الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة }[ النساء :101 ] .

( ضَرَبْتُمْ ) : معناه : سافَرْتم ، قال مالك ، والشافعيُّ ، وأحمدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وابنُ رَاهَوَيْهِ : تُقْصَرُ الصلاةُ في أربعةِ بُرُدٍ ، وهي ثمانيةٌ وأربعون ميلاً ، وحُجَّتهم أحاديثُ رُوِيَتْ في ذلك ، عن ابن عمر ، وابن عباس .

وقال الحسنُ ، والزُّهْريُّ : تُقْصَرُ في مسيرةِ يَوْمَيْنِ ، وروي هذا أيضاً عن مالكٍ ، وروي عنه : تُقْصَر في مسافة يوم ولَيلة ، وهذه الأقوالُ الثلاثةُ تتقارَبُ في المعنى ، والجمهورُ على جواز القَصْر في السَّفَر المباحِ ، وقال عطاءٌ : لا تُقْصَر إلا في سفر طاعةٍ ، وسبيلِ خيرٍ ، والجمهور : أنَّه لا قَصْرَ في سفر معصيةٍ ، والجمهور أنه لا يَقْصُر المسافرُ حتى يَخْرُجَ من بُيُوت القرية ، وحينئذٍ هو ضاربٌ في الأرْضِ ، وهو قولُ مالك وجماعةِ المَذْهَب ، وإلى ذلك في الرجوع ، وقد ثبت ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم : " صَلَّى الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعاً ، وَالعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ " ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثُلُثُ يَوْمٍ ، ويظهر مِنْ قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ } أنَّ القَصْر مباحٌ أو مخيَّر فيه ، وقد رَوَى ابنُ وهْبٍ ، عن مالكٍ ، أنَّ المسافِرَ مخيَّر فيه ، وقاله الأَبْهَرِيُّ ، وعليه حُذَّاق المذْهَب ، وقال مالكٌ في «المبسوط » : القَصْرُ سُنَّةٌ ، وهذا هو الذي عليه جمهورُ المَذْهب ، وعليه جوابُ «المدوَّنة » بالإعادة في الوَقْت لِمَنْ أتَمَّ في سفرِه ، وقال ابنُ سحْنُون ، وغيره : القَصْرُ فَرْضٌ .

وقوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ }[ النساء :101 ] .

وفي حديثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّة ، قال : قُلْتُ لعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ : إنَّ اللَّه تعالى يقُولُ : { إنْ خِفْتُمْ } ، وقَدْ أَمِنَ النَّاسُ ، فقالَ : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : ( صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ، فاقبلوا صَدَقَتَهُ ) ، و( يَفْتِنَكُمْ ) : معناه يمتحنَكُمْ بالحَمْلِ عليكم ، وإشغالِ نفوسكُمْ ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا صلَّى الظُّهْر بأصحابه ، قال المُشْرِكُونَ : لقد أَمْكَنَكُمْ محمَّد وأصحابه مِنْ ظُهورِهِمْ ، هَلاَّ شَددتُّمْ عَلَيْهم ، فقال قائلٌ منهم : أنَّ لَهُمْ أخرى فِي أَثَرِهَا ، فأنزل اللَّهُ تعالى بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } إلى آخر صلاة الخَوْف .