلى الكتاب ، والمعنى عليه : وما اختلف في شأن الكتاب الهادي الذي لا لبس فيه ، المنزل لإزالة الاختلاف ، إلا الذين أوتوه ، أي علموه ووقفوا على تفاصيله ، ولم يكن اختلافهم لا لتباس عليهم من جهته وإنما كان خلافهم من بعد ما ظهرت لهم الدلائل الواضحة الدالة على صدقه ، وما حملهم على هذا الاختلاف إلا البغي والظلم والحسد الذي وقع بينهم .
والمراد بالذين اختلفوا فيه أهل الكتاب اليهود والنصارى ، واختلافهم في الكتاب يشمل تصديقهم ببعضه وتكذيبهم بالبعض الآخر ، كما يشمل اختلافهم في تفسيره وتأويله وتنفيذ أحكامه وعدم تنفيذها ، وذهاب كل فريق منهم مذهباً يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في فروعه .
وعبر عن الإِنزال بالإِيتاء - كما يقول الآلوسي - للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق ، فإن الإِنزال لا يفيد ذلك ، وقيل : عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين ، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم " .
وقوله : { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } متعلق باختلف ، وفيه زيادة تشنيع عليهم لأنهم قد اختلفوا فيه بعد أن قامت أمامهم الحجج الناصعة الدالة على الحق .
وقوله : { بَغْياً } مفعول لأجله لاختلفوا { بَيْنَهُم } متعلق بمحذوف صفة لقوله { بَغْياً } .
أي لا داعي الاختلاف هو البغي والحسد الذي وقع بينهم ، فجعل كل فريق منهم يخطئ الآخر ، ويجرح رأيه .
وفي هذا التعبير إشارة إلى أن البغي قد باض وفرخ عندهم ، فهو يحرم عليهم ، ويدور بينهم ، ولا طمع له في غيرهم ، ولا ملجأ له سواهم ، لأنهم أربابه الذين تمكنوا منه ، وتمكن منهم بقوة ورسوخ .
وبعضهم جعل الضمير في قوله : { فِيهِ } يعود إلى الحق ، والضمير في قوله : { أُوتُوهُ } يعود إلى الكتاب . أي : وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب .
ويرى بعض العلماء أن عودة الضمير في كليهما إلى الحق أو إلى الكتاب جائز ، وأن المعنى على التقدير واحد ، لأن الكتاب أنزل ملابساً للحق ومصاحباً له ، فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق والجملة الكريمة تحذير شديد من الوقوع فيما وقع فيه غيرهم من اختلاف يؤدي إلى البغي والتنازع والإِعراض عن الحق .
ثم بين - سبحانه - حال المؤمنين بعد بيانه لحال الغاوين فقال - تعالى - { فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ } .
أي : فهدى الله الذين آمنوا وصدقوا رسله إلى الحق الذي اختلف فيه أهل الضلالة ، وذلك الهدى بفضل توفيقه لهم وتيسيره لأمرهم .
والفاء في قوله : { فَهَدَى } فصيحة لأنها أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف .
والتقدير : إذا كان هذا شأن الضالين المختلفين في الحق ، فقد هدى الله بفضله الذين آمنوا إلى الصواب .
وبين - سبحانه - أن الذين رزقهم الهداية هم الذين آمنوا ، للإِشعار بأن سبب هدايتهم للحق هو إيمانهم وتقواهم ، واستجابتهم للداعي الذي دعاهم إلى الطريق المستقيم .
وأسند الهداية إليه - سبحانه - لأنه هو خالقها ، ولأن قلوب العباد بيديه فهو يقلبها كيف يشاء ، وهذا لا ينافي أن للعبد اختياراً وكسباً فهو إذا سار في طريق الحق رزقه الله النور المشرق الذي يهديه ، وإن سار في طريق الضلالة واستحب العمى على الهدى سلب الله عنه توفيقه بسبب إيثاره الضلالة على الهداية .
وقوله - تعالى - في ختام هذه الآية : { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } تذييل قصد به بيان كمال سلطانه ، وتمام قدرته .
أي : والله هو الهادي من يشاء من عباده إلى طريق الحق الذي لا يضل سالكه ، فليس لأحد سلطان بجوار سلطانه ، ولو أراد أن يكون الناس جميعاً مهديين لكانوا ، ولكن حكمته اقتضت أن يختبرهم ليتميز الخبيث من الطيب ، فيجازي كل فريق بما يستحقه .
قال ابن كثير : وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصللي يقول : " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض علام الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " .
وفي الدعاء المأثور : اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماما .
وبذلك نرى أن الآية قد بينت أن الناس لا يستغنون عن الدين الذي شرعه الله لهم على لسان رسله - عليهم الصلاة والسلام - ، وأن الأشرار من الناس هم الذين يحملهم البغي على الاختلاف في الحق بعدج ظهوره لهم ، أما الأخيار منهم فهم الذين اهتدوا بتوفيق الله وتيسيره إلى طريق الخير والصواب { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
وعلى ذكر الموازين والقيم ؛ وظن الذين كفروا بالذين آمنوا ؛ وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله . . ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد ، والموازين والقيم ؛ وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون ؛ وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون :
( كان الناس أمة واحدة ؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ؛ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم - فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . .
هذه هي القصة . . كان الناس أمة واحدة . على نهج واحد ، وتصور واحد . وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم ، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات . فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد . وهم أبناء الأسرة الأولى : أسرة آدم وحواء . وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعا نتاج أسرة واحدة صغيرة ، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم ، وليجعلها هي اللبنة الأولى . وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى . حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها ، وتفرقوا في المكان ، وتطورت معايشهم ؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة ، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها ، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات .
عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر ، وتعددت المناهج ، وتنوعت المعتقدات . . وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . .
( وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) . .
وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى . . إن من طبيعة الناس أن يختلفوا ؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم ؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض . . إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة ، واستعدادات شتى من الوان متعددة ؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق ، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة ، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله . فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف ؛ ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات . . ( ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك - ولذلك خلقهم ) . .
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشى ء بدوره اختلافا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق . . ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعا حين تصلح وتستقيم . . هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح . الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات ؛ فلا يقتلها ولا يكبحها ؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح .
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون ؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون ؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل ، ويثوب الجميع منه إلى اليقين :
( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) .
ولا بد أن نقف عند قوله تعالى " بالحق " . . فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب ؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل ، والقول الفصل ، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم . . لا حق غيره . ولا حكم معه . ولا قول بعده . وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد ؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس ؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض . . بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة ؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة ؛ ولا يقوم على الأرض السلام ؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال .
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم ؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف . . إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق ؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
وهو كتاب واحد في حقيقته ، جاء به الرسل جميعا . فهو كتاب واحد في أصله ، وهي ملة واحدة في عمومها ، وهو تصور واحد في قاعدته : إله واحد ، ورب واحد ، ومعبود واحد ، ومشرع واحد لبني الإنسان . . ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال ؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات ؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام ، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق . بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير .
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد . . كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله ، يقوم على القاعدة الأصيلة : قاعدة التوحيد المطلق . . ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة ، وتتراكم الخرافات والأساطير ، حتى يبعد الناس نهائيا عن ذلك الأصل الكبير . وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة ، وتنفي ما علق بها من الانحرافات ، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات . . وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين ، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون ، وهم لا يشعرون ، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور ، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين !
وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني ، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، في كل زمان ، ومع كل رسول ، منذ أقدم الأزمان .
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس ، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه . ولم يكنبد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني ، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني ، ولا يتأثر بالقصور الإنساني ، ولا يتأثر الجهل الإنساني !
وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علما غير محدود . علم ما كان وما هو كائن وما سيكون . علمه كله لا مقيدا بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل ، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول ، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء . . ولا مقيدا بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد ، ومنظور ومحجوب ، ومحسوس وغير محسوس . . في حاجة إلى إله يعلم ما خلق ، ويعلم من خلق . . ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع .
وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة ، واستعلاء على النقص ، واستعلاء على الفناء ، واستعلاء على الفوت ، واستعلاء على الطمع ، واستعلاء على الرغبة والرهبة . . واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه . . في حاجة إلى إله ، لا أرب له ، ولا هوى ، ولا لذة ، ولا ضعف في ذاته - سبحانه - ولا قصور !
أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة ، والظروف المتغيرة ، والحاجات المتجددة ؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت . على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه ، فيدرك خطأه وصوابه ، وغيه ورشاده ، وحقه وباطله ، من ذلك الميزان الثابت . . وبهذا وحده تستقيم الحياة . ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله !
إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل . إنما جاء ليحتكم الناس إليه . . وإليه وحده . . حين يختلفون . .
ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشىء حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية :
إن الإسلام يضع( الكتاب )الذي أنزله الله " بالحق " ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية . ثم تمضي الحياة . فإما اتفقت مع هذه القاعدة ، وظلت قائمة عليها ، فهذا هو الحق . وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى ، فهذا هو الباطل . . هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعا . في فترة من فترات التاريخ . فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل . وليس الذي يقرره الناس هو الحق ، وليس الذي يقرره الناس هو الدين . إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء ، وقولهم لشيء ، وإقامة حياتهم على شيء . . لا تحيل هذا الشيء حقا إذا كان مخالفا للكتاب ؛ ولا تجعله أصلا من أصول الدين ؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين ؛ ولا تبرره لأن أجيالا متعاقبة قامت عليه . .
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس ! وفي التاريخ الإسلامي مثلا وقع انحراف ، وظل ينمو وينمو . . فلا يقال : إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام ! كلا ! إن الإسلام يظل بريئا من هذا الواقع التاريخي . ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافا لا يصلح حجة ولا سابقة ؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله ، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
ولقد جاء الكتاب . . ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك ؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب ، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه :
( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات . . بغيا بينهم ) . .
فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج ؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد .
وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب ، القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى ، أو في نفسيهما جميعا . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق :
( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) . .
هداهم بما في نفوسهم من صفاء ، وبما في أرواحهم من تجرد ، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق . وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة :
( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . .
هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب . وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق . ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات ، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات . .
والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء ، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط ؛ أولئك يدخلون في السلم ، وأولئك هم الأعلون ، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون ، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين !
{ كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
اختلف أهل التأويل في معنى الأمة في هذا الموضع ، وفي الناس الذين وصفهم الله بأنهم كانوا أمة واحدة فقال بعضهم : هم الذين كانوا بين آدم ونوح ، وهم عشرة قرون ، كلهم كانوا على شريعة من الحق ، فاختلفوا بعد ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا همام بن منبه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله «كانَ النّاسُ أمةً واحدةً فاختْلفُوا » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : كانوا على الهدى جميعا ، فاختلفوا فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرينَ فكان أولَ نبيّ بعث نوح .
فتأويل الأمة على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس الدين ، كما قال النابغة الذبياني :
حَلَفْتُ فَلَمْ أتْركْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً *** وَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمّةٍ وَهُوَ طائِعُ
يعني ذا الدين . فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء : كان الناس أمة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وأصل الأمة الجماعة ، تجتمع على دين واحد ، ثم يكتفى بالخبر عن الأمة من الخبر عن الدين لدلالتها عليه كما قال جل ثناؤه : وَلَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أمّةً وَاحِدَةً يراد به أهل دين واحد وملة واحدة . فوجه ابن عباس في تأويله قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا .
وقال آخرون : بل تأويل ذلك كان آدم على الحق إماما لذرّيته ، فبعث الله النبيين في ولده ووجهوا معنى الأمة إلى الطاعة لله والدعاء إلى توحيده واتباع أمره من قول الله عزّ وجل : إنّ إبْرَاهيمَ كانَ أُمّةً قانِتا لِلّهِ حَنِيفا يعني بقوله أُمّةً إماما في الخير يقتدى به ، ويتبع عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كانَ النّاسُ أُمْةً وَاحِدَةً قال : آدم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : آدم ، قال : كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال مجاهد : آدم أمة وحده ، وكأنّ من قال هذا القول استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرقة فيمن سماه بالأمة ، كما يقال : فلان أمة وحده ، يقول مقام الأمة . وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير ، فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم سماه بذلك أمة .
وقال آخرون : معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج ذرية آدم من صلبه ، فعرضهم على آدم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً . وعن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، قال : كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ففطرهم يومئذٍ على الإسلام ، وأقرّوا له بالعبودية ، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم . ثم اختلفوا من بعد آدم ، فكان أبيّ يقرأ : «كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللّهُ النَبِييّنَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ » إلى «فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ » وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحدَةً قال : حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم ، فبعث الله النبيين . قال : هذا حين تفرّقت الأمم .
وتأويل الآية على هذا القول نظير تأويل قول من قال بقول ابن عباس : إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدم ونوح . وقد بينا معناه هنالك إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالف الوقت الذي وقته ابن عباس .
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك ، وقالوا : إنما معنى قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً على دين واحد ، فبعث الله النبيين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول : كان دينا واحدا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال : إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كانَ النّاسُ أُمةً وَاحِدَةً يقول : دينا واحدا على دين آدم ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق . كما قال أبيّ بن كعب وكما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هي في قراءة ابن مسعود : «اختلفوا عنه » عن الإسلام .
فاختلفوا في دينهم ، فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارا منه إليهم .
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام ، كما روى عكرمة ، عن ابن عباس ، وكما قاله قتادة .
وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه . وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك . ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيّ هذه الأوقات كان ذلك ، فغير جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل من أن الناس كانوا أمة واحدة ، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياء والرسل . ولا يضرّنا الجهل بوقت ذلك ، كما لا ينفعنا العلم به إذا لم يكن العلم به لله طاعة ، غير أنه أيّ ذلك كان ، فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة ، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحقّ دون الكفر بالله والشرك به . وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها يونس : وَما كانَ النّاسُ إلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقتْ مِنْ رَبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فتوعد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع ، ولا على كونهم أمة واحدة ، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك ، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان ، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته ، ومحال أن يتوعد في حال التوبة والإنابة ، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك .
وأما قوله : فَبَعَثَ اللّهُ النَبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فإنه يعني أنه أرسل رسلاً يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب ، وكريم المآب ويعني بقوله وَمُنْذِرِينَ ينذرون من عصى الله فكفر به ، بشدة العقاب ، وسوء الحساب والخلود في النار وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بالحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني بذلك ليحكم الكتاب وهو التوراة بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه فأضاف جل ثناؤه الحكم إلى الكتاب ، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين ، إذ كان من حكم من النبيين والمرسلين بحكم ، إنما يحكم بما دلهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عزّ وجل ، فكان الكتاب بدلالته على ما دل وصفه على صحته من الحكم حاكما بين الناس ، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغْيا بَيْنَهُمْ .
يعني جل ثناؤه بقوله : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة ، إلاّ الّذينَ أُوتُوهُ يعني بذلك اليهود من بني إسرائيل ، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها . والهاء في قوله «أوتوه » عائدة على الكتاب الذي أنزله الله . مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ يعني بذلك : من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتاب الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله ، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه ، ولا العمل بخلاف ما فيه . فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتاب التوراة ، واختلفوا فيه على علم منهم ، ما يأتون متعمدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه .
ثم أخبر جل ذكره أن تعمدهم الخطيئة التي أنزلها ، وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمره ، إنما كان منهم بغيا بينهم . والبغي مصدر من قول القائل : بغى فلان على فلان بغيا إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه ، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض ، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت : بغى كل ذلك بمعنى واحد ، وهي زيادته وتجاوز حده . فمعنى قوله جل ثناؤه : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ من ذلك . يقول : لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبي عن جهل منهم به ، بل كان اختلافهم فيه ، وخلاف حكمه من بعد ما ثبتت حجته عليهم بغيا بينهم ، طلب الرياسة من بعضهم على بعض ، واستذلالاً من بعضم لبعض . كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ يقول : إلا الذين أوتوا الكتاب والعلم مِنْ بَعدِ ما جاءَتُهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ يقول : بغيا على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها ، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس . فبغى بعضهم على بعض ، وضرب بعضهم رقاب بعض .
ثم اختلف أهل العربية في «مِن » التي في قوله : مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ ما حكمها ومعناها ؟ وما المعنى المنتسق في قوله وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ ؟ فقال بعضهم : من ذلك للذين أوتوا الكتاب وما بعده صلة له . غير أنه زعم أن معنى الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم من بعد ما جاءتهم البينات . وقد أنكر ذلك بعضهم فقال : لا معنى لما قال هذا القائل ، ولا لتقديم البغي قبل «من » ، لأن «من » إذا كان الجالب لها البغي ، فخطأ أن تتقدمه لأن البغي مصدر ، ولا تتقدم صلة المصدر عليه . وزعم المنكر ذلك أن «الذين » مستثنى ، وأن «من بعد ما جاءتهم البينات » مستثنى باستثناء آخر . وأن تأويل الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، ما اختلفوا فيه إلا بغيا ، ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات . فكأنه كرّر الكلام توكيدا . وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية ، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله ، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيا ، فذلك أشبه بتأويل الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لَما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم .
يعني جل ثناؤه بقوله : فَهَدَى اللّهُ : فوفق الذي آمنوا وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه . وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه ، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته : الجمعة ، ضلوا عنها وقد فرضت عليهم كالذين فرض علينا ، فجعلوها السبت فقال صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ الاَخِرُونَ السّابِقُونَ ، بَيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهَذَا اليَوْمُ الّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانا اللّهُ لَهُ ، فَلِلْيَهُودِ غَدا وللنّصَارَى بَعْدَ غَدٍ » .
حدثنا بذلك أحمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عياض بن دينار الليثي ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم . فذكر الحديث .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ الاَخِرُونَ الأوّلُونَ يَوْمَ القِيامَةِ ، نَحْنُ أوّلُ النّاسِ دُخُولاً الجَنّة بَيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَدَانا اللّهُ لِما اختَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ فَهذَا الْيوْمُ الّذِي هَدانَا اللّهُ لهُ والنّاسُ لنَا فِيهِ تَبَعٌ ، غَدا لِلْيهُودِ ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنّصَارَى » .
وكان مما اختلفوا فيه أيضا ما قال ابن زيد ، وهو ما :
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا للإسلام ، واختلفوا في الصلاة ، فمنهم من يصلى إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس ، فهدانا للقبلة واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض يوم ، وبعضهم بعض ليلة ، وهدانا الله له . واختلفوا في يوم الجمعة ، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد ، فهدانا الله له . واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود كان يهوديا ، وقالت النصارى كان نصرانيا ، فبرأه الله من ذلك ، وجعله حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين للذين يدّعونه من أهل الشرك . واختلفوا في عيسى ، فجعلته اليهود لفرية ، وجعلته النصارى ربا ، فهدانا الله للحق فيه فهذا الذي قال جل ثناؤه : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنهِ .
قال : فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد ، وبما جاء به لما اختلف هؤلاء الأحزاب من بني إسرائيل الذين أوتوا الكتاب فيه من الحق بإذنه أن وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحقّ من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية إذ كانوا أمة واحدة ، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن ، فصاروا بذلك أمة وسطا ، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس . كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة كانوا شهداء على قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وآل فرعون ، أن رسلهم قد بلغوهم ، وأنهم كذبوا رسلهم . وهي في قراءة أبيّ بن كعب : «ليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » . فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يقول : اختلف الكفار فيه ، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك وهي في قراءة ابن مسعود : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا «عنه » عن الإسلام .
