التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

قوله سبحانه : { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً . . } معطوف على قوله - تعالى - : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن . . } فهو من جملة الموحى به ، وهو من كلام الله - تعالى - لبيان سنة من سننه فى خلقه ، واسم " أن " المخففة ضمير الشأن الخبر قوله ، { وَأَلَّوِ استقاموا . . } والضمير يعود على القاسطين سواء أكانوا من الإِنس أم من الجن .

والماء الغدق : هو الماء الكثير ، يقال : غَدِقَتْ فلان غَدَقاً - كفرح - إذا كثر دمعها فهى غدقة ، ومنه الغيداق للماء الواسع الكثير ، والمراد : لأعطيناهم نعما كثيرة .

أى : ولو أن هؤلاء العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل استقاموا على الطريقة المثلى ، التى هى طريق الإِسلام ، والتزموا بما جاءهم به النبى صلى الله عليه وسلم من عند ربه . .

لو أنهم فعلوا ذلك ، لفتحنا عليهم أبواب الرزق ، ولأعطيناهم من بركاتنا وخيراتنا الكثير . . وخص الماء الغدق بالذكر ، لأنه أصل المعاش والسعة .

ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } وقوله - سبحانه - { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض . . . } وقوله - تعالى - { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ثم بين - سبحانه - الحكمة فى هذا العطاء لعباده فقال : { لِّنَفْتِنَهُمْ } وأصل الفتن الامتحان والاختبار . تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته لتعرف مقدار جودته .

والمعنى : نعطيهم ما نعطيهم من خيراتنا ، لنختبرهم ونمتحنهم ، ليظهر للخلائق موقفهم من هذه النعم ، أيشكروننا عليها فنزيدهم منها ، أم يجحدون ويبطرون فنمحقها من بين أيديهم . . ؟

والجملة الكريمة معترضة بين ما قبلها ، وبين قوله - تعالى - بعد ذلك : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } .

وقوله : { يَسْلُكْهُ } من السلك بمعنى إدخال الشئ فى الشئ ومنه قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } والصَّعَد : الشاق . يقال : فلان فى صَعَد من أمره ، أى : فى مشقة وتعب ، وهو مصدر صَعِد - كفرح - صعداً وصعودا .

أى : ومن يعرض عن طاعة ربه ومراقبته وخشيته . . يدخله - سبحانه - فى عذاب شاق أليم ، لا مفر منه ، ولا مهرب له عنه .

ومن الحقائق والحكم التى نأخذها من هاتين الآيتين ، أن الاستقامة على أمر الله ، تؤدى إلى السعادة التى ليس بعده سعادة ، وأن رخاء العيش وشظافته هما لون من ألوان الابتلاء والاختبار ، كما قال - تعالى - : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير } وأن الإِعراض عن ذكر الله . . عاقبته الخسران المبين ، والعذاب الأليم .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أى لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم .

وقال عمر بن الخطاب فى هذه الآية : أنيما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة فمعنى { لأَسْقَيْنَاهُم } لوسعنا عليهم فى الدنيا ، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا ، لأن الخير والرزق كله ، بالمطر يكون ، فأقيم مقامه .

وفى صحيح مسلم ، عن أبى سعيد الخدرى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخوف ما أخاف عليكم ، ما يخرج لكم من زهرة الدنيا ، قالوا : وما زهرة الدنيا ؟ قال : بركات الأرض . . " .

وقال صلى الله عليه وسلم : " والله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها ، كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

يقول تعالى ذكره : وأن لو استقام هؤلاء القاسطون على طريقة الحقّ والاستقامة لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غدَقا يقول : لو سعنا عليهم في الرزق ، وبسطناهم في الدنيا لنفتنهم فيه ، يقول لنختبرهم فيه . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأنْ لَو اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا يعني بالاستقامة : الطاعة . فأما الغدق فالماء الطاهر الكثير لِنَفْتنَهُمْ فِيهِ يقول : لنبتليهم به .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن مجاهد وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ طريقة الإسلام لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : نافعا كثيرا ، لأعطيناهم مالاً كثيرا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ حتى يرجعوا لما كتب عليهم من الشقاء .

حدثنا إسحاق بن زيد الخطابي ، قال : حدثنا الفريابي ، عن سفيان ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن مجاهد مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبيد الله بن أبي زياد ، عن مجاهد وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : طريقة الحقّ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا يقول مالاً كثيرا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم به حتى يرجعوا إلى ما كتب عليهم من الشقاء .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن مجاهد ، عن أبيه ، مثله .

قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن مجاهد وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : الإسلام لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال الكثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم به .

قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن غير واحد ، عن مجاهد ماءً غَدَقا قال الماء . والغدق : الكثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ حتى يرجعوا إلى علمي فيهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : لأعطيناهم مالاً كثيرا ، قوله : لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن بعض أصحابه ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبير في قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : الدين لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : مالاً كثيرا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يقول : لنبتليهم به .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا . قال الله : لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يقول : لنبتليهم بها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : لو اتقوا لوسع عليهم في الرزق لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ قال : لنبتليهم فيه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ماءً غَدَقا قال : عيشا رَغدا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : الغدق الكثير : مال كثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم فيه .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا المطلب بن زياد ، عن التيمي ، قال : قال عمر رضي الله عنه في قوله : وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقا قال : أينما كان الماء كان المال وأينما كان المال كانت الفتنة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأن لو استقاموا على الضلاة لأعطيناهم سعة من الرزق لنستدرجهم بها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مُجَلّز ، قال : وأن لو استقاموا على طريقة الضلالة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأن لو استقاموا على طريقة الحقّ وآمنوا لوسعنا عليهم . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا على الطّرِيقَةِ قال : هذا مثل ضربه الله كقوله : وَلَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّوْرَاةَ والإنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِم وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهمْ وقوله تعالى : وَلَوْ أنّ أهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهمْ بَرَكاتٍ من السّماءِ والأرْضِ والماء الغَدَقَ يعني : الماء الكثير لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبتليهم فيه .

وقوله : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا يقول عزّ وجل : ومن يُعرض عن ذكر ربه الذي ذكره به ، وهو هذا القرآن ومعناه : ومن يعرض عن استماع القرآن واستعماله ، يسلكه الله عذابا صعدا : يقول : يسلكه الله عذابا شديدا شاقا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْه عَذَابا صَعَدا يقول : مشقة من العذاب يصعد فيها .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَذَابا صَعَدا قال : مشقة من العذاب .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس عَذَابا صَعَدا قال : جبل في جهنم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا عذابا لا راحة فيه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة عَذَابا صَعَدا قال : صَعودا من عذاب الله لا راحة فيه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا قال : الصعد : العذاب المنصب .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يَسْلُكْه فقرأه بعض قرّاء مكة والبصرة : «نَسْلُكْهُ » بالنون اعتبارا بقوله : لِنَفْتِنَهُمْ أنها بالنون . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بالياء ، بمعنى : يسلكه الله ، ردّا على الربّ في قوله : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

وقوله تعالى : { لنفتنهم } إن كان المسلمون فمعناه لنختبرهم ، وإن كان القاسطون فمعناه لنمتحنهم ونستدرجهم ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حيث يكون الماء فثم المال ، وحيث يكون المال فثم الفتنة ، ونزع بهذه الآية ، وقال الحسن وابن المسيب وجماعة من التابعين : كانت الصحابة سامعين مطيعين ، فلما فتحت كنوز كسرى وقيصر وثب بعثمان فقتل وثارت الفتن . و { يسلكه } معناه يدخله ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء أي «يسلكه » الله ، وقرأ بعض التابعين «يُسلكه » بضم الياء من أسلك وهما بمعنى ، وقرأ باقي السبعة «نسلكه » بنون العظمة ، وقرأ ابن جبير «نُسلِكه » بنون مضمومة ولام مكسورة . و { صعداً } معناه شاقاً ، تقول فلان في صعد من أمره أي في مشقة ، وهذا أمر يتصعدني ، وقال عمر : ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح ، وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس : صعد جبل في النار ، وقرأ قوم «صُعُوداً » بضم الصاد والعين ، وقرأ الجمهور بفتح الصاد والعين ، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين ، وقال الحسن : معناه لا راحة فيه ،

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

وجملة { لِنَفْتِنَهم فيه } إدماج فهي معترضة بين جملة { وأن لو استقاموا على الطريقة } الخ وبين جملة { ومن يعرض عن ذكر ربّه } الخ .

ثم أكدت الكناية عن الإِنذار المأخوذة من قوله : { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم } الآية ، بصريح الإِنذار بقوله : { ومن يعرض عن ذكر ربّه نسلكه عذاباً صعداً } ، أي فإن أعرضوا انقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب .

والسَّلك : حقيقته الإِدخال ، وفعله قاصر ومتعد ، يقال : سلكه فسلك ، قال الأعشى :

كما سَلكَ السِّكيَّ في الباب فَيْتق

أي أدخل المِسمار في الباب نَجَّارٌ .

وتقدم عند قوله تعالى : { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } في سورة الحجر ( 12 ) .

واستعمل السَلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة . والمعنى : نعذبه عذاباً لا مصرف عنه .

وانتصب { عذاباً } على نزع الخافض وهو حرف الظرفية ، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حلّ به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف .

والعدول عن الإِضمار إلى الإِظهار في قوله : { عن ذكر ربّه } دون أن يقول : عن ذكرنا ، أو عن ذكري ، لاقتضاء الحال الإِيماءَ إلى وجه بناء الخبر فإن المعرض عن ربّه الذي خلقه وأنشأه ودبره حقيق بأن يسلك عذاباً صعداً .

والصّعَد : الشاق الغالِبُ ، وكأنه جاءٍ من مصدر صَعد ، كفرح إذا علا وارتفع ، أي صَعِد على مفعوله وغلبه ، كما يقال : عَلاَه بمعنى تمكن منه ، { وأن لا تعلوا على الله } [ الدخان : 19 ] .

وقرأ الجمهور { نسلكه } بنون العظمة ففيه التفات . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف { يسلكه } بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربّه .