التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَسۡقَيۡنَٰكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَٰزِنِينَ} (22)

ثم انتقل - سبحانه - من الاستدلال على وحدانيته وقدرته بظواهر السماء وبظواهر الأرض ، إلى الاستدلال على ذلك بظواهر الرياح والأمطار فقال - تعالى - : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } والآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق ذكره من النعم .

والمراد بإرسال الرياح هنا : نقلها من مكان إلى آخر بقدرة الله - تعالى - وحكمته .

وقوله { لواقح } يصح أن يكون جمع لاقح . وأصل اللاقح : الناقة التي قبلت اللقاح فحملت الجنين في بطنها . .

ووصف - سبحانه - الرياح بكونها لواقح . لأنها حوامل تحمل ما يكون سببا في نزول الأمطار كما تحمل النوق الأجنة في بطونها .

أى : وأرسلنا بقدرتنا ورحمتنا الرياح حاملة للسحاب وللأمطار ولغيرهما ، مما يعود على الناس بالنفع والخير والبركة .

ويصح أن يكون لفظ { لواقح } جمع ملقح - اسم فاعل - وهو الذي يلقح غيره ، فتكون الرياح ملقحة لغيرها كما يلقح الذكر الأنثى .

قال الإِمام ابن كثير : قوله { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } أى : تلقح السحب فتدر ماء ، وتلقح الأشجار فتتفتح عن أوراقها وأكمامها .

وقال بعض العلماء : ومعنى الإِلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين ، فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ، ثم ينزل مطرًا على الأرض ، وأنها تلقح الشجر ذا الثمرة ، بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نوْر الشجر الذكر ، فتصلح ثمرته أو تثبت . .

وهذا هو الإبار . وبعضه لا يحصل إلا بتعليق الطلع الذكر على الشجرة المثمرة . وبعضه يكتفى منه بغرس شجرة ذكر في خلال شجر الثمر

ومن بلاغة الآية الكريمة ، إيراد هذا الوصف - لواقح - لإِفادة كلا العملين اللذين تعملهما الرياح - وهما الحمل للسحاب والمطر وغيرهما ، أو التلقيح لغيرها - .

وقوله { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ . . } تفريع على ما تقدم .

أى : وأرسلنا الرياح بقدرتنا من مكان إلى آخر ، حالة كونها حاملة للسحاب وغيره ، فأنزلنا - بسبب هذا الحمل - من جهة السماء ، ماء كثيرًا هو المطر ، لتنتفعوا به في شرابكم ، وفى معاشكم ، وفى غير ذلك من ضرورات حياتكم .

قال - تعالى - : { هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات . . . } وقوله { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } تتميم لنعمة إنزال الماء .

أى : أنزلنا المطر من السماء ، وليست خزائنه عندكم . وإنما نحن الخازنون له ، ونحن الذين ننزله متى شئنا ، ونحن الذين نمنعه متى شئنا ، كما قال - تعالى - قبل ذلك : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } .

ويصح أن يكون المعنى : أنزلنا المطر من السماء فجعلناه لسقياكم ، وأنتم لستم بقادرين على خزنه وحفظه في الآبار والعيون وغيرها ، وإنما نحن القادرون على ذلك . قال - تعالى - { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ فَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَسۡقَيۡنَٰكُمُوهُ وَمَآ أَنتُمۡ لَهُۥ بِخَٰزِنِينَ} (22)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } .

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة القرّاء : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ ، وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة : «وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ » فوحّد الريح وهي موصوفة بالجمع أعنى بقوله : «لواقح » . وينبغي أن يكون معنى ذلك : أن الريح وإن كان لفظها واحدا ، فمعناها الجمع لأنه يقال : جاءت الريح من كلّ وجه ، وهبّت من كلّ مكان ، فقيل لواقح لذلك ، فيكون معنى جمعهم نعتها وهي في اللفظ واحدة معنى قولهم : أرض سباسب ، وأرض أغفال ، وثوب أخلاق ، كما قال الشاعر :

جاءَ الشّتاءُ وقَمِيصي أخْلاقْ *** شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهُ التّوّاقْ

وكذلك تفعل العرب في كلّ شيء اتسع .

واختلف أهل العربية في وجه وصف الرياح باللقح وإنما هي ملقحة لا لاقحة ، وذلك أنها تلقح السحاب والشجر ، وإنما توصف باللقح الملقوحة لا الملقح ، كما يقال : ناقة لاقح . وكان بعض نحويي البصرة يقول : قيل : الرياح لواقح ، فجعلها على لاقح ، كأن الرياح لقحت ، لأن فيها خيرا فقد لقحت بخير . قال : وقال بعضهم : الرياح تلقح السحاب ، فهذا يدلّ على ذلك المعنى لأنها إذا أنشأته وفيها خير وصل ذلك إليه . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : في ذلك معنيان : أحدهما أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللقاح ، فيقال : ريح لاقح ، كما يقال : ناقة لاقح ، قال : ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال : عَلَيهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ فجعلها عقيما إذا لم تلقح . قال : والوجه الاَخر أن يكون وصفها باللقح وإن كانت تلقح ، كما قيل : ليل نائم والنوم فيه وسرّكاتم ، وكما قيل : المبروز والمختوم ، فجعل مبروزا ولم يقل مبرزا بَنَاهُ على غير فعله ، أي أن ذلك من صفاته ، فجاز مفعول لمفعل كما جاز فاعل لمفعول إذا لم يرد البناء على الفعل ، كما قيل : ماء دافق .

