التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الجن

مقدمة وتمهيد

1- سورة " الجن " من السور المكية الخالصة ، وتسمى بسورة [ قل أوحي . . . ] ، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية بلا خلاف ، وكان نزولها بعد سورة " الأعراف " وقبل سورة " يس " وقد سبقها في ترتيب النزول ثمان وثلاثون سورة ، إذ هي السورة التاسعة والثلاثون –كما ذكر السيوطي- .

أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة الثانية والسبعون .

2- والمتدبر لهذه السورة الكريمة ، يراها قد أعطتنا صورة واضحة عن عالم الجن ، فهي تحكي أنهم أعجبوا بالقرآن الكريم ، وأن منهم الصالح ومنهم غير الصالح ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وأنهم أهل للثواب والعقاب ، وأنهم لا يملكون النفع لأحد ، وأنهم خاضعون لقضاء الله –تعالى- فيهم .

كما أن هذه السورة قد ساقت لنا ألوانا من سنن الله التي لا تتخلف ، والتي منها : أن الذين يستقيمون على طريقه يحيون حياة طيبة في الدنيا والآخرة . .

كما أنها لقنت النبي صلى الله عليه وسلم الإجابات التي يرد بها على شبهات المشركين وأكاذيبهم ، وساقت له ما يسليه عن سفاهاتهم ، وما يشرح صدره ، ويعينه على تبليغ رسالة ربه . .

ويبدو أن نزول هذه السورة الكريمة كان في حوالي السنة العاشرة ، أو الحادية عشرة ، من البعثة –كما سنرى ذلك من الروايات- ، وأن نزولها كان دفعة واحدة . .

قد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات روايات منها ما أخرجه الشيخان والترمذى ، عن ابن عباس أنه قال : " انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : مالكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما ذاك إلا لشئ حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربهما ، فمر النفر - من الجن - الذى أخذوا نحو تهامة ، عامدين إلى سوق عكاظ ، فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بنخلة يصلى بأصحابه صلاة الصبح ، فلما سمعوا القرآن ، استمعوا إليه وقالوا : هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء " .

فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا آحدا ، وأنزل الله - تعالى - على نبيه { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } .

وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتانى داعى الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن . . "

وهناك رواية ثالثة لابن إسحاق ملخصها : أنه لما مات أبو طالب ، خرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من أهلها ويدعوهم إلى الإِيمان . . فأغروا به سفهاءهم ، يسبونه ويستهزئون به . .

فانصرف صلى الله عليه وسلم عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة - هو موضع بين مكة والطائف - قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين - وهو موضع قرب الشام - فاستمعوا إليه ، فلما فرغ من صلاته ، ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ، فقص الله - تعالى - خبرهم عليه . .

وهناك روايات أخرى فى عدد هؤلاء الجن ، وفى الأماكن التى التقوا فيها مع النبى صلى الله عليه وسلم وفيما قرأه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ، وفيمن كان معه من الصحابة خلال التقائه بهم . .

ويبدو لنا من مجموع الروايات ، أن لقاء النبى صلى الله عليه وسلم بالجن قد تعدد ، وأنهم تارة استمعوا إليه صلى الله عليه وسلم دون أن يراهم ، وتارة التقى بهم وقرأ عليهم القرآن .

قال الآلوسى : وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك بين اختلاف الروايات فى عددهم وفى غير ذلك . وذكر ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين .

.

قال القرطبى : واختلف أهل العلم فى أصل الجن . فعن الحسن البصرى : أن الجن ولد إبليس ، والإِنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء فى الثواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولى الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان .

وعن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ومنهم المؤمن والكافر ، والشياطين هم ولد إبليس ، لا يموتون إلا مع إبليس . .

وقال بعض العلماء : عالم الجن من العوالم الكونية ، كعالم الملائكة وقد أخبر الله - تعالى - أنه خلقه من مارج من نار ، أى : أن عنصر النار فيه هو الغالب ، وأنه يرى الأناسى وهم لا يرونه ، أى : بصورته الجبلية ، وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى ، كما رئى جبريل حين تشكل بشكل آدمى .

