التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر قدرته فى خلق السماء ، فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ . . } .

ومعنى استوائه - سبحانه - إلى السماء ، ارتفاعه إليها بلا كيف أو تشبيه أو تحديد ، لأنه - سبحانه - منزه عن ذلك .

والدخان : ما ارتفع من لهب النار . والمراد به هنا : ما يرى من بخار الأرض أو بخار الماء ويصح أن يكون معنى : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } : تعلقت إرادته - تعالى - بخلقها .

قال الآلوسى : قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } أى : قصد إليها وتوجه ، دون إرادة تأثير فى غيرها ، من قولهم : استوى إلى مكان كذا ، إذا توجه إليه لا يلوى على غيره .

.

وقوله : { وَهِيَ دُخَانٌ } أى أمر ظلمانى ، ولعله أريد بها مادتها التى منها تركبت .

وقوله - تعالى - : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً . . . } بيان لما وجهه - سبحانه - إليهما من أوامر .

والمراد بإتيانهما : انقيادهما التام لأمره - تعالى - .

أى : فقال - سبحانه - للسماء وللأرض أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد ، فأنت يا سماء ، أبرزى ما خلقت فيك من شمس وقمر ونجوم . . وأنت يا أرض أخرجى ما خلقت فيك من نبات وأشجار وكنوز .

قال الفخر الرازى : والمقصود من هذا القول : إظهار كمال القدرة ، أى : ائتيا شئتما أم أبينتما ، كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أم لم تشأ ، ولتفعلنه طوعا أو كرها ، وانتصابهما على الحال ، بمعنى طائعين أو مكرهين . .

وقوله : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } بيان لامتثالهما التام لأمره - تعالى - .

أى : قالتا : فلنا ما أمرتنا به منقادين خاضعين متسجيبين لأمرك ، فأنت خالقنا وأنت مالك أمرنا .

قال القرطبى : وقوله : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } فيه وجهان : أنه تمثيل لظهور الطاعة منهما ، حيث انقادا وأجابا فقام مقام قولهما . ومنه قول الراجز :

امتلأ الحوض وقال قطنى . . . مهلا رويدا ملأت بطنى

يعنى : ظهر ذلك فيه .

وقال أكثر أهل العلم : بل خلق الله - تعالى - فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد - سبحانه - .

وجمعهما - سبحانه - جمع من يعقل ، لخطابهما بما يخاطب به العقلاء .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

وقوله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَهَا وَللأَرْض ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ يعني تعالى ذكره : ثم استوى إلى السماء ، ثم ارتفع إلى السماء . وقد بيّنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى قبل .

وقوله : فَقالَ لها وَللأَرْض ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها يقول جلّ ثناؤه : فقال الله للسماء والأرض : جيئا بما خلقت فيكما ، أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات ، وتشقّقِي عن الأنهار قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ جئنا بما أحدثت فينا من خلقك ، مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، فَقالَ لها وَللأَرْض ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ قال : قال الله للسموات : أطلعي شمسي وقمري ، وأطلعي نجومي ، وقال للأرض : شققي أنهارك واخرجي ثمارك ، فقالتا : أعطينا طائعين .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن جُرَيج ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، في قوله ائْتِنا : أعطيا . وفي قوله : قَالَتا أئتَيْا قالتا : أعطينا .

وقيل : أتينا طائعين ، ولم يُقل طائعتين ، والسماء والأرض مؤنثتان ، لأن النون والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله أتَيْنا نظيره كناية أسماء المخبرين من الرجال عن أنفسهم ، فأجرى قوله طائِعِينَ على ما جرى به الخبر عن الرجال كذلك . وقد كان بعض أهل العربية يقول : ذهب به إلى السموات والأرض ومن فيهنّ .

وقال آخرون منهم : قيل ذلك كذلك لأنهما لما تكلمتا أشبهتا الذكور من بني آدم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

{ استوى إلى السماء } معناه بقدرته واختراعه أي إلى خلق السماء وإيجادها .

وقوله تعالى : { وهي دخان } روي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار ، وروي أنه مما أمره الله أن يصعد من الماء ، وهنا لفظ متروك ويدل عليه الظاهر ، وتقديره : فأوجدها وأتقنها وأكمل أمرها ، وحينئذ قيل لها وللأرض { ائتيا طوعاً أو كرهاً } .

وقرأ الجمهور : «إيتيا » من أتى يأتي «قالتا أتينا » على وزن فعلنا ، وذلك بمعنى إيتيا وإرادتي فيكما ، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد : «آيتيا »{[10044]} من آتى يؤتى «قالتا آتينا » على وزن أفعلنا{[10045]} ، وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما ، والإشارة بهذا كله إلى تسخيره وما قدره الله من أعمالها .

وقوله : { أو كرهاً } فيه محذوف ومقتضب ، والتقدير : { ائتيا طوعاً } وإلا أتيتما { كرهاً } . وقوله : { قالتا } أراد الفرقتين المذكورتين ، وجعل السماوات سماء والأرضين أرضاً ، ونحو هذا قول الشاعر : [ الوافر ]

ألم يحزنك أن حبال قومي . . . وقومك قد تباينتا انقطاعا{[10046]}

جعلها فرقتين ، وعبر عنها ب { ائتيا } .

وقوله : { طائعين } لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى الضمير في { طائعين } ذلك المجرى ، وهذا كقوله : { رأيتهم لي ساجدين }{[10047]} ونحوه .

واختلف الناس في هذه المقالة من السماء والأرض ، فقالت فرقة : نطقت حقيقة ، وجعل الله تعالى لها حياة وإدراكاً يقتضي نطقها . وقالت فرقة : هذا مجاز ، وإنما المعنى أنها ظهر منها من اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة القول { أتينا طائعين } والقول الأول أحسن ، لأنه لا شيء يدفعه وإنما العبرة به أتم والقدرة فيه أظهر .


[10044]:ضبطه القرطبي بقوله: (بالمد والفتح)، وقال أيضا إنها قراءة عكرمة، ويفهم من الهامش التالي أنهما من: (آتى يؤاتي)، لا من (آتى يؤتي).
[10045]:قال أبو الفتح ابن جني في المحتسب: (ينبغي أن يكون [آتينا] هنا: فاعلنا، كقولك: سارعنا وسابقنا، ولا يكون: أفعلنا، لأن ذلك متعد إلى مفعولين، وفاعلنا متعد إلى مفعول واحد، وحذف الواحد أسهل من حذف الاثنين، لأنه كما قل الحذف كان أمثل من كثرته، ومثل [آتينا] في أنه فاعلنا لا أفعلنا القراءة الأخرى: {وإن كان مثقال حبة من خردل آتينا بها}، أي سارعنا بها). والزمخشري من هذا الرأي أيضا، فقد قال: إنها المواتاة وهي الموافقة، فيكون وزن [آتينا]: فاعلنا، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي، قال: ([آتينا] بالمد على فاعلنا، من المواتاة، ومعناه: سارعنا، على حذف المفعول منه، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله).
[10046]:البيت للقطامي الشاعر النصراني الذي عاش في العصر الإسلامي، وهو من قصيدة له يمدح زفر بن الحارث الكلاني الذي أطلق سبيله من الأسر، وفي مطلعها يقول: (قفي قبل التفرق يا ضباعا)، وضباعة هذه هي بنت زفر، والبيت في الطبري، والبحر المحيط، وفي الديوان، وفي (شعراء النصرانية في الإسلام)، والرواية في أكثرها: (ألم يحزنك أن حبال قيس وتغلب...) – والحبال: الصلاة والعهود، والشاهد أن الشاعر قال: (تباينتا) بالتثنية مع أن حبال قيس وحبال تغلب جمع، وكان الظاهر يقتضي أن يقول: (تباينت) مراعاة لمعنى الجمعية في الحبال. هذا هو كلام ابن عطية هنا، ولكن أبا حيان يخالفه في البحر المحيط ويقول: (وليس كما ذكر ابن عطية لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فحسن التعبير عنهما بالتثنية، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية، كأنه قال: ألم يحزنك أن حبال قومي وقومك، ولذلك ثنى في قوله: (تباينتا)، وأنث على معنى الحبل، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة، وإنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قوميهما).
[10047]:من الآية (4) من سورة (يوسف).