ثم فصل - سبحانه - بعض النعم التي منحها لنبيه موسى وقال : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } .
والمراد بالألواح كما قال ابن عباس - ألواح التوراة ، واختلف في عددها فقيل : سبعة ألواح وقيل عشرة ألواح وقيل أكثر من ذلك . كما اختلف في شأنها فقيل كانت من سدر الجنة ، وقيل كانت من زبرجد أو زمرد . . . إلخ .
والذى نراه تفويض معرفة ذلك إلى الله - تعالى - لأنه لم يرد نص صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عددها أو كيفيتها .
والمعنى : وكتبنا لموسى - عليه السلام - في ألواح التوراة من كل شىء يحتاجون إليه من الحلا والحرام ، والمحاسن والقبائح . ليكون ذلك موعظة لهم من شأنها أن تؤثر في قلوبهم ترغيباً وترهيباً . كما كتبنا له في تلك الألواح تفصيل كل شىء يتعلق بأمر هذه الرسالة الموسوية .
وإسناد الكتابة إليه - تعالى - إما على معنى أن ذلك كان بقدرته - تعالى - وصنعه ولا كسب لأحد فيه ، وإما على معنى أنها كتبها بأمره ووحيه سواء كان الكاتب لها موسى أو ملك من ملائكته - عز وجل - .
قال صاحب المنار : قال بعض المفسرين : إن الألواح كانت مشتملة على التوراة : وقال بعضهم بل كانت قبل التوراة . والراجح أنها كانت أول ما أوتيته من وحى التشريع فكانت أصل التوراة الإجالى ، وكانت سائر الأحكام من العبادات والمعاملات الحربية والمدنية والعقوبات تنزل يخاطبه بها الله - تعالى - في أوقات الحاجة إليها " .
وقوله { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } بدل من قوله { مِن كُلِّ شَيْءٍ } باعتبار محله وهو النصب لأن من مزيدة كما يرى كثير من النحاة . أى : كتبنا له فيها كل شىء من المواعظ وتفصيل الأحكام .
والضمير في قوله - تعالى - { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } يعود إلى الألواح . والفاء عاطفة لمحذوف على كتبنا ، والمحذوف هو لفظ قلنا وقوله { بِقُوَّةٍ } حال من فاعل خذها أى : كتبنا له في الألواح من كل شىء ، وقلنا له خذها بقوة أى بجد وحزم ، وصبر وجلد ، لأنه - عليه السلام - قد أرسل إلى قوم طال عليهم الأمد وهم في الذل والاستعباد ، فإذا لم يكن المتولى لإرشادهم وإلى ما فيه هدايتهم ذا قوة وصبر ويقين ، فإنه قد يعجز عن تربيتهم . ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم .
قال الجمل : وقوله - تعالى - { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أى التوراة ومعنى بأحسنها بحسنها إذ كل ما فيها حسن ، أو أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر ، وفعل الخير أحسن من ترك الشر ، وذلك لأن الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان تحمل على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها إلى الصواب .
أو أن فيها حسناً وأحسن كالقود والعفو ، والانتصار والصبر ، والمأمور به والمباح فأمروا بأن يأخذوا بما هو أكثر ثوابا .
وقوله - تعالى - { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والتهديد .
أى : سأريكم عاقبة من خالف أمرى ، وخرج عن طاعتى ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار ، فتلك سنتى التي لا تتغير ولا تتبدل .
قال ابن كثير : وإنما قال { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غداً ما يصير إليه حال من خالفنى على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
وقيل المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه وهى مصر ، كيف أقفرت منهم ودمروا لفسهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فيصيبكم ما أصابهم .
وقيل المراد بها منازل عاد وثمود والأقوام الذين هلكوا بسبب كفرهم .
وقيل المراد بها أرض الشام التي كان يسكنها الجبارون . فإنهم لم يدخلوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر على يد يوشع بن نون .
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح ، لأن الآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله في خلقه ، وهذه السنة تتمثل في أن كل دار تفسق عن أمر ربها تكون عاقبتها الذل والدمار ، ولأنه لم يرد حديث صحيح يعين المراد بدار الفاسقين .
فالآية الكريمة قد اشتملت على جانب من مظاهر نعم الله على نبيه موسى - عليه السلام - كما اشتملت على الأمر الصريح منه - سبحانه - له بأن يهيىء نفسه لحمل تكاليف الرسالة بعزم وصبر ، وأن يأمر قومه بأن يأخذوا بأكملها وأعلاها بدون ترخيص أو تحايل ، لأنهم قوم كانت طبيعتهم رخوة وعزيمتهم ضعيفة ، ونفوسهم منحرفة . كما اشتملت على التحذير الشديد لكل من يخرج عن طاعة الله وينتهك حرماته .
ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة ، وكيف أوتيها موسى :
( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ) . .
وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح ؛ ويصفها بعضهم أوصافاً مفصلة - نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير - ولا نجد في هذا كله شيئاً عن رسول الله [ ص ] فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه . وما تزيد تلك الأوصاف شيئاً أو تنقص من حقيقة هذه الألواح . أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء . والمهم هو ما في هذه الألواح . إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء !
( فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) . .
والأمر الإلهي الجليل لموسى - عليه السلام - أن يأخذ الألواح بقوة وعزم وأن يأمر قومة أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم . . هذا الأمر على هذا النحو فضلاً على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية ، التي أفسدها الذل وطول الأمد ، بالعزم والجد ، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة ، فإنه - كذلك - يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها . .
إن العقيدة أمر هائل عند الله - سبحانه - وأمر هائل في حساب هذا الكون ، وقدر الله الذي يصرفه ، وأمر هائل في تاريخ " الإنسان " وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك . . والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله - سبحانه - وعبودية البشر لربوبيته وحده ، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها ، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية ، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه ، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة . .
وأمر له هذه الخطورة عند الله ، وفي حساب الكون ، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ " الإنسان " . . يجب أن يؤخذ بقوة ، وأن تكون له جديته في النفس ، وصراحته وحسمه . ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة ، ولا في تميع ، و لا في ترخص ، ذلك أنه أمر هائل في ذاته ، فضلاً على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص ، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر . .
وليس معنى هذا - بطبيعة الحال - هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض ! فهذا ليس من طبيعة دين الله . . ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة . . وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض !
ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل - بصفة خاصة - بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر ، تحتاج إلى هذا التوجيه . لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد ، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية ، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة . .
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل ، والخضوعللإرهاب والتعبد للطواغيت ، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال ، والأخذ بالأسهل تجنباً للمشقة . . كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا ، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها ، وتسير مع القطيع ؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئاً !
وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض ، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه :
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت - في ذلك الزمان - في قبضة الوثنيين ، وأنها بشارة لهم بدخولها . . وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى - عليه السلام - لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت ، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت ، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم : ( يا موسى إن فيها قوماً جبارين . وإنا لن ندخلها ً حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ! ) . . ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله ، في الدخول والاقتحام ! أجابوا موسى بتوقح الجبان - كالدابة التي ترفس سائقها ! - : إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها ، فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون ! . . مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام ، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة ، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة . .