التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ} (33)

ثم أقام - سبحانه - الأدلة الساطعة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له - تعالى - فقال : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ . . . } .

والمراد بالقيام هنا : الحفظ والهيمنة على جميع شئون الخلق والاستفهام للإِنكار ، والخبر محذوف والتقدير : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } أى : رقيب ومهيمن { على كُلِّ نَفْسٍ } كائنة ما كانت ، عالم بما تعمله من خير أو شر فمجازيها به كن ليس كذلك ؟

وحذف الخبر هنا وهو قولنا - كمن ليس كذلك - لدلالة السياق عليه ، كما في قوله - تعالى - : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } أى : كمن قسا قلبه .

وحسن حذف الخبر هنا لأنه مقابل للمبتدأ هو { من } ولأن قوله - تعالى - : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } حالية ، والتقدير :

أفمن هذه صفاته ، وهو الله - تعالى - كمن ليس كذلك ، والحال أن هؤلاء الأغبياء قد جعلوا له شركاء في العبادة وغيرها .

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، زيادة توبيخهم ، وتسفيه أفكارهم وعقولهم .

وقوله - سبحانه - { قُلْ سَمُّوهُمْ } تبكيت لهم إثر تبكيت .

أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - سموهم شركاء إن شئتم ، فإن هذه التسمية لا وجود لها في الحقيقة والواقع ، ولا تخرجهم عن كونهم لا يملكون لأنفسهم - فضلا عن غيرهم - نفعا ولا ضرا ، لأن الله - تعالى - واحد لا شريك له .

وهذه التسمية إنما هي من عند أنفسكم ما أنزل الله بها من سلطن ، كما قال تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } فالأمر في قوله { سموهم } مستعمل في الإِباحة المصحوبة بالتهديد ، للإِشارة إلى عدم الاكتراث بهم وبآلهتهم التي سموها شركاء وسموهم بهذا الاسم : قل لهم على سبيل الإِنكار والتوبيخ : أتخبرون الله بشركاء لا وجود لهم في الأرض ، لأنهم لو كان لهم وجود لعلمهم ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء .

أم أنكم سميتموهم شركاء بظاهر من القول أى : بظن من القول لا حقيقة له في الواقع ونفس الأمر .

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } أى : بل أتخبرون الله - تعالى - { بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض } أى بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم - سبحانه - والمراد : نفيها بنفى لازمها على طريق الكناية ، لأنه - سبحانه - إذا كان لا يعلمها - وهو الذي لا يعزب عن علمه شئ - فهى لا حقيقة لها أصلا .

وتخصيص الأرض بالذكر ، لأن المشركين زعموا أنه - سبحانه - له شركاء فيها .

وقوله { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول } أى : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير معنى متحقق في نفس الأمر ، كتسمية الزنجى كافوراً .

وروى عن الضحاك وقتادة ، أن الظاهر من القول : الباطل منه ، كما في قول القائل :

أعيرتنا ألبانها ولحومها . . . وذلك عار يابن ربطة ظاهر

أى : باطل زائد . . . .

وقوله - سبحانه - : { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } إضراب عن حجاجهم ، وإهمال لشأنهم و " زين " من التزيين وهو تصيير الشئ زينا أى : حسنا .

والمكر : صرف الغير عما يريده بحيلة ، والمراد به هنا : كفرهم ومسالكهم الخبيثة ضد الإِسلام والمسلمين .

والمعنى : دع عنك أيها الرسول الكريم - مجادلتهم ، لأنه لا فائدة من ورائها ، فإن هؤلاء الكافرين قد زين لهم الشيطان ورؤساؤهم في الكفر مكرهم وكيدهم للإِسلام وأتباعه ، وصدوهم عن السبيل الحق ، وعن الصراط المستقيم ، ومن يضلله الله - تعالى - بأن يخلق فيه الضلال لسوء استعداده ، فما له من هاد يهديه ويرشده إلى ما فيه نجاته .

هذا ، وقد اشتملت هذه الآية على ألوان من الحجج الساطعة التي تثبت وجوب إخلاص العبادة لله ، وتبطل الشركة والشركاء أشار إليها بعض المفسرين فقال :

قال الطيبى : في هذه الآية الكريمة احتجاج بليغ مبنى على فنون من علم البيان :

أولها : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } كمن ليس كذلك ، احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما .

ثانيها : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } من وضع المظهر موضع المضمر ، للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في أسمائه .

ثالثها : { قُلْ سَمُّوهُمْ } أى عينوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان ، فهو إنكار لوجودها على وجه برهانى . .

رابعها : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ } احتجاج من باب نفى الشئ أعنى العلم بنفى لازمه وهو المعلوم وهو كناية .

خامسها : { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول } احتجاج من باب الاستدراج لبعثهم على الفكر .

أى : أتقولون بأفواهكم من غير روية ، وأنتم ألباء ، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه .

سادسها : التدرج في كل من الإضرابات على ألطف وجه ، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها ، كان الاحتجاج المذكور مناديا على نفسه بالإِعجاز وأنه ليس كلام البشر " .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ} (33)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدّواْ عَنِ السّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .

يقول تعالى ذكره : أفالربّ الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق ، متضمن لها ، عالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال ، رقيت عليهم ، لا يعزُب عنه شيء أينما كانوا كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئا ، ولا يَدْفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضرّا ، ولا يجلب إليهما نفعا ؟ كلاهما سواء . وحُذِف الجواب في ذلك فلم يَقُل وقد قيل أفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ككذا وكذا ، اكتفاء بعلم السامع بما ذُكِر عما تُرِك ذكره . وذلك أنه لمّا قال جلّ ثناؤه : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ عُلم أن معنى الكلام كشركائهم التي اتخذوها آلهة ، كما قال الشاعر :

تَخَيّرِي خُيّرْتِ أُمّ عالِ *** بينَ قَصِيرٍ شَبْرُهُ تِنْبالِ

أذَاكِ أمْ مُنْخَرِقُ السّرْبَالِ *** وَلا يَزالُ آخِرَ اللّيالي

*** مُتْلِفَ مالٍ ومُفِيدَ مالِ ***

ولم يقل : وقد قال : «شَبْرُه تنبال » ، وبين كذا وكذا ، اكتفاء منه بقول : أَذَاكَ أمْ مُنْخَرِق السّرْبالِ ، ودلالة الخبر عن المنخرق السربال على مراده في ذلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ذلكم ربكم تبارك وتعالى ، قائم على بني آدم بأرزاقهم وآجالهم ، وحفظ عليهم والله أعمالهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ يعني بذلك نفسه ، يقول : هو معكم أينما كنتم ، فلا يعمل عامل إلا وهو حاضر . ويقال : هم الملائكة الذين وكلوا ببني آدم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتْ على رزقهم وعلى طعامهم ، فأنا على ذلك قائم وهم عبيدي ثم جعلوا لي شركاء .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أَفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فهو الله قائم على كل نفس بَرّ وفاجر ، يرزقهم ويكلؤهم ، ثم يُشرك به منهم من أشرك .

وقوله : وَجَعَلَوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ يقول تعالى ذكره : أنا القائم بأرزاق هؤلاء المشركين ، والمدبر أمورهم ، والحافظ عليهم أعمالهم ، وجعلوا لي شركاء من خلقي يعبدونها دوني ، قل لهم يا محمد : سَمّوا هؤلاء الذين أشركتموهم في عبادة الله ، فإنهم إن قالوا آلهة فقد كذبوا ، لأنه لا إله إلا الواحد القهّار لا شريك له . أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ يقول : أتخبرونه بأن في الأرض إلها ، ولا إله غيره في الأرض ولا في السماء .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمّوهُمْ ولو سموهم آلهة لكذبوا وقالوا في ذلك غير الحق لأن الله واحد ليس له شريك ، قال الله : أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ يقول : لا يعلم الله في الأرض إلها غيره .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ والله خلقهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمّوهُمْ ولو سَمّوْهم كذبوا ، وقالوا في ذلك ما لا يعلم الله من إله غير الله فذلك قوله : أمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ مسموع ، وهو في الحقيقة باطل لا صحة له .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . غير أنهم قالوا : أم بظاهر ، معناه : أم بباطل ، فأتوا بالمعنى تدلّ عليه الكلمة دون البيان عن حقيقة تأويلها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ بظنّ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن قتادة ، قوله : أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ والظاهر من القول : هو الباطل .

حْدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ يقول : أم بباطل من القول وكذب ، ولو قالوا ، قالوا الباطل والكذب .

وقوله : بَلْ زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ يقول تعالى ذكره : ما لله من شريك في السموات ولا في الأرض ، ولك زُين للمشركين الذي يدعون من دون إله مكرُهم ، وذلك افتراؤهم وكذبهم على الله . وكان مجاهد يقول : معنى المكر ههنا : القولُ ، كأنه قال : قولهم بالشرك بالله .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بَلْ زُيّنَ للّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ قال : قولهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

وأما قوله : وَصَدّوا عَنِ السّبِيلِ فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين : وَصَدّوا عَنِ السّبِيلِ بضمّ الصاد ، بمعنى : وصدّهم الله عن سبيله لكفرهم به ، ثم جعلت الصاد مضمومة ، إذ لم يسمّ فاعله . وأما عامّة قرّاء الحجاز والبصرة ، فقرءوه بفتح الصاد ، على معنى أن المشركين هم الذين صَدّوا الناس عن سبيل الله .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يُقال : إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكلّ واحدة منهما أئمة من القرّاء ، متقاربتا المعنى وذلك أن المشركين بالله كانوا مصدودين عن الإيمان به ، وهم مع ذلك كانوا يَصُدّون غيرهم ، كما وصفهم الله به بقوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ .

وقوله : وَمَنْ يُضْلِل اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ يقول تعالى ذكره : ومن أضله الله عن إصابة الحقّ والهدى بخذلانه إياه ، فما له أحد يَهْديه لإصابتهما لأن ذلك لا يُنال إلاّ بتوفيق الله ومعونته ، وذلك بيد الله وإليه دون كلّ أحد سواه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ} (33)

هذه الآية راجعة بالمعنى إلى قوله : { وهم يكفرون بالرحمن ، قل هو ربي لا إله إلا هو } [ الرعد : 30 ] والمعنى : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر ؟ - هذا تأويل - ويظهر أن القول مرتبط بقوله : { وجعلوا لله شركاء } كأن المعنى : أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك أهل أن ينتقم ويعاقب أم لا{[6972]} ؟ .

و «الأنفس » من مخلوقاته وهو قائم على الكل أي محيط به لتقرب الموعظة من حس السامع . ثم خص من أحوال الأنفس حال كسبها ليتفكر الإنسان عند نظر الآية في أعماله وكسبه{[6973]} .

وقوله : { قل سموهم } أي سموا من له صفات يستحق بها الألوهية ثم أضرب القول وقرر : هل تعلمون الله { بما لا يعلم } ؟ .

وقرأ الحسن : «هل تنْبئونه » بإسكان النون وتخفيف الباء و { أم } هي بمعنى : بل ، وألف الاستفهام - هذا مذهب سيبويه - وهي كقولهم : إنها لإبل أم شاء .

ثم قررهم بعد ، هل يريدون تجويز ذلك بظاهر من الأمر ، لأن ظاهر الأمر له إلباس ما وموضع من الاحتمال ، وما لم يكن إلا بظاهر القول فقط فلا شبهة له .

وقرأ الجمهور «زُين » على بناء الفعل للمفعول «مكرُهم » بالرفع ، وقرأ مجاهد «زَين » على بنائه للفاعل «مكرَهم » بالنصب ، أي زين الله ، و { مكرهم } : لفظ يعم أقوالهم وأفعالهم التي كانت بسبيل مناقضة الشرع . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «وصُدوا » بضم الصاد ، وهذا على تعدي الفعل وقرأ الباقون هنا ، وفي «حم المؤمن »{[6974]} - بفتحها ، وذلك يحتمل أن يكون «صَدوا » أنفسهم أو «صدوا » غيرهم ، وقرأ يحيى بن وثاب : «وصِدوا » بكسر الصاد{[6975]} .


[6972]:[من] موصولة، وصلتها ما بعدها، والخبر محذوف تقديره ما وضحه ابن عطية على التأويلين اللذين ذكرهما، وحذف الخبر إذا فهم جائز، وقد ورد كثيرا، ومنه قوله تبارك وتعالى: {أقمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}، والتقدير ها هنا: كالقاسي قلبه، وقد دل على القاسي قوله تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم}، هذا وقد جعل حذف الخبر حسنا في هاتين الآيتين أن المبتدأ يكون في مقابله الخبر المحذوف.
[6973]:في بعض النسخ: "عند نظر الله إليه في أعماله وكسبه".
[6974]:في قوله تعالى في الآية (37) من سورة المؤمن (غافر): {وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل}.
[6975]:وهي كقراءة: {ردت إلينا} بكسر الراء من قوله تعالى في الآية (65) من سورة (يوسف): {قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا}، وفي اللوامح عن الكسائي وابن يعمر: (وصدوا) بالكسر لغة.