التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا} (119)

أما الأمر الثانى والثالث اللذان توعد الشيطان بهما بنى آدم فقد حكاهما - سبحانه - فى قوله { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } أى : ولأضلنهم عن طريق الحق فأجعلهم يسيرون فى طريق الباطل إلى نهايته ، ولأمنينهم الأمانى الفارغة . بأن أجعلهم يجرون وراء الأحلام الكاذبة ، والأوهام الفاسدة . والأطماع التى تسيطر على نفوسهم وعقولهم ، وبذلك يكونون من جندى ، ويخضعون لأمرى .

أما الأمر الرابع الذى توعد الشيطان به بنى آم فقد حكاه - سبحانه - فى قوله { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام } .

قال الراغب : البتك يقارب البت لكن البتك يستعمل فى قطع الاعضاء والشعر . يقال بتلك شعره وأذنه - أى قطعها أو شقها - ومنه سيق باتك أى قاطع للأعضاء . وأما البت فيقال فى قطع الحبل .

وكانوا فى الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا قطعوا أذنها أو شقوها شقا واسعا علامة على أنهم حرموا على أنفسهم الانتفاع بها وجعلوها للطواغيت وسموها بحيرة أى المشقوقة الأذن .

والمراد : أنه يأمرهم بعبادة غير الله وبالأمانى الباطلة . وبتقطيع آذان الأنعام تقربا للطواغيت والأوثان فيسارعون إلى إجابته ، وينقادون لوسوسته .

أما الأمر الخامس الذى توعد الشيطان به بنى آدم فقد حكاه - سبحانه - فى قوله { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله } .

قال ابن كثير : أى دين الله . وهذا كقوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } على قول من جعل ذلك أمرا أى : لا تبدلوا فطرة الله ، ودعوا الناس على قطرتهم . كما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء . هل تجدون بها من جدعاء ؟ " .

وفى صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله - تعالى - : " إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .

وقال بعضهم : المراد بتغيير خلق الصور التى خلق الله عليها مخلوقاته ، كمفقأ عين فحل الإِبل فى بعض الأحوال ، وقطع الآذان ، والوشم ، وما يشبه ذلك مما كانوا يفعلونه فى جاهليتهم اتباع للشيطان .

وقد رجح ابن جرير أن المراد بتغيير خلق الله : تغيير دين الله فقال ما ملخصه : " وأولى الأقوال بالصواب فى تأويل ذلك قول من قال : معناه : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ، قال : دين الله . وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه وهى قوله : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدين القيم } وإذا كان ذلك معناه ، دخل فى ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه ، ووشم ما نهى عن وشمه ، وغير ذلك من المعاصى .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد حكى للناس ما قاله الشيطان بلسان حاله أو مقاله حتى يحذروه ويتخذوه عدوا لهم ، لينالوا رضا الله ومثوبته .

وقد أكد - سبحانه - هذا المعنى بقوله : { وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } .

أى : ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله ، بأن يتبع الشيطان ويواليه ويسير خلف وسوسته ، ويرتك طريق الحق والهدى ، من يفعل ذلك يكن بفعله هذا قد خسر خسرانا واضحا بينا ، لأن الشيطان لا يسوق الإِنسان إلا إلى ما يهلكه ويخزيه فى الدنيا والآخرة ، وسيقول لأتباعه يوم ينزل بهم العقاب فى الآخرة { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا} (119)

114

( وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً )

والذي صرح بنيته في إضلال فريق من أبناء آدم ، وتمنيتهم بالأمنيات الكاذبة في طريق الغواية ، من لذة كاذبة ، وسعادة موهومة ، ونجاة من الجزاء في نهاية المطاف ! كما صرح بنيته في أن يدفع بهم إلى أفعال قبيحة ، وشعائر سخيفة ، من نسج الأساطير . كتمزيق آذان بعض الأنعام ، ليصبح ركوبها بعد ذلك حراما ، أو أكلها حراما - دون أن يحرمها الله - ومن تغيير خلق الله وفطرته بقطع بعض أجزاء الجسد أو تغيير شكلها في الحيوان أو الإنسان ، كخصاء الرقيق ، ووشم الجلود . . وما إليها من التغيير والتشويه الذي حرمه الإسلام .

وشعور الإنسان بأن الشيطان - عدوه القديم - هو الذي يأمر بهذا الشرك وتوابعه من الشعائر الوثنية ، يثير في نفسه - على الأقل - الحذر من الفخ الذي نصبه العدو . وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسية بين الإنسان والشيطان . ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض ؛ والوقوف تحت راية الله وحزبه ، في مواجهة الشيطان وحزبه : وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها . لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه وطرده . والمؤمن لا يغفل عنها ، ولا ينسحب منها . وهو يعلم أنه إما أن يكون وليا لله ، وإما أن يكون وليا للشيطان ؛ وليس هنالك وسط . . والشيطان يتمثل في نفسه وما يبثه في النفس من شهوات ونزوات ؛ ويتمثل في أتباعه من المشركين وأهل الشر عامة . والمسلم يكافحه في ذات نفسه ، كما يكافحه في أتباعه . . معركة واحدة متصلة طوال الحياة .

ومن يجعل الله مولاه فهو ناج غانم . ومن يجعل الشيطان مولاه فهو خاسر هالك :

( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينًا ) . .