وإلى جانب هذه الصورة النكدة من الإنسان ، يعرض صورة أخرى . . صورة القلب الخائف الوجل ، الذي يذكر الله ولا ينساه في سراء ولا ضراء ؛ والذي يعيش حياته على الأرض في حذر من الآخرة ؛ وفي تطلع إلى رحمة ربه وفضله ؛ وفي اتصال بالله ينشأ عنه العلم الصحيح المدرك لحقائق الوجود :
أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً ، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ? قل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ? إنما يتذكر أولو الألباب .
وهي صورة مشرقة مرهفة . فالقنوت والطاعة والتوجه - وهو ساجد وقائم - وهذه الحساسية المرهفة - وهو يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه - وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة . وتمنح القلب نعمة الرؤية والالتقاط والتلقي . . هذه كلها ترسم صورة مشرقة وضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة المطموسة التي رسمتها الآية السابقة . فلا جرم يعقد هذه الموازنة :
( قل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ? ) . .
فالعلم الحق هو المعرفة . هو إدراك الحق . هو تفتح البصيرة . هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود . وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن ، ولا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى ، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس .
وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة . . هذا هو . . القنوت لله . وحساسية القلب ، واستشعار الحذر من الآخرة ، والتطلع إلى رحمة الله وفضله ؛ ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة . . هذا هو الطريق ، ومن ثم يدرك اللب ويعرف ، وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب ؛ وينتهي إلى الحقائق الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة . فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة ، والمشاهدات الظاهرة ، فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء . .
وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المتفتحة المدركة لما وراء الظواهر من حقائق . المنتفعة بما ترى وتعلم ، التي تذكر الله في كل شيء تراه وتلمسه ولا تنساه ، ولا تنسى يوم لقاه . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاَخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُو الألْبَابِ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : أمّنْ فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وعامة الكوفيين : «أمَنْ » بتخفيف الميم ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان : أحدهما أن يكون الألف في «أمّن » بمعنى الدعاء ، يراد بها : يا من هو قانت آناء الليل ، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا ، فتقول : أزيد أقبِلْ ، ويا زيد أَقبِلْ ومنه قول أوس بن حجر :
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمُ بِيَدٍ *** إلاّ يَدٌ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ
وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى الكلام : قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلاً ، إنك من أصحاب النار ، ويا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة ، ويكون في النار عمى للفريق الكافر عند الله من الجزاء في الاَخرة ، الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن ، إذ كان معلوما اختلاف أحوالهما في الدنيا ، ومعقولاً أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه أن الاَخر من أصحاب الجنة ، فحذف الخبر عما له ، اكتفاء بفهم السامع المراد منه من ذكره ، إذ كان قد دلّ على المحذوف بالمذكور . والثاني : أن تكون الألف التي في قوله : «أمَنْ » ألف استفهام ، فيكون معنى الكلام : أهذا كالذي جعل لله أندادا ليضلّ عن سبيله ، ثم اكتفى بما قد سبق من خبر الله عن فريق الكفر به من أعدائه ، إذ كان مفهوما المراد بالكلام ، كما قال الشاعر :
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ *** سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا
فحذف لدفعناه وهو مراد في الكلام إذ كان مفهوما عند السامع مراده . وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : أمّنْ بتشديد الميم ، بمعنى : أم من هو ؟ ويقولون : إنما هي أمّنْ استفهام اعترض في الكلام بعد كلام قد مضى ، فجاء بأم فعلى هذا التأويل يجب أن يكون جواب الاستفهام متروكا من أجل أنه قد جرى الخير عن فريق الكفر ، وما أعدّ له في الاَخرة ، ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان ، فعلم بذلك المراد ، فاستغني بمعرفة السامع بمعناه من ذكره ، إذ كان معقولاً أن معناه : هذا أفضل أم هذا ؟ .
والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القرّاء مع صحة كلّ واحدة منهما في التأويل والإعراب ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين ، والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك في هذا الموضع ، ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره ، فكان بعضهم يقول : هو في هذا الموضع قراءة القارىء قائما في الصلاة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، أنه قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان إذا سُئل عن القنوت ، قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام ، وقرأ : أمّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللّيْلِ ساجِدا وقائما .
وقال آخرون : هو الطاعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أَمّنْ هُوْ قانِتٌ يعني بالقنوت : الطاعة ، وذلك أنه قال : ثُمّ إذَا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذَا أنْتُمْ تَخْرُجُونَ . . . إلى كُلّ لَهُ قانِتُونَ قال : مطيعون .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : أَمّنْ هُو قانِتٌ آناءَ اللّيْلِ ساجِدا وَقائما قال : القانت : المطيع .
وقوله : آناءَ اللّيْلِ يعني : ساعات الليل ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أَمّنْ هُوَ قانتٌ آناءَ اللّيْلِ أوّله ، وأوسطه ، وآخره .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ آناءَ اللّيْلِ قال : ساعات الليل .
وقد مضى بياننا عن معنى الاَناء بشواهده ، وحكاية أقوال أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : ساجِدا وَقائما يقول : يقنت ساجدا أحيانا ، وأحيانا قائما ، يعني : يطيع والقنوت عندنا الطاعة ، ولذلك نصب قوله : ساجِدا وَقائما لأن معناه : أمّن هو يقنت آناء الليل ساجدا طورا ، وقائما طورا ، فهما حال من قانت . وقوله : يَحْذَرُ الاَخِرَةَ يقول : يحذر عذابَ الاَخرة ، كما :
حدثنا عليّ بن الحسن الأزديّ . قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله : يَحْذَرُ الاَخِرَةَ قال : يحذر عقاب الاَخرة ، ويرجو رحمة ربه ، يقول : ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة .
وقوله : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لقومك : هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب ، وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات ، والذين لا يعلمون ذلك ، فهم يخبطون في عشواء ، لا يجرجون بحسن أعمالهم خيرا ، ولا يخافون بسيّئها شرا ؟ يقول : ما هذان بمتساويين . وقد رُوي عن أبي جعفر محمد بن علي في ذلك ما :
حدثني محمد بن خلف ، قال : ثني نصر بن مزاحم ، قال : حدثنا سفيان الجريري ، عن سعيد بن أبي مجاهد ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، رضوان الله عليه هَلْ يَسْتَوي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال : نحن الذين يعلمون ، وعدوّنا الذين لا يعلمون .
وقوله : إنّمَا يَتَذَكّرُ أُولُو الألْبابِ يقول تعالى ذكره : إنما يعتبر حجج الله ، فيتعظ ، ويتفكر فيها ، ويتدبرها أهلُ العقول والحجى ، لا أهل الجهل والنقص في العقول .