والصواب من القول في ذلك عندي : أن الرياح لواقح كما وصفها به جلّ ثناؤه من صفتها ، وإن كانت قد تلقح السحاب والأشجار ، فهي لاقحة ملقحة ، ولقحها : حملها الماء ، وإلقاحها السحاب والشجر : عملها فيه ، وذلك كما قال عبد الله بن مسعود .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن سكن ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال : يرسل الله الرياح فتحمل الماء ، فتجري السحاب ، فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر .

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن قيس بن سكن ، عن عبد الله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال : يبعث الله الريح فتلقح السحاب ، ثم تمريه فتدر كما تدر اللقحة ، ثم تمطر .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال » : يرسل الرياح ، فتحمل الماء من السحاب ، ثم تمري السحاب ، فتدر كما تدر اللقحة .

فقد بين عبد الله بقوله : يرسل الرياح فتحمل الماء ، أنها هي اللاقحة بحملها الماء وإن كانت ملقحة بإلقاحها السحاب والشجر .

وأما جماعة أُخَر من أهل التأويل ، فإنهم وجّهوا وصف الله تعالى ذكره إياها بأنها لواقح إلى أنه بمعنى ملقحة ، وأن اللواقح وُضعت ملاقح ، كما قال نهشل بن حريّ :

لِيُبْكَ يَزِيدُ بائِسٌ لِضَرَاعَةً *** وأشْعَثُ ممّنْ طَوّحَتْهُ الطّوَائحُ

يريد المطاوح . وكما قال النابغة :

كليني لِهَمَ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ *** ولَيْلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكوَاكبِ

بمعنى : مُنْصِب . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم في قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال : تلقح السحاب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، مثله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبراهيم ، مثله .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ قال : لواقح للشجر . قلت : أو للسحاب ؟ قال : وللسحاب ، تمريه حتى يمطر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبيد بن عمير ، قال : يبعث الله المبشرة فَتَقُمّ الأرض قَمّا ، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلّفة فتؤلف السحاب ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر . ثم تلا عبيد : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ يقول : لواقح للسحاب ، وإن من الريح عذابا وإن منها رحمة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : لَوَاقِحَ قال : تلقح الماء في السحاب .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس : لَوَاقِحَ قال : تُلقح الشجر وتُمري السحاب .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وأرْسَلْنا الرّياحَ لَوَاقِحَ الرياح يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلىء ماء .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبيس بن ميمون ، قال : حدثنا أبو المهزم ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «الرّيحُ الجَنُوبُ مِنَ الجَنّةِ ، وَهِيَ الرّيحُ اللّوَاقِحُ ، وَهِيَ التي ذَكَرَ اللّهُ تَعَالى فِي كِتابِهِ وَفِيها منَافِعٌ للنّاسِ » .

حدثني أبو الجماهر الحمصي أو الحضرمي محمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد العزيز بن موسى ، قال : حدثنا عبيس بن ميمون أبو عبيدة ، عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله سواء .

وقوله : فأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً فأسْقَيْنا كمُوهُ يقول تعالى ذكره : فأنزلنا من السماء مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب أرضكم ومواشيكم . ولو كان معناه : أنزلناه لتشربوه ، لقيل : فسقينا كموه . وذلك أن العرب تقول إذا سقت الرجل ماء شربه أو لبنا أو غيره : «سقيته » بغير ألف إذا كان لسقيه ، وإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته ، قالوا : «أسقبته وأسقيت أرضه وماشيته » ، وكذلك إذا استسقت له ، قالوا «أسقيته واستسقيته » ، كما قال ذو الرّمّة :

وَقَفْتُ على رَسْمٍ لِمَيّةَ ناقَتِي *** فَمَا زِلْتُ أبْكي عِنْدَهُ وأُخاطِبُهْ

وأُسْقِيهِ حتى كادَ مِمّا أبُثّهُ *** تُكَلّمُني أحْجارُهُ ومَلاعِبُهْ

وكذلك إذا وَهَبْتَ لرجل إهابا ليجعله سقاء ، قلت : أسقيته إياه .

وقوله : وَما أنْتُمْ لَهُ بِخازِنِيَنَ يقول : ولستم بخازني الماء الذي أنزلنا من السماء فأسقينا كموه فتمنعوه من أسقيه لأن ذلك بيدي وإليّ ، أسقيه من أشاء وأمنعه من أشاء . كما :

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : سفيان : وَما أنْتمْ لَهُ بِخازِنِينَ قال : بمانعين .