وبعد أن نزه الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم عن الغلول وعن كل نقص ، وبين أن الناس متفاوتون فى الثواب والعقاب على حسب أعمالهم .
وبعد أن بين ذلك أتبعه ببيان فضله - سبحانه - على عباده فى أن بعث فيهم رسولا منهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور فقال - تعالى - : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } .
قال الرازى : قال الواحدى : " لمن فى كلام العرب معان :
أحدها : الذى يسقط من السماء ، وهو قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } وثانيها : أن تمن بما أعطيت كما فى قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } وثالثها : القطع كما فى قوله { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } ورابعها الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه - وهو المراد هنا " .
والمعنى : لقد أنعم الله على المؤمنين ، وأحسن إليهم { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى بعث فيهم رسولا عظيم القدر ، هو من العرب أنفسهم ، وهم يعرفون حسبه ونسبه وشرفه وأمانته صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا المعنى يكون المراد بقوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى من نفس العرب ، ويكون المراد بالمؤمنين مؤمنى العرب ، وقد بعثه الله عربيا مثلهم ، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع بتوجيهاته .
ويصح أن يكون معنى قوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أنه بشر مثل سائر البشر إلا أن الله - تعالى - وهبه النبوة والرسالة ، ليخرج الناس - العربى منهم وغير العربى - من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان ، وجعل رسالته عامة فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وخص الله - تعالى - منته وفضله بالمؤمنين ، لأنهم هم الذين انتفعوا بنعمة الإسلام ، الذى لن يقبل الله دينا سواه والذى جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام .
والجملة الكريمة جواب قسم محذوف والتقدير : والله { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } .
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذه المنة والفضل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } .
والتلاوة : هى القراءة المتتابعة المرتلة التى يكون بعضها تلو بعض .
والتزكية : هى التطهير والتنقية .
أى لقد أعطى الله - تعالى - المؤمنين من النعم ما أعطى ، لأنه قد بعث فيهم رسلا من جنسهم يقرأ عليهم آيات الله التى أنزلها لهدايتهم وسعادتهم ، { وَيُزَكِّيهِمْ } أى يطهرهم من الكفر والذنوب . أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية ، والاعتقادات الفاسدة .
{ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب } بأن يبين لهم المقاصد التى من أجلها نزل القرآن الكريم ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه التى قدى تخفى على مداركهم .
فتعليم الكتاب غير تلاوته : لأن تلاوته قراءته مرتلا مفهوما أما تعليمه فمعناه بيان أحكامه وما اشتمل عليه من تشريعات وآداب .
ويعلمهم كذلك { الحكمة } أى الفقه فى الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده التى يكمل بها العلم بالكتاب .
وهذه الآية الكريمة قد اشتملت على عدة صفات من الصفات الجليلة التى منحها الله تعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم بين - سبحانه - حال الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } .
أى : إن حال الناس وخصوصا العرب أنهم كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فى ضلال بين واضح لا يخفى أمره لعى أحد من ذوى العقول السليمة والأذواق المستقيمة .
وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام الذى جاء به صلى الله عليه وسلم من عند ربه فى ضلال واضح ، وظلام دامس ، فهم من ناحية العبادة كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى ، ومن ناحية الأخلاق تفشت فيهم الرذائل حتى صارت شيئاً مألوفا ، ومن ناحية المعاملات كانوا لا يلتزمون الحق والعدل فى كثير من شئونهم .
والخلاصة أن الضلال والجهل وغير ذلك من الرذائل ، كانت قد استشرت فى العالم بصورة لا تخفى على عاقل .
فكان من رحمة الله بالناس ومنته عليهم أن أرسل فيهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان .
{ لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مّبِينٍ }
يعني بذلك : لقد تطوّل الله على المؤمنين ، إذ بعث فيهم رسولاً ، حين أرسل فيهم رسولاً من أنفسهم ، نبيا من أهل لسانهم ، ولم يجعله من غير أهل لسانهم فلا يفقهوا عنه ما يقول { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يقول : يقرأ عليهم آي كتابه وتنزيله . { ويزكّيهم } يعني : يطهرهم من ذنوبهم باتباعهم إياه ، وطاعتهم له فيما أمرهم ونهاهم { وَيُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ } يعني : ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه ، ويبين لهم تأويله ومعانيه ، والحكمة ويعني بالحكمة : السنة التي سنها الله جلّ ثناؤه للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه لهم { وَإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } يعني : إن كانوا من قبل أن يمنّ الله عليهم بإرساله رسوله الذي هذه صفته ، لفي ضلال مبين ، يقول : في جهالة جهلاء ، وفي حيرة عن الهدى عمياء ، لا يعرفون حقا ، ولا يبطلون باطلاً . وقد بينا أصل الضلالة فيما مضى ، وأنه الأخذ على غير هدى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع والمبين : الذي يبين لمن تأمله بعقله وتدبره بفهمه أنه على غير استقامة ولا هدى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لَقَدْ مَنّ اللّهُ على المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهمْ رَسُولاً مِنْ أنْفُسِهمْ } منّ الله عليهم من غير دعوة ولا رغبة من هذه الأمة ، جعله الله رحمة لهم ، ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى صراط مستقيم قوله : { وَيُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ } الحكمة : السنة . { وَإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } : ليس الله كما تقول أهل حَرُوراء : محنة غالبة من أخطأها أهريق دمه ، ولكن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى قوم لا يعلمون فعلمهم ، وإلى قوم لا أدب لهم فأدبهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : { لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلى المُوءْمِنينَ } إلى قوله { لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } : أي لقد منّ اللّهُ عليكم يا أهل الإيمان إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم ، يتلو عليكم آياته ، ويزكيكم فيما أخذتم ، وفيما علمتم ، ويعلمكم الخير والشرّ ، لتعرفوا الخير فتعملوا به ، والشرّ فتتقوه ، ويخبركم برضاه عنكم إذ أطعتموه ، لتستكثروا من طاعته ، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته ، فتتخلصوا بذلك من نقمته ، وتدركوا بذلك ثوابه من جنته . { وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي في عمياء من الجاهلية لا تعرفون حسنة ، ولا تستغيثون من سيئة ، صمّ عن الحقّ ، عمي عن الهدى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.