وأما قوله : بإذْنِهِ فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له ، وقد بينا معنى الإذن إذ كان بمعنى العلم في غير الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا .
وأما قوله : وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم فإنه يعني به : والله يسدد من يشاء من خلقه ويرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه ، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيا بينهم ، فسدّدهم لإصابة الحق والصواب فيه .
وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحق من أن كل نعمة على العباد في دينهم أو دنياهم ، فمن الله عز وجل .
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيه أهداهم للحق أم هداهم للاختلاف ؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم ، وإن كان هداهم للحق فيكف قيل : فَهَدَى اللّهَ الّذِين آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ؟ قيل : إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما معنى ذلك : فهدى الله الذين آمنوا للحق فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه ، فكفر بتبديله بعضهم ، وثبت على الحقّ والصواب فيه بعضهم ، وهم أهل التوراة الذين بدّلوها ، فهدى الله للحق مما بدلوا وحرّفوا الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر : فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة ، فقال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت ، و«مِنْ » إنما هي في كتاب الله في «الحق » واللام في قوله : لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وأنت تحوّل اللام في «الحقّ » ، و«من » في «الاختلاف » في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبا ؟ قيل : ذلك في كلام العرب موجود مستفيض ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبهم بمنطقهم ، فمن ذلك قول الشاعر :
كانَتْ فَريضَةَ ما تَقَولُ كمَا *** كانَ الزّنَاءُ فَريضَة الرّجْمِ
وإنما الرجم فريضة الزنا . وكما قال الاَخر :
إنّ سِرَاجا لَكرِيمٌ مَفْخَرُهْ *** تَحْلَى بِهِ العَينُ إذَا ما تَجْهَرُهْ
وإنما سراج الذي يحلى بالعين ، لا العين بسراج .
وقد قال بعضهم : إن معنى قوله فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ أن أهل الكتب الأول اختلفوا ، فكفر بعضهم بكتاب بعض ، وهي كلها من عند الله ، فهدى الله أهل الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها ، وذلك قول ، غير أن الأول أصحّ القولين ، لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد .
{ كان الناس أمة واحدة } متفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان ، أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة إدريس أو نوح . { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } أي فاختلفوا فبعث الله ، وإنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه . وعن كعب ( الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون ) . { وأنزل معهم الكتاب } يريد به الجنس ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابا يخصه ، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب . يخصهم وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم . { بالحق } حال من الكتاب ، أي ملتبسا بالحق شاهدا به . { ليحكم بين الناس } أي الله أو النبي المبعوث ، أو كتابه . { فيما اختلفوا فيه } في الحق الذي اختلفوا فيه ، أو فيما التبس عليهم . { وما اختلف فيه } في الحق ، أو الكتاب . { إلا الذين أوتوه } أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجا للاختلاف سببا لاستحكامه . { من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم } حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا . { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف . { من الحق } بيان لما اختلفوا فيه . { بإذنه } بأمره أو بإرادته ولطفه . { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } لا يضل سالكه .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 213 )
قال أبي بن كعب وابن زيد : المراد ب { الناس } بنو آدم حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم ، أي كانوا على الفطرة .
وقال مجاهد : «الناس آدم وحده »( {[1983]} ) .
وقال ابن عباس وقتادة : { الناس } القرون التي كانت بين آدم ونوح ، وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا فبعث الله تعالى نوحاً فمن بعده .
وقال قوم : الناس نوح ومن في سفينته ، كانوا مسلمين ثم بعد ذلك اختلفوا( {[1984]} ) .
وقال ابن عباس أيضاً : كان الناس أمة واحدة كفاراً ، يريد في مدة نوح حين بعثه الله( {[1985]} ) ، و { كان } على هذه الأقوال هي على بابها من المضي المنقضي ، وتحتمل الآية معنى سابعاً وهو أن يخبر عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق . لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم ، ف { كان } على هذا الثبوت لا تختص بالمضي فقط ، وذلك كقوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 96-99-100-152 ، الفرقان : 70 ، الأحزاب : 5 - 59 ، الفتح : 14 ] ، والأمة الجماعة على المقصد الواحد ، ويسمى الواحد أمة إذا كان منفرداً بمقصد ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في قس بن ساعدة : «يحشر يوم القيامة أمة وحده »( {[1986]} ) ، وقرأ أبي كعب «كان البشر أمة واحدة » ، وقرأ ابن مسعود «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث » ، وكل من قدر { الناس } في الآية مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا( {[1987]} ) ، وكل من قدرهم كفاراً كانت بعثة { النبيين } إليهم( {[1988]} ) ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة نوح ، لأن الناس يقولون له : أنت أول الرسل ، والمعنى إلى تقويم كفار وإلا فآدم مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان ، و { مبشرين } معناه بالثواب على الطاعة ، و { منذرين } معناه من العقاب على المعاصي ، ونصب اللفظتين على الحال ، و { الكتاب } اسم الجنس ، والمعنى جميع الكتب .
وقال الطبري : «الألف واللام في الكتاب للعهد ، والمراد التوارة » ، و { ليحكم } مسند إلى الكتاب في قول الجمهور .
وقال قوم : المعنى ليحكم الله( {[1989]} ) ، وقرأ الجحدري( {[1990]} ) «ليُحَكم » على بناء الفعل للمفعول ، وحكى عنه مكي «لنحكم » .
قال القاضي أبو محمد : وأظنه تصحيفاً لأنه لم يحك عنه البناء للمفعول كما حكى الناس ، والضمير في { فيه } عائد على { ما } من قوله : { فيما } ، والضمير في { فيه } الثانية يحتمل العود على الكتاب ويحتمل على الضمير الذي قبله ، والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه تعالى على الشنعة في فعلهم والقبح الذي واقعوه . و { البينات } الدلالات والحجج ، و { بغياً } منصوب على المفعول له ، والبغي التعدي بالباطل ، و { هدى } معناه أرشد ، وذلك خلق الإيمان في قلوبهم ، وقد تقدم ذكر وجوه الهدى في سورة الحمد ، والمراد ب { الذين آمنوا } .
من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .
فقالت طائفة : معنى الآية : أن الأمم كذب( {[1991]} ) بعضهم كتاب بعض فهدى الله أمة محمد التصديق بجميعها .
وقالت طائفة : إن الله هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتابين من قولهم : إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً .
وقال ابن زيد : من قبلتهم ، فإن قبلة اليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق ، ومن يوم الجمعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، فلليهود غد ، وللنصارى بعد غد »( {[1992]} ) ، ومن صيامهم( {[1993]} ) وجميع ما اختلفوا فيه .
وقال الفراء : في الكلام قلب ، واختاره الطبري ، قال : وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه . ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه وعساه غير الحق في نفسه ، نحا إلى هذا الطبري في حكايته عن الفراء .
قال القاضي أبو محمد : وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز( {[1994]} ) وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ورصفه ، لأن قوله { فهدى } يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله { فيه } ، وتبين بقوله { من الحق } جنس ما وقع الخلاف فيه .
قال المهدوي : «وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الاختلاف » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وليس هذا عندي بقوي ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «لما اختلفوا عنه من الحق » أي عن الإسلام .
و { بإذنه } قال الزجّاج : معناه بعلمه ، وقيل : بأمره ، والإذن( {[1995]} ) هو العلم والتمكين ، فإن اقترن بذلك أمر صار أقوى من الإذن بمزية ، وفي قوله تعالى : { والله يهدي من يشاء } رد على المعتزلة في قولهم إن العبد يستبد بهداية نفسه .