قال ابن عباس : هي مكية إلا قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار }{[1]} [ هود : 114 ] .
الأول : أن سورة القصص لم يقص فيها إلا قصة واحدة ، وهي قصة موسى-عليه الصلاة والسلام- وفي هذه السورة قص فيها قصصا كثيرة ؛ فكان تسمية هذه بالقصص أولى من تسمية تلك ، وكان ينبغي أن يسمى القصص بسورة " موسى " -عليه السلام- كما سميت سورة يوسف- عليه الصلاة والسلام- ، وسورة " نوح " -عليه الصلاة والسلام .
السؤال الثاني : أن في هذه السورة قصصا كثيرة ، فما الحكمة في أنها سميت باسم هود دون غيره من الأنبياء المذكورين فيها ؟ .
يجوز في " هود " مرادا به السورة الصرف وتركه ، وذلك باعتبارين :
وهما أنك إن عنيت أنه اسم للسورة تعيّن منعه من الصرف ، وهذا رأي الخليل وسيبويه . وكذلك " نوح " ، و " لوط " إذا جعلتهما اسمين للسورتين المذكورين فيهما ، فتقول : قرأت هود ونوح ، وتبركت بهود ، ونوح ، ولوط .
فإن قلت : قد نصوا على أن المؤنث الثلاثي الساكن الوسط ؛ نحو : هند ودعد ، والأعجمي الثلاثي الساكن الوسط ؛ نحو : نوح ولوط حكمه الصرف وتركه ، مع أن الصحيح وجوب صرف نوح .
فالجواب : أن شرط ذلك ألا يكون المؤنث منقولا من مذكر إلى مؤنث ، فلو سميت امرأة ب " زيد " تحتّم منعه ، وشرط الأعجمي ألا يكون مؤنثا ، فلو كان مؤنثا تحتم منعه نحو : ماه وجور .
وهود ونوح من هذا القبيل ، فإن " هود " في الأصل لمذكر ، وكذلك نوح ، ثم سمي بهما السورة ، وهي مؤنثة ، وإن كان تأنيثها مجازيا ، وإن اعتبرت أنها على حذف مضاف وجب صرفه ، فتقول : قرأت هودا ونوحا يعني : سورة هود وسورة نوح ، وقد جوّز الصرف بالاعتبار الأول عيسى بن عمر ، وفيه ضعف ، ولا خفاء أنك قصدت ب " هود " و " نوح " النبي نفسه صرفت فقط عند الجمهور في الأعجمي ، وأما هود فإنه عربي فيتحتم صرفه . وقد عقد النحويون لأسماء السور ، والألفاظ ، والأحياء والقبائل ، والأماكن باب في منع الصرف وعدمه ، حاصله : أنك إن عنيت قبيلة أو أما أو بقعة أو سورة ، أو كلمة منعت . وإن عنيت حيا أو أبا أو مكانا ، أو غير سورة ، أو لفظا صرفت بتفصيل مذكور في كتب النحو .
" كِتَابٌ " يجوز أن يكون خبراً ل : " ألف لام راء " ، أخبر عن هذه الأحرف بأنَّها كتابٌ موصوفٌ بكَيْتَ وكَيْتَ .
قال الزجاج : هذا غلطٌ ؛ لأنَّ " الر " ليس هو الموصوف بهذه الصِّفة وحده قال ابنُ الخطيب{[18648]} : وهذا اعتراضٌ فاسدٌ ؛ لأنَّه ليس من شرط كون الشَّيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه ، ويجُوزُ أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره : ذلك كتابٌ .
قال ابن الخطيب : " وهذا عندي ضعيفٌ لوجهين " :
الأول : أنَّه على هذا التقدير يقعُ قوله : " الر " كلاماً باطلاً لا فائدة فيه .
والثاني : أنك إذا قلت : هذا كتابٌ ، فقولك : " هذا " يكون إشارة إلى الآيات المذكورات ، وذلك هو قوله : " الر " فيصير حينئذ " الر " مخبراً عنه بأنه { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } . وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 2 ] قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } في محلِّ رفع صفةً ل " كِتابٌ " ، والهمزةُ في " أُحْكِمَتْ " يجوز أن تكون للنَّقل من حَكُمَ بضمِّ الكافِ ، أي : صار حكيماً بمعنى جعلت حكيمةٌ ، كقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } [ لقمان : 2 ] . ويجوز أن يكونَ من قولهم : " أحْكمتُ الدَّابَّة " إذا وضعتَ عليها الحكمة لمنعها من الجماحِ ؛ كقول جريرٍ : [ الكامل ]
أبَنِي حَنيفَةَ أحْكمُوا سُفَهَاءكُمْ *** إنِّي أخافُ عليْكمُ أنْ أغْضَبَا{[18649]}
فالمعنى : أنَّها مُنِعَتْ من الفسادِ .
