فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

{ واجعلنا مسلمين لك } ثابتين عليه ، ممنوحين المزيد منه .

{ أمة } جماعة . { أرنا } رؤية بصرية أي ؛ أو رؤية بصرية ، أي بصرنا متعبداتنا .

{ مناسكنا } جميع أعمال حجنا ، أو جميع عبادتنا ، أو مذابحنا التي نتقرب إليها بتقديمها .

{ تب علينا } أصل التوبة : الأوبة والرجعة من مكروه إلى محبوب ؛ وتوبة الرب على عبده : عوده عليه بالصفح له عن ذنبه ، مغفرة له منه ، وتفضيلا عليه .

{ التواب } عظيم التفضل على عبادك بالعفو عنهم .

{ الرحيم } واسع الرحمة .

{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } قد يراد بالإسلام الاستسلام والانقياد ، وقد يراد به إخلاص النفس والقصد ؛ والجعل : يأتى بمعنى الصنع والتصيير ؛ _ فإن أريد بالإسلام الدين والاعتقاد الطلب إلى الثبات والدوام ، أي ثبتنا على ذلك {[458]}_ ومما أورد صاحب جامع البيان يقول : وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } يعنيان بذلك : واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ولا في العبادة غيرك . اه ، أما صاحب الجامع لأحكام القرآن فيقول : والإسلام في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعا ؛ ومنه قوله تعالى { إن الدين عند الله الإسلام . . . }{[459]} ففي هذا دليل لمن قال : إن الإيمان والإسلام شيء واحد ؛ وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين . فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين }{[460]} . ا ه ؛ { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } وهذه من دعوات إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كذلك ، فهما يسألان الله القريب المجيب أن يصنع ويصير من ذريتهما طائفة تنقاد لمنهاج الدين المرتضى ، وتستقيم على دينه الذي لا يقبل غيره وتستسلم للشرعة التي وصى بها _ وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة . كما قال الله تعالى : { . . قوا أنفسكم وأهليكم نارا . . . }{[461]} ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس ، فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه : { . . ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه . . . }{[462]} أو من قوله عز شأنه : { لا ينال عهدي الظالمين } باعتبار السياق أن في ذريتهما ظلمة ، وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء . ولا كان من مكان من أملاك السماء {[463]}_ كان في الكلام حذفا والتقدير : واجعل من ذريتنا ، { وأرنا مناسكنا } دعا الرسولان الكريمان لأنفسيهما في أول الآية المباركة : { ربنا اجعلنا مسلمين لك } ثم لذريتهما : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } ثم لهما وللذرية : { وأرنا مناسكنا } والرؤية إما قلبية بصيرية ، أي علمنا وإما بصرية ؛ والمناسك : قد تعني جميع العبادات أو جميع أعمال الحج ، وقد تعني : المذابح التي يتقرب بها إلى المولى سبحانه : ف { أرنا } إن كان منقولا عن رؤية العلم فمعناه علمنا شرائع حجنا كيف هي ؟ ، إذ أمرتنا ببناء البيت لنحج وندعوا الناس إلى حجه ؛ وإن كان منقولا عن رؤية البصر _ وهو الأظهر _ . . . فالمعنى : بصرنا متعبداتنا في الحج . . . وقيل : المراد العلم والرؤية معا لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا ، وليس ببعيد ، فإن اللفظ المشترك يصح إطلاقه على معنييه معا ، وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز يصح إرادتهما معا من لفظ واحد ، كالعقد والوطء من النكاح . غاية ما في الباب أن يكون هذا الإطلاق مجازا ]{[464]} . { وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم } أصل التوبة الأوبة والرجعة من مكروه إلى محبوب وتوبة الرب على عبده عوده عليه بالصفح له عن عقوبة ذنبه مغفرة له منه ، وتفضيلا عليه

و{ التواب } عظيم التفضيل على العباد بالعفو عنهم ؛ { الرحيم } واسع الرحمة ؛ فكأنهما عليهما السلام يسألان الصفح عن ترك الأولى ، أو نحو ذلك ، [ التوبة منهما محمولة على ما عسى أن يكون فرط منهما من الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء ]{[465]} .


[458]:ما بين العارضتين مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن.
[459]:سورة آل عمران.. من الآية 19.
[460]:سورة الذاريات الآيتان 35.- 36.
[461]:سورة التحريم من الآية 6.
[462]:من سورة الصافات من الآية 113.
[463]:ما بين العارضتين من روح المعاني.
[464]:ما بين العلامتين [] مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان.
[465]:ما بين العلامتين [] مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان.