التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَيۡدِيهِمۡۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (10)

ثم مدح - سبحانه - الذين عاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووفوا بعهودهم أكمل وفاء ، فقال : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله . . . } .

وقوله - سبحانه - : { يُبَايِعُونَكَ } من المبايعة أو من البيعة ، بمعنى المعاهدة أو العهد ، وسميت المعاهدة مبايعة ، لاشتمال كل واحد منهما على معنى المبادلة ، وعلى وجوب الصدق والوفاء .

والمراد بهذه المبايعة ، ما كان من المؤمنين فى صلح الحديبية ، عندما عاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الثبات وعلى مناجرة المشركين بعد أن أشيع أنهم قتلوا عثمان - رضى الله عنه - . أى : إن الذين يبايعونك على الموت أو على عدم الفرار عند لقاء عند لقاء المشركين ، إنما يبايعون ويعاهدون الله - تعالى - على ذلك قبل أن يبايعوك أنت ، لأن المقصود من هذه البيعة إنما هو طاعته - سبحانه - وامتثال أمره ، كما قال - تعالى - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } فالمقصود بقوله : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } تأكيد وجوب الوفاء بما عهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه من الثبات وعدم الفرار ، والطاعة له فى كل ما يأمرهم به .

وقوله - سبحانه - : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } زيادة فى تأكيد وجوب الوفاء .

ومذهب السلف فى هذه الآية وأمثالها من آيات الصفات : أنه يجب الإِيمان بها ، وتفويض علم معناها المراد منها إلى الله - تعالى - وترك تأويلها مع تنزيهه - تعالى - عن حقيقتها ، لاستحالة مشابهته - تعالى - بالحوادث ، كما قال - سبحانه - : { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } أما الخلف فمذهبهم تأويل هذه الصفات على معنى يليق بجلاله ، فيؤولون اليد هنا بالقوة أو القدرة . أى : قوة الله - تعالى - ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم ، كما يقال : اليد فى هذه المسألة لفلان ، أى : الغلبة والنصرة له .

أو المعنى : يد الله - تعالى - بالوفاء بما وعدهم من الخير والنصرة فوق أيديهم . . والمقصود بهذه الجملة - كما أشرنا - زيادة التأكيد على وجوب الوفاء والثبات .

قال صاحب الكشاف : لما قال - سبحانه - : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } أكده تأكيداً على سبيل التمثيل ، فقال : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يريد أن يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التى تعلو أيدى المبايعين : هى يد الله ، والله - تعالى - منزله عن الجوارح وعن صفات الأجسام .

.

وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق من الرسول - صلى الله عليه وسلم - كعقده مع الله - تعالى - .

ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة الناكثين فقال : { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } أى : فمن نقض العهد بعد إبرامه وتوثيقه ، فإنما عاقبة نقضه يعود وبالها وشؤمها عليه .

فقوله { نَّكَثَ } مأخوذ من النَّكث - بكسر النون - وهو فك الخيوط المغزولة بعد غزلها ، وقوله : { وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أى : ومن ثبت على الوفاء بما عاهد الله - تعالى - عليه فسيعطيه - سبحانه - من فضله أجرا عظيما على ذلك .

والهاء فى قوله : { عَلَيْهُ } قرأها حفص بالضم ، توصلا إلى تفخيم لفظ الجلالة ، الملائكة لتفخيم أمر العهد المشعر به الكلام ، وقرأها الجمهور بالكسر .

هذا ، وقد وردت أحاديث متعددة ، تصرح بأن الذين كانوا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى صلح الحديبية قد بايعوا جميعا النبى - صلى الله عليه وسلم - على الموت أو على الفرار ، سوى جماعة من المنافقين ، امتنعوا عن هذه البيعة ، لمرض قلوبهم ، وسوء طويتهم . .

ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الشيخان عن سلمة بن الأكوع قال : بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة ، قيل : على أى شئ ؟ قال : على الموت .

وروى مسلم فى صحيح عن جابر بن عبد الله أنه سئل : كم كان عددكم يوم الحديبية ؟ قال : كنا أربع عشرة مائة ، فبايعنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن لا نفر - سوى الجد بن قيس فإنه اختفى تحت بطن بعيره ، ولم يسرع مع القوم . .

وهكذا فاز المؤمنون الصادقون بشرف هذه البيعة وحرم منها المنافقون لمرض قلوبهم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَيۡدِيهِمۡۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (10)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نّكَثَ فَإِنّمَا يَنكُثُ عَلَىَ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىَ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ بالحديبية من أصحابك على أن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ ، ولا يولّوهم الأدبار إنّمَا يُبايِعُونَ اللّهَ يقول : إنما يبايعون ببيعتهم إياك الله ، لأن الله ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ قال : يوم الحديبية .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنّمَا يُبايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فإنّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وهم الذين بايعوا يوم الحديبية .

وفي قوله : يَدُ اللّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ وجهان من التأويل : أحدهما : يد الله فوق أيديهم عند البيعة ، لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم والاَخر : قوّة الله فوق قوّتهم في نُصرة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم إنما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نُصرته على العدوّ .

وقوله : فَمَنْ نَكَثَ فإنّمَا يَنْكُثُ على نَفْسِهِ يقول تعالى ذكره : فمن نكث بيعته إياك يا محمد ، ونقضها فلم ينصرك على أعدائك ، وخالف ما وعد ربه فإنّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ يقول : فإنما ينقض بيعته ، لأنه بفعله ذلك يخرج ممن وعده الله الجنة بوفائه بالبيعة ، فلم يضرّ بنكثه غير نفسه ، ولم ينكث إلا عليها ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تبارك وتعالى ناصره على أعدائه ، نكث الناكث منهم ، أو وفى ببيعته .

وقوله : وَمَنْ أوْفَى بِمَا عاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ . . . الآية ، يقول تعالى ذكره : ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدوّ في سبيل الله ونُصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه فَسَيُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما يقول : فسيعطيه الله ثوابا عظيما ، وذلك أن يُدخله الجنة جزاءً له على وفائه بما عاهد عليه الله ، ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الأيمان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَسَيؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما وهي الجنة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوۡقَ أَيۡدِيهِمۡۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (10)

{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } لأنه المقصود ببيعته . { يد الله فوق أيديهم } حال أو استئناف مؤكد له على سبيل التخييل . { فمن نكث } نقض العهد . { فإنما ينكث على نفسه } فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه . { ومن أوفى بما عاهد عليه الله } في مبايعته { فسيؤتيه أجرا عظيما } هو الجنة ، وقرئ " عهد " وقرأ حفص { عليه } بضم الهاء وابن كثير ونافع وابن عامر وروح " فسنؤتيه " بالنون . والآية نزلت في بيعة الرضوان .