ويجوز أن يكون لغيرِ النَّقل ، من الإحكام وهو الإتقان كالبناءِ المحكمِ المرصفِ ، والمعنى : أنَّها نُظِمَتْ نظماً رصيناً متقناً .
ويجوز أن يكون قوله : " أحْكِمَتْ " أي : لم تُنسخْ بكتابٍ كما نُسِخت الكُتُبُ والشَّرائع بها .
قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -{[18650]} .
قوله : " ثُمَّ فُصِّلَتْ " " ثُمَّ " على بابها من التَّراخي ؛ لأنَّها أحكمت ثُمَّ فُصِّلت بحسب أسبابِ النُّزُولِ .
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ{[18651]} والجحدريُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وابن كثير في رواية " فَصَلَتْ " بفتحتين خفيفة العين .
قال أبو البقاء : والمعنى : فرقَتْ ، كقوله : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } [ البقرة : 149 ] ، أي : فارق وفسَّرها غيرهُ ، بمعنى فصلتْ بين المُحِقِّ والمُبطلِ ، وهو أحسنُ .
وجعل الزمخشريُّ " ثم " للتَّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزَّمانِ ، فقال : فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " ؟
قلت : ليس معناها التَّراخِي في الوقت ، ولكن في الحالِ ، كما تقولُ : هي محكمةٌ أحسن الإحكام ، مفصَّلةٌ أحسن التَّفصيل ، وفلانٌ كريمُ الأصل ، ثُمَّ كريمُ الفعل .
وقرئ أيضاً{[18652]} : " أحْكمتُ آياتِهِ ثُمَّ فصَّلتُ " بإسناد الفعلين إلى " تاءِ " المتكلم ، ونصب " آياته " مفعولاً بها ، أي : أحكمتُ أنا آياته ، ثم فصَّلتها ، حكى هذه القراءة الزمخشري .
قال الحسن : أحكمت بالأمْر والنَّهي ، ثم فصِّلت بالوَعْد والوعيد{[18653]} وقال قتادةٌ : أحْكمَها اللهُ فليس فيها اختلاف ولا تناقض{[18654]} .
وقال مجاهدٌ : " فُصِّلتْ " أي : فسرت{[18655]} وقيل : " فُصِّلَتْ " أي : أنزلت شيئاً فشيئاً كقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ } [ الأعراف : 133 ] ، وقيل : جعلت فصولاً : حلالاً ، وحراماً ، وأمثالاً ، وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونَهْياً .
احتجَّ الجُبائي بهذه الآية على أنَّ القرآن محدثٌ مخلوق من ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قال : المحكم هو الذي أتقنه فاعله ، ولولا أنَّ الله - تعالى - خلق هذا القرآن ، لَمْ يصحَّ ذلك ؛ لأنَّ الإحكام لا يكون إلاَّ في الأفعالِ ، ولا يجوز أن يقال : كان موجُوداً غير محكم ، ثم جعله الله مُحْكَماً ؛ لأنَّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً بأن يكون محدثاً ، ولم يقل أحدٌ بأنَّ القرآن بعضه قديمٌ وبعضه محدثٌ .
الثاني : أنَّ قوله : " فُصِّلَتْ " يدلُّ على أنَّه حصل فيه انفصالٌ وافتراق ، ويدلُّ على أنَّ ذلك الانفصال والافتراق إنَّما حصل بجعل جاعل .
الثالث : قوله تعالى : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ، والمرادُ من عنده ، والقديمُ لا يقال : إنَّهُ حصل من عند قديم آخر ؛ لأنَّهما إن كانا قديمين ، لم يكن القول بأنَّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس .
وأجيب بأنَّ النُّعوت عائدةٌ إلى هذه الحُرُوفِ والأصواتِ ، ونحن معترفون بأنَّها مخلوقةٌ ؛ وإنَّما الذي يُدَّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات .
قوله : " مِن لَّدُنْ " أي : من عند ، يجُوزُ أن تكون صفة ثاينة ل " كِتَابٌ " وأن تكون خبراً ثانياً عند من يرى جواز ذلك ، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدِّمين يعني : " أحْكِمَتْ " أو " فُصِّلَتْ " ويكون ذلك من باب التنازع ، ويكون من إعمال الثاني ، إذْ لوْ أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وإليه نحا الزَّمخشري فقال : وأن يكون صلة " أحكمت " " فُصِّلتْ " ، أي : من عندهُ أحكامُها وتفصيلهُا ، والمعنى : أحكمها حَكِيمٌ وفصَّلها ، أي : شرَحَهَا وبيَّنَها خبيرٌ بكيفياتِ الأمورِ .
قال أبُو حيان{[18656]} : لا يريدُ أنَّ " مِنْ لدُن " متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإعراب ، بل يريدُ أن ذلك من باب الإعمال ، فهي متعلقةٌ بهما من حيثُ المعنى ، وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً : ويجُوزُ أن يكون مفعولاً ، والعاملُ فيه فُصِّلَتْ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.