وقوله تعالى - { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول } استئناف مبين لحالهم التى أشير إلى شدتها وفظاعتها بقوله { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } .
والتنوين فى قوله { يَوْمَئِذٍ } عوض عن الجملتين السابقتين أى مجئ الشهيد على كل أمة ، ومجئ الرسول شهيدا على قومه .
أى : يوم أن يشهد الرسل على أقوامهم بأنهم قد بلغوهم رسالة الله ، ويوم أن تشهد أنت يا محمد على من كذبك من قومك بأنك قد أمرتهم بعبادة الله وحده يومئذ وهو يوم القيامة ، يتمنى ويحب الذين كفروا وعصوا الرسول الذى جاء لهدايتهم { لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض } أى يودون لو انشقت الأرض فبلعتهم لما يرون من هول الموقف ولما سيحل بهم من الخزى والفضيحة والعذاب . أو يودون لو يدفنون فيها فتسوى عليهم كما تسوى على الموتى ويبقون على هذه الحال فى باطنها بدون بعث أو نشور ، حتى ما أُعد لهم من عقاب بسبب سوء أعمالهم .
والمقصود أنهم لشدة خوفهم وفزعهم يتمنون أن لو أفتم الأرض فى باطنها بحيث لا يظهر شئ منهم عليها فى أى وقت من الأوقات .
وجملة { لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض } مفعول { يَوَدُّ } على أن لو مصدرية . أى : يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض متلبسة بهم حتى لكأنهم جزء منها .
وقوله { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } معطوف على { يَوَدُّ } أى أنهم يومئذ يودون لوتسوى بهم الأرض ، ويعترفون لله تعالى بجميع ما فعلوه ، لأنهم لو كتموا شيئا بألسنتهم لشهدت عليهم بقية جوارحهم .
ويصح أن تكون الواو فى قوله { وَلاَ يَكْتُمُونَ } للحال . أى : أنهم يومئذ يودون لوتسوى بهم الأرض والحال أنهم مع ذلك لا يكتمون عن الله - تعالى - حديثا من أحوالهم فى الدنيا لأنهم لا يستطيعون هذا الكتمان .
والمقصود أنهم مع شدة هلعهم وجزعهم لن يستطيعوا أن يفلتوا من عقاب الله ، ولن يستطيعوا أن يكتموا شيئا مما ارتكبوه من جرائم .
أخرج ابن جرير عن الضحاك أن نافع بن الأزرق - وكان ممن يسألون عن متشابه القرآن - أنى إلى ابن عباس فقال : يا ابن عباس : قال الله - تعالى - { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } وقوله { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } - كيف الجمع بينهما - ؟ فقال له ابن عباس . إنى أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت : ألقى على ابن عباس متشابه القرآن . فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله - تعالى - يجمع الناس يوم القيامة فى بقيع واحد . فيقول المشركون : إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده . فيقولون : تعالوا نجحد فيسألهم فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين .
قال : فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم فنشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين . فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثا .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أمرت بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده كما أمرت بالإِحسان إلى الوالدين والأقربين ، واليتامى والمساكين ؛ وإلى الجار القريب والبعيد ، وإلى الصاحب والمسافر والمملوك ، ونهت عن البخل والرياء وجحود الحق واتباع الشيطان . وبينت أن الله - تعالى - لا يظلم أحداً مثقال ذرة وأنه - سبحانه - يضاعف ثواب الحسنات ، ويعطى المحسن من ألوان الخير مالا يعلمه إلا هو - سبحانه - ونبهت الكافرين إلى سوء مصيرهم حتى يثوبوا إلى رشدهم ويسيروا فى الطريق القويم من قبل أن يأتى يوم تنكشف فيه الحقائق وينالون فيه ما يستحقون من عقاب دون أن ينفعهم الندم أو التمنى .
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرّسُولَ لَوْ تُسَوّىَ بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يوم نجيء من كل أمة بشهيد ، ونجيء بك على أمتك يا محمد شهيدا ، { يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا } يقول : يتمنى الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله ، لو تسوّى بهم الأرض .
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز ومكة والمدينة : «لَوْ تَسّوّى بِهِمُ الأرْضُ » بتشديد السين والواو وفتح التاء ، بمعنى : لو تَتَسوّى بهم الأرض ، ثم أدغمت التاء الثانية في السين ، يراد به : أنهم يودّون لو صاروا ترابا ، فكانوا سواء هم والأرض . وقرأ آخرون ذلك : «لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ » بفتح التاء وتخفيف السين ، وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة بالمعنى الأوّل ، غير أنهم تركوا تشديد السين ، واعتلوا بأن العرب لا تكاد تجمع بين تشديدين في حرف واحد . وقرأ ذلك آخرون : { لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الأرْضُ } بمعنى : لو سوّاهم الله والأرض ، فصاروا ترابا مثلها بتصييره إياهم ، كما يفعل ذلك بمن ذكر أنه يفعله به من البهائم . وكل هذه القراءات متقاربات المعنى ، وبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب ، لأن من تمنى منهم أن يكون يومئذ ترابا إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين الله إياه كذلك ، وكذلك من تمنى أن يكون الله جعله كذلك فقد تمنى أن يكون ترابا . على أن الأمر وإن كان كذلك ، فأعجب القراءة إليّ في ذلك : «لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ » بفتح التاء وتخفيف السين ، كراهية الجمع بين تشديدين في حرف واحد ، وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله : { وَيَقُولُ الكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا } فأخبر الله عنهم جلّ ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا ترابا ، ولم يخبر عنهم أنهم قالوا : يا ليتني كنت ترابا ، فكذلك قوله : «لَوْ تَسَوّى بِهِمُ الأرْضُ » فيسوّوا هم ، وهي أعجب إليّ ليوافق ذلك المعنى الذي أخبر عنهم بقوله : { يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابا } .
وأما قوله : { وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } فإن أهل التأويل تأوّلوه ، بمعنى : ولا تكتم الله جوارحهم حديثا وإن جحدت ذلك أفواههم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو عن مطرف ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : أتى رجل ابن عباس ، فقال : سمعت الله يقول : { وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } وقال في آية أخرى : { وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } . فقال ابن عباس : أما قوله : { وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : تعالوا فلنجحد ، فقالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ! فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ، فلا يكتمون الله حديثا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : أشياء تختلف عليّ في القرآن ؟ فقال : ما هو ؟ أشكّ في القرآن ؟ قال : ليس بالشك ، ولكنه اختلاف . قال : فهات ما اختلف عليك ! قال : أسمع الله يقول : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } وقال : { وَلا يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } وقد كتموا ! فقال ابن عباس : أما قوله : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره جحد المشركون ، فقالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ، رجاء أن يغفر لهم ، فختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك { يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الزبير ، عن الضحاك : أن نافع ابن الأزرق أتى ابن عباس فقال : يا ابن عباس ، قول الله تبارك وتعالى : { يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } ، وقوله : { وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ } ؟ فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت : ألقى عليّ ابن عباس متشابه القرآن ، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فيقول المشركون إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحّده ، فيقولون : تعالوا نجحد ! فيسألهم ، فيقولون : والله ربنا ما كنا مشركين ، قال : فيختم على أفواههم ، ويستنطق جوارحهم ، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سوّيت بهم ، ولا يكتمون الله حديثا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثا } يعني : أن تُسوّى الأرض بالجبال عليهم .
فتأويل الاَية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس : يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهمُ الأرْضُ ولَمْ يَكْتُمُوا اللّهَ حَدِيثا . كأنهم تمنوا أنهم سوّوا مع الأرض ، وأنهم لم يكونوا كتموا الله حديثا .
وقال آخرون : معنى ذلك يومئذ لا يكتمون الله حديثا ، ويودّون لو تسوّى بهم الأرض . وليس بمنكتم عن الله من شيء حديثهم ، لعلمه جلّ ذكره بجميع حديثهم وأمرهم ، فإنهم إن كتموه بألسنتهم فجحدوه ، لا يخفى عليه شيء منه .
و { يومئذ } ظرف ويصح أن يكون نصب «يوم » في هذا الموضع على الظرف ، على أنه معرب مع الأسماء غير المتمكنة ، ويصح أن يكون نصبه على أنه مبني على النصب مع الأسماء غير المتمكنة ، و «الود » إنما هو في ذلك اليوم .
وقرأ نافع وابن عامر «تسّوّى » بتشديد السين والواو ، على إدغام التاء الثانية من تتسوى ، وقرأ حمزة والكسائي «تسَوّى » بتخفيف السين وتشديد الواو{[4051]} ، على حذف التاء الثانية المذكورة ، وهما بمعنى واحد ، واختلف فيه ، فقالت فرقة : تنشق الأرض فيحصلون فيها ، ثم تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم{[4052]} ، وقالت فرقة : معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا تراباً كآبائهم ، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المستوية معهم ، والمعنى إنما هو أنهم يستوون مع الأرض ، ففي اللفظ قلب يخرج على نحو اللغة التي حكاها سيبويه ، أدخلت القلنسوة في رأسي وأدخلت فمي في الحجر ، وما جرى مجراه ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «تُسوى » على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، فيكون الله تعالى يفعل ذلك على حسب المعنيين المتقدمين ، قال أبو علي : إمالة الفتحة إلى الكسرة والألف إلى الياء في «تسوى » حسنة .
قالت طائفة : معنى الآية أن الكفار لما يرونه من الهول وشدة المخاوف يودون أن تسوى بهم الأرض فلا ينالهم ذلك الخوف ، ثم استأنف الكلام فأخبر أنهم { لا يكتمون حديثاً } لنطق جوارحهم بذلك كله ، حين يقول بعضهم : { والله ربنا ما كنا مشركين }{[4053]} فيقول الله : كذبتم ، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً ، وهذا قول ابن عباس ، وقال فيه : إن الله إذا جمع الأولين والآخرين ظن بعض الكفار أن الإنكار ينجي ، فقالوا : { والله ربنا ما كنا مشركين } ، فيقول الله : كذبتم ، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً ، وهكذا فتح ابن عباس على سائل أشكل عليه الأمر{[4054]} ، وقالت طائفة : مثل القول الأول ، إلا أنها قالت : إنما استأنف الكلام بقوله : { ولا يكتمون الله حديثاً } ليخبر عن أن الكتم لا ينفع ، وإن كتموا ، لأن الله تعالى يعلم جميع أسرارهم وأحاديثهم ، فمعنى ذلك : وليس ذلك المقام الهائل مقاماً ينفع فيه الكتم .
قال القاضي أبو محمد : الفرق بين هذين القولين أن الأول يقتضي أن الكتم لا ينفع بوجه ، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع ، كما تقول : هذا مجلس لا يقال فيه باطل ، وأنت تريد لا ينتفع به ولا يستمع إليه ، وقالت طائفة : الكلام كله متصل ، ومعناه : يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض ، ويودون أن لا يكتموا الله حديثاً ، وودهم لذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا : { والله ربنا ما كنا مشركين } ، وقالت طائفة : هي مواطن وفرق ، وقالت طائفة : معنى الآية : يود الذين كفروا أن تسوى بهم الأرض ، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً ، وهذا على جهة الندم على الكذب أيضاً ، كما تقول : وودت أن أعزم كذا ، ولا يكون كذا على جهة الفداء ، أي يفدون كتمانهم بأن تسوى بهم الأرض ، و { الرسول } في هذه الآية : للجنس ، شرف بالذكر وهو مفرد دل على الجمع ، وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : «وعصِوا الرسول » بكسر الواو من { عصوا } .