وأخبر - سبحانه - بأن الجن قادرون على الأعمال الشاقة . وأن الله سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل . .

وأخبر بأن من الجن مؤمنين ، وأن منهم شياطين متمردين ، ومن هؤلاء إبليس اللعين .

ولم يختلف أهل الملل فى وجودهم ، بل اعترفوا به كالمسلمين ، وإن اختلفوا فى حقيقتهم ، ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق ، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس ، فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة ، وأسرارها محجوبة ، وكثير منها لا يرى بالحواس . ألا ترى الروح - وهى مما لا شك فى وجودها فى الإِنسان والحيوان - لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد ، وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها . .

وقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، كما بعث إلى الإِنس ، فدعاهم إلى التوحيد ، وأنذرهم وبلغهم القرآن ، وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس ، فمؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم وكل ذلك جاء صريحا فى القرآن والسنة . .

وقد افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يقول الناس ما حدث من الجن عند سماعهم للقرآن . فقال : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } .

وفى هذا الأمر دلالة على أن المأمور به شئ هام ، يستدعى من السامعين التيقظ والانتباه ، والامتثال للمأمور به ، وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به .

والنفر : الجماعة من واحد إلى عشرة ، وأصله فى اللغة الجماعة من الإِنس فأطلق على الجماعة من الجن وعلى وجه التشبيه .

أى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس ، إن الله - تعالى - قد أخبرك عن طريق أمين وحيه جبريل : أن جماعة من الجن قد استمعوا إليك وأنت تقرأ القرآن . .

فقالوا - على سبيل الفرح والإِعجاب لما سمعوا - : { إِنَّا سَمِعْنَا } من الرسول صلى الله عليه وسلم { قُرْآناً عَجَباً } أى : إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن ، بديع الأسلوب ، عظيم القدر .

هذا القرآن { يهدي إِلَى الرشد } أى : إلى الخير والصواب والهدى { فَآمَنَّا بِهِ } إيمانا حقا ، لا يخالطه شك أو ريب { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } أى : فآمنا بما اشتمل عليه هذا الكتاب من دعوة إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ولن نشرك معه فى العبادة أحدا كائنا من كان هذا الحد .

والمقصود من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك ، دعوة مشركى قريش إلى الإِيمان بالحق الذى جاء به صلى الله عليه وسلم كما آمن جماعة من الجن به ، وإعلامهم بأن رسالته صلى الله عليه وسلم تشمل الجن والإِنس .

وضمير " أنه " للشأن ، وخبر " أن " جملة { استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } ، وتأكيد هذا الخبر بأن ، للاهتمام به لغرابته . ومفعول " استمع " محذوف لدلالة قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } عليه .

ووصفهم للقرآن بكونه { قُرْآناً عَجَباً . يهدي إِلَى الرشد } يدل على تأثرهم به تأثرا شديدا ، وعلى إعجابهم العظيم بنظمه المتقن ، وأسلوبه الحكيم ، ومعانيه البديعة . . ولذا أعلنوا إيمانهم به بدون تردد ، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء فى قوله : { فَآمَنَّا بِهِ . . . } .

والتعبير بقوله - تعالى - : { فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا . . } يحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم ، أو لإِخوانهم الذين رجعوا إليهم ، كما فى قوله - تعالى - فى سورة الأحقاف : { قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } ويحتمل أنهم قالوا ذلك فى أنفسهم على سبيل الإِعجاب ، كما فى قوله - تعالى - : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } بل إننا نرجح أن قولهم هذا قد شمل كل ذلك ، لأن هذا هو الذى يتناسب مع إعجابهم بالقرآن الكريم ، ومع حرصهم على إيمان أكبر عدد منهم به .

ثم حكى - سبحانه - أن هذا النفر من الجن بعد استماعهم إلى القرآن وإيمانهم به ، أخذوا فى الثناء على الخالق - عز وجل - فقال حكاية عنهم : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } .

ولفظ " وأن " قد تكرر فى هذه السورة الكريمة أكثر من عشرمرات ، تارة بالإِضافة إلى ضمير الشأن ، وتارة بالإِضافة إلى ضمير المتكلم .

ومن القراء السبعة من قرأة بفتح الهمزة ، ومنهم من قرأه بكسرها ، فمن قرأ { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } بالفتح فعلى أنه معطوف على محل الجار والمجرور فى قوله { فَآمَنَّا بِهِ . . . } فكأنه قيل : فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا . . ومن قرأ بالكسر فعلى أنه معطوف على المحكى بعد القول ، أى : قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا ، وقالوا : إنه تعالى جد ربنا . .

قال الجمل فى حاشيته ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } قرأه حمزة والكسائى وأبو عامر وحفص بفتح " أنّ " وقرأه الباقون بالكسر .

وتلخيص هذا أن " أنّ " المشددة فى هذه السورة على ثلاثة أقسام : قسم ليس معه واو العطف ، فهذا لا لخلاف بين القراء فى فتحه أو كسره ، على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع . . . } لا خلاف فى فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } لا خلاف فى كسره لأنه محكى بالقول .

القسم الثانى أن يقترن بالواو ، وهو أربع عشرة كلمة ، إحداها : لا خلاف فى فتحها ، وهى قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ . . . } وهذا هو القسم الثالث . والثانية وهى قوله : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله . . . } كسرها ابن عامر وأبو بكر وفتحها الباقون .

والاثنتا عشرة الباقية ، فتحها بعضهم ، وكسرها بعضهم وهى قوله : - تعالى - : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا . . . } وقوله : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ . . . . } { وَأَنَّا ظَنَنَّآ . . . } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ . . . } { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ . . . } { وَأَنَّا لَمَسْنَا . . . } { وَأَنَّا كُنَّا . . . } { وَأَنَّا لاَ ندري . . . . } { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون . . . } { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى . . . } { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } .

وقوله : { تعالى } من التعالى وهو شدة العلو . و { جَدُّ رَبِّنَا } الجد - بفتح الجيم - العظمة والجلال .

قال القرطبى : الجد فى اللغة : العظمة والجلال ، ومنه قول أنس : كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد فى عيوننا . أى : عظم . فمعنى جد ربنا : عظمته وجلاله .

وقيل معنى " جد ربنا . . " غناه ، ومنه قيل للحظ جد ، ورجل مجدود ، أى : محظوظ . وفى الحديث : " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أى : ولا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وإنما تنفعه الطاعة . .

وجملة { مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } بيان وتفسير لما قبله .

أى : آمنا به - سبحانه - إيمانا حقا ، وصدقنا نبيه فيما جاءنا به من عنده ، وصدقنا - أيضا - أن الحال والشأن تعالى وتعاظم جلال ربنا ، وتنزه فى ذاته وصفاته ، عن أن يكون له شريك فى ملكه . أو أن تكون له صاحبة أو أن يكون له ولد ، كما زعم الزاعمون من الكافرين الجاهلين .

وفى هذا القول من هذا النفر من الجن ، رد على أولئك المشركين الذين كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله - تعالى - ، وأنهم - أى الملائكة - جاءوا عن طريق مصاهرته - سبحانه - للجن ، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ . سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُوَاْ إِنّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيَ إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَن نّشرِكَ بِرَبّنَآ أَحَداً * وَأَنّهُ تَعَالَىَ جَدّ رَبّنَا مَا اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } .

يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد أوحى الله إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ هذا القرآن فَقالُوا لقومهم لما سمعوه إنّا سَمِعْنا قُرْآنا عَجَبا يَهْدِي إلى الرّشْدِ يقول : يدلّ على الحقّ وسبيل الصواب فآمَنّا بِهِ يقول : فصدّقناه وَلَن نُشْرِكَ برَبّنا أحَدا من خلقه .

وكان سبب استماع هؤلاء النفر من الجنّ القرآن ، كما :

حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا أبو هشام ، يعني المخزومي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ ولا رآهم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ ، قال : وقد حِيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأُرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأُرسلت علينا الشهب ، فقالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، قال : فانطلقوا فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حدث ، قال : فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، يتتبعون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر المساء قال : فانطلق النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة ، وهو عامد إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر قال : فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء قال : فهنالك حين رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا إنا سَمِعْنا قرآنا عَجَبا يَهْدِي إلى الرّشْدِ فآمَنّا بِه وَلَنْ نُشْركَ بِرَبّنا أحَدا قال : فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : قُلْ أُوْحِيَ إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ وإنما أوحي إليه قول الجنّ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن ورقاء ، قال : قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم انصرفوا ، فذلك قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِن يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوه قالُوا أنْصِتُوا قال : كانوا تسعة فيهم زوبعة .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قُلْ أُوْحِيَ إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ هو قول الله وإذ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ لم تُحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا ، ورُميت الشياطين بالشهب ، فقال إبليس : لقد حدث في الأرض حدث ، فأمر الجنّ فتفرّقت في الأرض لتأتيه بخبر ما حدث . وكان أوّل من بُعث نفر من أهل نصِيبين وهي أرض باليمن ، وهم أشراف الجنّ وسادتهم ، فبعثهم إلى تهامة وما يلي اليمن ، فمضى أولئك النفر ، فأتوا على الوادي وادي نخلة ، وهو من الوادي مسيرة ليلتين ، فوجدوا به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة فسمعوه يتلو القرآن فلما حضروه ، قالوا : أنصتوا ، فلما قُضِيَ ، يعني فُرِغ من الصلاة ، وَلّوْا إلى قومهم منذرين ، يعني مؤمنين ، لم يعلم بهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يشعر أنه صُرِف إليه ، حتى أنزل الله عليه : قُلْ أُوْحِيَ إليّ أنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنّ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية بإجماع من المفسرين

قرأ جمهور الناس «قل أوحي إلي » من أوحى يوحي . وقرأ أبو أُناس جوية بن عائذ : «قل أوحى إلي » ، من وحى يحي ووحى وأوحى ، بمعنى واحد ، وقال العجاج : «وحى لها القرار فاستقرت »{[11355]} . وقرأ أيضاً جوية فيما روى عنه الكسائي ، «قل أحي » أبدلت الواو همزة كما أبدلوها في وسادة وإسادة ، وغير ذلك وكذلك قرأ ابن أبي عبلة{[11356]} ، وحكى الطبري عن عاصم أنه كان يكسر كل ألف في السورة من «أن » و «إن » إلا قوله تعالى : { وأن المساجد لله } [ الجن : 18 ] . وحكي عن أبي عمرو أنه يكسر من أولها إلى قوله { وإن لو استقاموا على الطريقة } [ الجن : 16 ] فإنه كان يفتح همزة وما بعدها إلى آخر السورة . فعلى ما حكي يلزم أن تكون الهمزة مكسورة في قوله «إنه استمع » ، وليس ما ذكر بثابت . وذكر أبو علي الفارسي أن ابن كثير وأبا عمرو فتحا أربعة أحرف من السورة وكسرا غير ذلك { أنه استمع } ، { وإن لو استقاموا } [ الجن : 16 ] ، { وإن المساجد } [ الجن : 18 ] ، { وإنه لما قام } [ الجن : 19 ] ، وأن نافعاً وعاصماً في رواية أبي بكر والمفضل وافقا في الثلاثة وكسرا { وإنه لما قام } [ الجن : 19 ] مع سائر ما في السورة . وذكر أن ابن عامر وحمزة والكسائي كانوا يقرأون كل ما في السورة بالفتح إلا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء ، وكذلك حفص عن عاصم ، فترتب إجماع القراء على فتح الألف من { أنه استمع } و «أن لو استقاموا » «وأن المساجد » . وذكر الزهراوي عن علقمة أنه كان يفتح الألف في السورة كلها . واختلف الناس في الفتح من هذه الألفات وفي الكسر اختلافاً كثيراً يطول ذكره وحصره وتقصي معانيه . قال أبو حاتم : أما الفتح فعلى { أوحي } ، فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله . وأما الكسر فحكاية وابتداء وبعد القول . وهؤلاء النفر من الجن هم الذين صادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح وهو يريد عكاظ{[11357]} . وقد تقدم قصصهم في سورة الأحقاف في تفسير قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن }{[11358]} [ الأحقاف : 29 ] .

وقول الجن : { إنا سمعنا } الآيات ، هو خطاب منهم لقومهم الذين ولوا إليهم منذرين ، و { قرآناً عجباً } معناه ذا عجب ، لأن العجب مصدر يقع من سامع القرآن لبراعته وفصاحته ومضمناته ، وليس نفس القرآن هو العجب .


[11355]:هذا البيت من قصيدة قالها العجاج في وصف الخالق سبحانه وتعالى وأعماله ويوم الحساب وأهواله، وقيل إنه أنشدها أمام أبي هريرة رضي الله عنه، وفيها يقول: الحمد لله الذي تعلت بأمره السماء واستقلت بإذنه الأرض وما تعنت أرسى عليها بالجبال الثبت وحى لها القرار فاستقرت رب البلاد والعباد القنت فقال له أبو هريرة: إنك تؤمن بيوم الحساب، هذا والعجاج من شعراء النصرانية.
[11356]:قال أبو الفتح في "المحتسب": "وأصله" "وحي" فلما انضمت الواو ضما لازما همزت، على قوله تعالى: (وإذا الرسل أقتت...) وتقول على هذا: أحي إليه فهو موحي إليه، فترد الواو لزوال الضمة عنها، ومثله: أعد فهو موعود، وأرث فهو موروث".
[11357]:أخرج أحمد وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم، والطبراني وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي معا في "الدلائل"، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: مالكم؟ فقالوا: أحيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب،فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدثن فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين ذهبوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا، فأنزل الله على نبيه: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)، وإنما أوحي إليه قول الجن.
[11358]:من الآية 29.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها لكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس { سورة الجن } . وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه ، وترجمها البخاري في كتاب التفسير { سورة قل أوحي ألي } .

واشتهر على ألسنة المكتبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم { قل أوحي } .

ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر .

وهي مكية بالاتفاق .

ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة . ففي الصحيحين وجامع الترمذي من حديث ابن عباس أنه قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا } وأنزل اله على نبيه { قل أوحي ألي أنه أستمع نفر من الجن } .

وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة بعد سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف ، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة .

وقد عدت السورة الأربعين في نزول السور نزلت بعد الأعراف وقبل يس~ .

واتفق أهل العدد على عد آيها ثمانا وعشرين .

أغراضها

إثبات كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن دعوته بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فهم معان من القرآن الذي استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وفهم ما يدعوا إليه من التوحيد والهدى ، وعلمهم بعظمة الله وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد .

وإبطال عبادة ما يبعد من الجن .

وإبطال الكهانة وبلوغ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء .

وإثبات أن لله خلقا يدعون الجن وأنهم أصناف منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب ، وتضليل الذين يقولون على الله ما لم يقله ، والذين يعبدون الجن ، والذين ينكرون البعث ، وأن الجن لا يفلتون من سلطان الله تعالى .

وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع ، وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله ، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم منهم العدول عن الطعن في دينهم .

افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله : { كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً } [ الجن : 7 ] حسبما يأتي .

أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يُعلم المسلمين وغيرهم بأن الله أوحَى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته أقامه الله تكريماً لنبيئه وتنويهاً بالقرآن وهو أن سخر بعضاً من النوع المسمى جنّاً لاستماع القرآن وألهمهم أو علَّمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإِيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة لا علاقة لموجوداته بالتكاليف ولا بالعقائد بل هو عالم مجبول أهله على ما جبلوا عليه من خير أو شر لا يعدُو أحدُهم في مدة الدنيا جِبلتَه فيكون على معيارها مصيرُه الأبدي في الحياة الآخرة ولذلك لم يَبعث إليهم بشرائع .

وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإِسلام وهديه ففهموه .

هذا العالَم هو عالم الجنّ وهو بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحَسَنها نوع من المجردات أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة ، الخفية عن حاسة البصر والسمع ، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السماوات بل هي في أجواء غير محصورة وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات أي ليست أجساماً ولا جسمانيات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري ولها حياة وإرَادة وإدراك خاص بها لا يُدرى مَداه . وهذه المجردات النارية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين فهما نوعان لجنس المجردات النارية لها إدراكات خاصة وتصرفات محدودة وهي مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار ولا تدركها أسماع الناس إلاّ إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإراداتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقاً للعادة لأمر قضاه الله وأراده .

وبتعاضد هذه الدلائل وتناصرها وإن كان كل واحد منها لا يعدو أنه ظني الدلالة وهي ظواهر القرآن ، أو ظني المتن والدلالة وهي الأحاديث الصحيحة ، حصل ما يقتضي الاعتقاد بوجود موجودات خفية تسمى الجن فتفسَّر بذلك معاني آيات من القرآن وأخبار من السنة .

وليس ذلك مما يدخل في أصول عقيدة الإِسلام ولذلك لم نكفر منكري وجود موجودات معيّنة من هذا النوع إذ لم تثبت حقيقتها بأدلة قطعية ، بخلاف حال من يقول : إن ذكر الجن لم يذكر في القرآن بعد عِلْمِه بآيات ذكره .

وأما ما يروى في الكتب من أخبار جزئية في ظهورهم للناس وإتيانهم بأعمال عجيبة فذلك من الروايات الخيالية .

وإنا لم نلق أحداً من أثبات العلماء الذين لقيناهم من يقول : إنه رأى أشكالهم أو آثارهم وما نجد تلك القصص إلاّ على ألسنة الذين يسرعون إلى التصديق بالأخبار أو تغلب عليهم التخيلات .

وإن كان فيهم من لا يتهم بالكذب ولكنه مما يضرب له مثل قول المعري :

ومثلُكِ من تخيل ثم خالا

فظهور الجن للنبيء صلى الله عليه وسلم تارات كما في حديث الجني الذي تفلت ليفسد عليه صلاته هو من معجزاته مثل رؤيته الملائكة ورؤيته الجنة والنار في حائط القبلة وظهور الشيطان لأبي هريرة في حديث زكاة الفطر .

وقد مضى ذكر الجن عند قوله : { وجعلوا لله شركاء الجن } في سورة الأنعام ( 100 ) ، وقوله : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } في سورة الأعراف ( 179 ) .

والذين أمر الرسول بأن يقول لهم أنه أوحي إليه بخبر الجن : هم جميع الناس الذين كان النبي يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين أراد الله إبلاغهم هذا الخبر لما له من دلالة على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به ، وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين إذ كان الجن قد أدركوا شرف القرآن وفهموا مقاصده وهم لا يعرفون لغته ولا يدركون بلاغته فأقبلوا عليه ، والذين جاءهم بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه .

وفي الإِخبار عن استماع الجن للقرآن بأنه أوحي إليه ذلك إيماء إلى أنه ما علم بذلك إلاّ بإخبار الله إياه بوقوع هذا الاستماع ، فالآية تقتضي أن الرسول لم يعلم بحضور الجن لاستماع القرآن قبل نزول هذه الآية .

وأما آية الأحقاف ( 29 ) { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } الآيات فتذكير بما في هذه الآية أو هي إشارة إلى قصة أخرى رواها عبد الله بن مسعود وهي في « صحيح مسلم » في أحاديث القراءة في الصلوات ولا علاقة لها بهذه الآية .

وقوله : { أنه استمع نفر من الجن } في موضع نائب فاعل { أوحي } أي أوحي إلي استماع نفر . وتأكيد الخبر الموحَى بحرف ( أن ) للاهتمام به لغرابته .

وضمير { أنه } ضمير الشأن وخبره جملة { استمع نفر من الجن } وفي ذلك زيادة اهتمام بالخبر الموحى به .

ومفعول { استمع } محذوف دل عليه { إنَّا سمعنا قرآنا } ، أي استمع القرآن نفر من الجن .

والنفَر : الجماعة من واحد إلى عشرة وأصله في اللغة لجماعة من البشر فأطلق على جماعة من الجن على وجه التشبيه إذ ليس في اللغة لفظ آخر كما أطلق رجال في قوله : { يعوذون برجال من الجن } [ الجن : 6 ] على شخوص الجن . وقولهم : { إنا سمعنا قرآنا عجباً } قالوه لبعض منهم لم يحضر لاستماع القرآن ألهمهم الله أن ينذروهم ويرشدوهم إلى الصلاح قال تعالى في سورة الأحقاف ( 29 ، 30 ) { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً } الآيات .

ومعنى القَول هنا : إبلاغُ مرادهم إلى من يريدون أن يبلِّغوه إليهم من نوعهم بالكيفية التي يتفاهمون بها ، إذ ليس للجن ألفاظ تجري على الألسن فيما يظهر ، فالقول هنا مستعار للتعبير عما في النفس مثل قوله تعالى : { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] فيكون ذلك تكريماً لهذا الدِّين أن جعل الله له دعاة من الثقلين .

ويجوز أن يكون قولاً نفسياً ، أي خواطر جالت في مدركاتهم جولان القول الذي ينبعث عن إرادةِ صاحب الإِدراك به إبلاغَ مدركاته لغيره ، فإن مثل ذلك يعبر عنه بالقول كما في بيت النابغة يتحدث عن كلب صيد :

قالتْ له النفسُ إني لا أرى طمعاً *** وإن مولاك لم يَسلم ولم يَصِد

ومنه قوله تعالى : { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } [ المجادلة : 8 ] .

وتأكيد الخبر ب ( أنَّ ) لأنهم أخبروا به فريقاً منهم يشكون في وقوعه فأتوا في كلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف ( إن ) .

ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى ، أي يعجب منه ، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده .

وقد حصل لهم العلم بمزايا القرآن بانكشاف وهبهم الله إياه . قال المازري في « شرح صحيح مسلم » « لا بد لمن آمن عند سماع القرآن أن يعلم حقيقة الإِعجاز وشروط المعجزة ، وبعد ذلك يقع العلم بصدق الرسول ؛ فإما أن يكون الجن قد علموا ذلك أو عَلِموا من كتب الرسل المتقدمة ما دلهم على أنه هو النبي الأمّي الصادق المبشر به » اهـ . وأنا أقول : حصل للجن علم جديد بذلك بإلهام من الله لأدلة كانوا لا يشعرون بها إذ لم يكونوا مطالبين بمعرفتها ، وأن فهمهم للقرآن من قبيل الإِلهام خلقه الله فيهم على وجه خرق العادة كرامة للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن .

والإِيمان بالقرآن يقتضي الإِيمان بمن جاء به وبمن أنزله ولذلك قالوا { ولن نشرك بربنا أحداً .

وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن شرف المعرفة بالله وصفاته وصِدق رسوله وصدق القرآن وما احتوى عليه مَا سَمعوه منه فصاروا من خيرة المخلوقات ، وأُكرموا بالفوز في الحياة الآخرة فلم يكونوا ممن ذَرْأَ الله لجهنم من الجن والإِنس .

ومتعلق { استمع } محذوف دل عليه قوله بعده { فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً .