الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ} (8)

لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا ، قال لنبيه [ صلى الله عليه وسلم ] { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً } يعني : أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين ، كمن لم يزين له ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا » فقال : { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد ، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح ، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه ، فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهي ، ويعتنق طاعة الهوى ، حتى يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه ، ويقعد تحت قول أبي نواس :

اْقِنِي حَتَّى تَرَانِي *** حَسَناً عِنْدِي الْقَبِيحُ

وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم ، فإن على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقي بالاً إلى ذكرهم ، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم : اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم . وذكر الزجاج أنّ المعنى : أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة ، فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه : أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ، فحذف لدلالة { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } عليه حسرات : مفعول له يعني : فلا تهلك نفسك للحسرات . وعليهم صلة تذهب ، كما تقول : هلك عليه حباً ، ومات عليه حزناً . أو هو بيان للمتحسر عليه . ولا يجوز أن يتعلق بحسرات ، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته ، ويجوز أن يكون حالاً كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر ، كما قال جرير :

مَشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى *** حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُورَاً

يريد : رجعن كلاكلاً وصدوراً ، أي : لم يبق إلا كلاكلها وصدورها . ومنه قوله :

فَعَلَى إثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسِي *** حَسَرَاتٍ وَذِكْرُهُمْ لِي سَقَامُ

وقرىء : «فلا تذهب نفسك » { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم .