التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

ثم حذر الله - تعالى - الناس من أهوال يوم القيامة ، وأمرهم بأن يتسلحوا بالإيمان وبالعمل الصالح حتى ينجوا من عذابه فقال : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ . . . }

قوله - تعالى - { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } : بياض الوجوه وسوادها محمولان على الحقيقة عند جمهور العلماء . وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يوجب ترك هذه الحقيقة فوجب الحمل على ذلك .

قال الألوسى : قال بعضهم يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفاً لهم وإظهارا لآثار أعمالهم فى ذلك الجمع . ويوسم أهل الباطل بضد ذلك .

والظاهر أن الابيضاض والأسوداد يكونان لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه ؛ لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو أشرف أعضائه واختلف فى وقت ذلك فقيل : وقت البعث من القبور وقيل وقت قراءة الصحف " .

ويرى بعض العلماء أن بياض الوجوه هنا المراد منه لازمه وهو الفرح والسرور ، كما أن سوادها المراد منه لازمه أيضاً وهو الحون والغم وعليه يكون التعبير القرآنى محمولا على المجاز لا على الحقيقة .

قال الفخر الرازى ما ملخصه : وهذا مجاز مشهور قال - تعالى - { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } ويقال : لفلان عندى يد بيضاء وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه : ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل . . ويقال من وصل إليه مكروه : أربَدّ وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته . . . وعلى هذا فمعنى الآية : أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه ، فإن رأى ما يسره ابيض وجهه بمعنى أنه استبشر بنعم الله وفضله ، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة عليه اسود وجهه بمعنى أنه يشتد حزنه وغمه " .

والظرف " يوم " فى قوله { يَوْمَ تَبْيَضُّ } إلخ منصوب على أنه مفعول به بفعل محذوف والتقدير : اذكر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه والمراد الاعتبار والاتعاظ ويجوز أن يكون العامل فيه قوله { عَظِيمٌ } فى قوله قبل ذلك { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . أى أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات لهم عذاب فى هذا اليوم الهائل الشديد الذي تبيض فيه وجوه المؤمنين وتسود فيه وجوه الكافرين والفاسقين .

وفى وصف هذا اليوم بأنه تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه تهويل لأمره . وتعظيم لشأنه وتشويق لما يرد بعد ذلك من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضة وأصحاب الوجوه المسودة ، وترغيب للمؤمنين فى الإكثار من التزود بالعمل الصاحل وترهيب للكافرين من التمادى فى كفرهم وضلالهم .

والتنكير فى قوله { وُجُوهٌ } للتكثير . أى تبيض وجوه عدد كثير من المؤمنين وتسود وجوه كثيرة للكافرين .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } وقوله - تعالى - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } قال صاحب الكشاف : " البياض من النور والسواد من الظلمة .

فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته ، واشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه . ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده ، واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب . نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمة الباطل وأهله " .

ثم بين - سبحانه - حال الذين اسودت وجوههم وسوء عاقبتهم فقال : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة فيقال لهم { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وحذف هذا القول المقدر والذى هو جواب إما لدلالة الكلام عليه ، ومثله كثير فى القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي قائلين ربنا أبصرنا وسمعنا وقوله تعالى - { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } أي قائلين لهم : سلام عليكم .

والاستفهام في قوله : { أَكْفَرْتُمْ } للتوبيخ والتعجب من حالهم .

قال الآلوسى والظاهر من السياق أن هؤلاء هم أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم ، هو كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه . وقيل هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة ، وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان ؛ لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله - تعالى - ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم " .

وقوله { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } أى فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب وآلامه بسبب استمراركم على الكفر وموتكم عليه .

والأمر فى قوله { فَذُوقُواْ } للإهانة والإذلال ، وهو من باب الاستعارة فى { فَذُوقُواْ } استعارة تبعية تخييلية . وفى العذاب استعارة مكنية : حيث شبه العذاب بشىء يدرك بحاسة الأكل والذوق تصويراً له بصورة ما يذاق ، وأثبت له الذوق تخييلا - وهو قرينة المكنية .

وأل فى العذاب للعهد أى فذوقوا العذاب المعهود الموصوف بالعظم ، والذى سبق أن حذركم الله - تعالى - منه ، ولكنكم لم تعيروا التحذير انتباها ، بل تماديتم فى كفركم وضلالكم حتى أدرككم الموت وأنتم على هذه الحال الشنيعة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه . وأما قوله : { فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } فإن معناه : فأما الذين اسودّت وجوههم ، فيقال لهم : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } . ولا بدّ ل «أمّا » من جواب بالفاء ، فلما أسقط الجواب سقطت الفاء معه ، وإنما جاز ترك ذكر «فيقال » لدلالة ما ذكر من الكلام عليه . وأما معنى قوله جلّ ثناؤه : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُني به ، فقال بعضهم : عُني به أهل قبلتنا من المسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } . . . الاَية ، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون ، ولقد ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ ، لَيَرِدَنّ عَليّ الحَوْضَ مِمّنْ صَحِبَنَي أقْوَامٌ ، حتى إذَا رُفِعُوا إليّ ورأيْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي ، فلأَقُولَنّ رَبّ أصحابِي أصحَابِي ، فَلَيُقالَنّ إنّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ » . وقوله : { وأمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ } هؤلاء أهل طاعة الله والوفاء بعهد الله ، قال الله عز وجل : { فَفِي رحْمة اللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح ، عن أبي مجالد ، عن أبي أمامة : { فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُم بَعْدَ إيَمانِكُمْ } قال : هم الخوارج .

وقال آخرون : عنى بذلك كل من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بين في كتابه . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عليّ بن الهيثم ، قال : أخبرنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } قال : صاروا يوم القيامة فريقين ، فقال لمن اسودّ وجهه وعيرهم : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } قال : هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم ، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم ، وأقرّوا كلهم بالعبودية ، وفطرهم على الإسلام ، فكانوا أمة واحدة مسلمين ، يقول : أكفرتم بعد إيمانكم ، يقول بعد ذلك الذي كان في زمان آدم ، وقال في الاَخرين : الذين استقاموا على إيمانهم ذلك ، فأخلصوا له الدين والعمل ، فبيض الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه وجنته .

وقال آخرون : بل الذين عنوا بقوله : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } : المنافقون . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } . . . الاَية ، قال : هم المنافقون كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم .

وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار ، وأن الإيمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه ، هو الإيمان الذي أقرّوا به يوم قيل لهم : { ألَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلَى شَهِدْنا } . وذلك أن الله جلّ ثناؤه جعل جميع أهل الاَخرة فريقين : أحدهما سوداء وجوهه ، والاَخر بيضاء وجوهه ، فمعلوم إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان أن جميع الكفار داخلون في فريق من سوّد وجهه ، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بيض وجهه ، فلا وجه إذا لقول قائل عنى بقوله : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } بعض الكفار دون بعض ، وقد عمّ الله جلّ ثناؤه الخبر عنهم جميعهم ، وإذا دخل جميعهم في ذلك ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ، ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة ، كان معلوما أنها المرادة بذلك .

فتأويل الاَية إذا : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه قوم ، وتسودّ وجوه آخرين¹ فأما الذين اسودّت وجوههم ، فيقال : أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه ، بأن لا تشركوا به شيئا ، وتخلصوا له العبادة بعد إيمانكم ، يعني : بعد تصديقكم به ، { فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } يقول : بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق¹ وأما الذين ابيضت وجوههم ممن ثبت على عهد الله وميثاقه ، فلم يبدل دينه ، ولم ينقلب على عقبيه بعد الإقرار بالتوحيد ، والشهادة لربه بالألوهة ، وأنه لا إله غيره { ففي رَحْمَةِ اللّهِ } يقول : فهم في رحمة الله ، يعني في جنته ونعيمها ، وما أعدّ الله لأهلها فيها ، { هُمْ فيها خَالِدُونَ } أي باقون فيها أبدا بغير نهاية ولا غاية .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

والعامل في قوله { يوم } الفعل الذي تتعلق به اللام ، وفي قوله { ولهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 105 ] قال الزجاج : تقديره ويثبت لهم عذاب عظيم .

قال القاضي : وذلك ضعيف من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن عظم العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أن يكون العامل قوله عذاب ، لأنه مصدر قد وصف ، «وبياض الوجوه » : عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله ، قال الزجّاج -وغيره- : ويحتمل عندي أن يكون ذلك من آثار الوضوء كما قال النبي عليه السلام ، ( أنتم الغر المحجلون من آثار الوضوء ) {[3404]} ، وأما «سواد الوجوه » ، فقال المفسرون هي عبارة عن اربدادها وإظلامها بغم العذاب ، ويحتمل أن يكون ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً وهذه أقبح طلعة ، ومن ذلك قول بشار : [ البسيط ]

وَلِلْبَخِيلِ عَلى أَمْوالِهِ عِلَلٌ . . . زُرْقٌ العُيونِ عَلَيْها أَوْجُةٌ سُودُ{[3405]}

وقرأ يحيى بن وثاب ، «تِبيض وتِسود » بكسر التاء ، وقرأ الزهري ، «تبياض » وجوه ، «وتسواد » وجوه بألف ، وهي لغة ، ولما كان صدر هذه الآية ، إخباراً عن حال لا تخص أحداً معيناً ، بدىء بذكر البياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى ، فلما فهم المعنى ، وتعين له «الكفار والمؤمنون » ، بدىء بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم ، وقوله تعالى : { أكفرتم } تقرير وتوبيخ ، متعلق بمحذوف ، تقديره : فيقال لهم : أكفرتم ؟ وفي هذا المحذوف هو جواب «أما » ، وهذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغنى المعنى عنه ، كقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة }{[3406]} المعنى فأفطر فعدة وقوله تعالى : { بعد إيمانكم } يقتضي أن لهؤلاء الموقنين إيماناً متقدماً ، فاختلف أهل التأويل في تعيينهم ، فقال أبي بن كعب : الموقفون جميع الكفار ، والإيمان الذي قيل لهم بسببه { بعد إيمانكم } هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم { ألست بربكم ؟ قالوا بلى }{[3407]} وقال أكثر المتأولين : إنما عني بالتوقيف في هذه الآية أهل القبلة من هذه الأمة ، ثم اختلفوا ، فقال الحسن : الآية في المنافقين ، يؤمنون بألسنتهم ويكفرون بقلوبهم ، فيقال لهم : { أكفرتم بعد إيمانكم } ؟ أي ذلك الإيمان بألسنتهم ، وقال السدي : هي فيمن كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا ، وقال أبو أمامة{[3408]} : الآية في الخوارج وقال قتادة : الآية في أهل الردة ، ومنه الحديث : ليردن عليَّ الحوض رجال من أصحابي حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا فأقول : أصحابي أصحابي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : فسحقاً فسحقاً{[3409]} ، وفي بعض طرقه : فأناديهم : ألا هلم ، ألا هلم ، وذكر النحاس قولاً : إن الآية في اليهود ، وذلك أنهم آمنوا بصفة محمد واستفتحوا به ، فلما جاءهم من غيرهم كفروا ، فهذا كفر بعد إيمان ، وروي عن مالك أنه قال : الآية في أهل الأهواء .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

إن كان هذا ففي المختلجين{[3410]} منهم القائلين ما هو كفر ، وروي حديث : أن الآية في القدرية{[3411]} وقال أبو أمامة : سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنها في الحرورية{[3412]} ، وقد تقدم عنه أنها في الخوارج وهو قول واحد ، وما في قوله { بما كنتم } مصدرية .


[3404]:- أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة. (الجامع الصغير: 1/365)
[3405]:- هو بشار بن برد، أبو معاذ، لقبه المرعث، ولد بالبصرة ونشأ في بني عقيل مولعا بالاختلاف إلى الأعراب فشب فصيح اللسان صحيح البيان، كان يعيش في ظلال الشعر، ولد أكمه، وكان هجاء يتغزل بالنساء، ويهتك ستر الحشمة حتى نقم الناس منه وتمنوا موته فأمر المهدي العباسي صاحب شرطته أن يضربه بالسوط فضربه حتى مات سنة: 167 هـ وقد أوفى على السبعين "الأغاني 3/129" والبيت من قطعة يهجو بها العباس بن محمد العباسي. والعلل: المعاذير الذي يبديها البخيل ليصرف العفاة، وسميت عللا لأنها يبرهن بها على وجه منع العطاء. وشبه بشار هذه العلل بحرّاس يتخذها البخيل على أمواله على طريق المكنية وأثبت لها أعينا زرقا ووجوها سودا على طريقة التخييل. والمقصود من البيت: التشنيع وعلامة الشر، فقوله: "زرق العيون" تشويه وتوسيم بالشر (تعليق الشيخ الطاهر بن عاشور 3/128 على ديوان بشار).
[3406]:- من الآية (184) من سورة البقرة.
[3407]:- من الآية (172) من سورة الأعراف.
[3408]:- هو صدي بن عجلان بن الحارث الباهلي، مشهور بكنيته، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من الصحابة، وروى عنه جماعة منهم مكحول وشهر بن حوشب، سكن الشام وتوفي سنة 86هـ. "الإصابة 2/182".
[3409]:- أخرجه الإمام أحمد والبخاري، ومسلم، عن أنس وعن حذيفة. "الجامع الصغير 2/386".
[3410]:- المختلج: هو الذي نقل عن قومه ونسبه فيهم إلى قوم آخرين، اختلج الشيء انتزعه.
[3411]:- الحديث المشار إليه: هو حديث أبي أمامة الباهلي، وقد أخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق عكرمة، وكذا الحاكم. وقد أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وعبد الرزاق وإسحاق والطبراني وأبو يعلى، كلهم من طريق أبي غالب. "تعليق الكشاف لابن حجر 1/399 ط: 1" وابن كثير في تفسيره 1/390". والقدرية: قوم يجحدون القدر، أو ينسبون إلى التكذيب بما قدر الله من الأشياء وينقسمون إلى اثنتي عشرة فرقة.
[3412]:- الحرورية: فرقة من الخوراج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، تنسب إلى موضع بظاهر الكوفة يقال له حروراء، وتنقسم إلى اثنتي عشرة فرقة أيضا.