اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1)

مقدمة السورة:

سورة هود-عليه الصلاة والسلام-

قال ابن عباس : هي مكية إلا قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار }{[1]} [ هود : 114 ] .

وهنا سؤالان :

الأول : أن سورة القصص لم يقص فيها إلا قصة واحدة ، وهي قصة موسى-عليه الصلاة والسلام- وفي هذه السورة قص فيها قصصا كثيرة ؛ فكان تسمية هذه بالقصص أولى من تسمية تلك ، وكان ينبغي أن يسمى القصص بسورة " موسى " -عليه السلام- كما سميت سورة يوسف- عليه الصلاة والسلام- ، وسورة " نوح " -عليه الصلاة والسلام .

السؤال الثاني : أن في هذه السورة قصصا كثيرة ، فما الحكمة في أنها سميت باسم هود دون غيره من الأنبياء المذكورين فيها ؟ .

فصل

يجوز في " هود " مرادا به السورة الصرف وتركه ، وذلك باعتبارين :

وهما أنك إن عنيت أنه اسم للسورة تعيّن منعه من الصرف ، وهذا رأي الخليل وسيبويه . وكذلك " نوح " ، و " لوط " إذا جعلتهما اسمين للسورتين المذكورين فيهما ، فتقول : قرأت هود ونوح ، وتبركت بهود ، ونوح ، ولوط .

فإن قلت : قد نصوا على أن المؤنث الثلاثي الساكن الوسط ؛ نحو : هند ودعد ، والأعجمي الثلاثي الساكن الوسط ؛ نحو : نوح ولوط حكمه الصرف وتركه ، مع أن الصحيح وجوب صرف نوح .

فالجواب : أن شرط ذلك ألا يكون المؤنث منقولا من مذكر إلى مؤنث ، فلو سميت امرأة ب " زيد " تحتّم منعه ، وشرط الأعجمي ألا يكون مؤنثا ، فلو كان مؤنثا تحتم منعه نحو : ماه وجور .

وهود ونوح من هذا القبيل ، فإن " هود " في الأصل لمذكر ، وكذلك نوح ، ثم سمي بهما السورة ، وهي مؤنثة ، وإن كان تأنيثها مجازيا ، وإن اعتبرت أنها على حذف مضاف وجب صرفه ، فتقول : قرأت هودا ونوحا يعني : سورة هود وسورة نوح ، وقد جوّز الصرف بالاعتبار الأول عيسى بن عمر ، وفيه ضعف ، ولا خفاء أنك قصدت ب " هود " و " نوح " النبي نفسه صرفت فقط عند الجمهور في الأعجمي ، وأما هود فإنه عربي فيتحتم صرفه . وقد عقد النحويون لأسماء السور ، والألفاظ ، والأحياء والقبائل ، والأماكن باب في منع الصرف وعدمه ، حاصله : أنك إن عنيت قبيلة أو أما أو بقعة أو سورة ، أو كلمة منعت . وإن عنيت حيا أو أبا أو مكانا ، أو غير سورة ، أو لفظا صرفت بتفصيل مذكور في كتب النحو .

" كِتَابٌ " يجوز أن يكون خبراً ل : " ألف لام راء " ، أخبر عن هذه الأحرف بأنَّها كتابٌ موصوفٌ بكَيْتَ وكَيْتَ .

قال الزجاج : هذا غلطٌ ؛ لأنَّ " الر " ليس هو الموصوف بهذه الصِّفة وحده قال ابنُ الخطيب{[18648]} : وهذا اعتراضٌ فاسدٌ ؛ لأنَّه ليس من شرط كون الشَّيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه ، ويجُوزُ أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره : ذلك كتابٌ .

قال ابن الخطيب : " وهذا عندي ضعيفٌ لوجهين " :

الأول : أنَّه على هذا التقدير يقعُ قوله : " الر " كلاماً باطلاً لا فائدة فيه .

والثاني : أنك إذا قلت : هذا كتابٌ ، فقولك : " هذا " يكون إشارة إلى الآيات المذكورات ، وذلك هو قوله : " الر " فيصير حينئذ " الر " مخبراً عنه بأنه { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } . وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله : { ذَلِكَ الكتاب } [ البقرة : 2 ] قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } في محلِّ رفع صفةً ل " كِتابٌ " ، والهمزةُ في " أُحْكِمَتْ " يجوز أن تكون للنَّقل من حَكُمَ بضمِّ الكافِ ، أي : صار حكيماً بمعنى جعلت حكيمةٌ ، كقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } [ لقمان : 2 ] . ويجوز أن يكونَ من قولهم : " أحْكمتُ الدَّابَّة " إذا وضعتَ عليها الحكمة لمنعها من الجماحِ ؛ كقول جريرٍ : [ الكامل ]

أبَنِي حَنيفَةَ أحْكمُوا سُفَهَاءكُمْ *** إنِّي أخافُ عليْكمُ أنْ أغْضَبَا{[18649]}

فالمعنى : أنَّها مُنِعَتْ من الفسادِ .

ويجوز أن يكون لغيرِ النَّقل ، من الإحكام وهو الإتقان كالبناءِ المحكمِ المرصفِ ، والمعنى : أنَّها نُظِمَتْ نظماً رصيناً متقناً .

ويجوز أن يكون قوله : " أحْكِمَتْ " أي : لم تُنسخْ بكتابٍ كما نُسِخت الكُتُبُ والشَّرائع بها .

قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -{[18650]} .

قوله : " ثُمَّ فُصِّلَتْ " " ثُمَّ " على بابها من التَّراخي ؛ لأنَّها أحكمت ثُمَّ فُصِّلت بحسب أسبابِ النُّزُولِ .

وقرأ عكرمةُ والضحاكُ{[18651]} والجحدريُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وابن كثير في رواية " فَصَلَتْ " بفتحتين خفيفة العين .

قال أبو البقاء : والمعنى : فرقَتْ ، كقوله : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } [ البقرة : 149 ] ، أي : فارق وفسَّرها غيرهُ ، بمعنى فصلتْ بين المُحِقِّ والمُبطلِ ، وهو أحسنُ .

وجعل الزمخشريُّ " ثم " للتَّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزَّمانِ ، فقال : فإن قلت : ما معنى " ثُمَّ " ؟

قلت : ليس معناها التَّراخِي في الوقت ، ولكن في الحالِ ، كما تقولُ : هي محكمةٌ أحسن الإحكام ، مفصَّلةٌ أحسن التَّفصيل ، وفلانٌ كريمُ الأصل ، ثُمَّ كريمُ الفعل .

وقرئ أيضاً{[18652]} : " أحْكمتُ آياتِهِ ثُمَّ فصَّلتُ " بإسناد الفعلين إلى " تاءِ " المتكلم ، ونصب " آياته " مفعولاً بها ، أي : أحكمتُ أنا آياته ، ثم فصَّلتها ، حكى هذه القراءة الزمخشري .

فصل

قال الحسن : أحكمت بالأمْر والنَّهي ، ثم فصِّلت بالوَعْد والوعيد{[18653]} وقال قتادةٌ : أحْكمَها اللهُ فليس فيها اختلاف ولا تناقض{[18654]} .

وقال مجاهدٌ : " فُصِّلتْ " أي : فسرت{[18655]} وقيل : " فُصِّلَتْ " أي : أنزلت شيئاً فشيئاً كقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ } [ الأعراف : 133 ] ، وقيل : جعلت فصولاً : حلالاً ، وحراماً ، وأمثالاً ، وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونَهْياً .

فصل

احتجَّ الجُبائي بهذه الآية على أنَّ القرآن محدثٌ مخلوق من ثلاثة أوجهٍ :

الأول : قال : المحكم هو الذي أتقنه فاعله ، ولولا أنَّ الله - تعالى - خلق هذا القرآن ، لَمْ يصحَّ ذلك ؛ لأنَّ الإحكام لا يكون إلاَّ في الأفعالِ ، ولا يجوز أن يقال : كان موجُوداً غير محكم ، ثم جعله الله مُحْكَماً ؛ لأنَّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً بأن يكون محدثاً ، ولم يقل أحدٌ بأنَّ القرآن بعضه قديمٌ وبعضه محدثٌ .

الثاني : أنَّ قوله : " فُصِّلَتْ " يدلُّ على أنَّه حصل فيه انفصالٌ وافتراق ، ويدلُّ على أنَّ ذلك الانفصال والافتراق إنَّما حصل بجعل جاعل .

الثالث : قوله تعالى : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ، والمرادُ من عنده ، والقديمُ لا يقال : إنَّهُ حصل من عند قديم آخر ؛ لأنَّهما إن كانا قديمين ، لم يكن القول بأنَّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس .

وأجيب بأنَّ النُّعوت عائدةٌ إلى هذه الحُرُوفِ والأصواتِ ، ونحن معترفون بأنَّها مخلوقةٌ ؛ وإنَّما الذي يُدَّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات .

قوله : " مِن لَّدُنْ " أي : من عند ، يجُوزُ أن تكون صفة ثاينة ل " كِتَابٌ " وأن تكون خبراً ثانياً عند من يرى جواز ذلك ، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدِّمين يعني : " أحْكِمَتْ " أو " فُصِّلَتْ " ويكون ذلك من باب التنازع ، ويكون من إعمال الثاني ، إذْ لوْ أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وإليه نحا الزَّمخشري فقال : وأن يكون صلة " أحكمت " " فُصِّلتْ " ، أي : من عندهُ أحكامُها وتفصيلهُا ، والمعنى : أحكمها حَكِيمٌ وفصَّلها ، أي : شرَحَهَا وبيَّنَها خبيرٌ بكيفياتِ الأمورِ .

قال أبُو حيان{[18656]} : لا يريدُ أنَّ " مِنْ لدُن " متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإعراب ، بل يريدُ أن ذلك من باب الإعمال ، فهي متعلقةٌ بهما من حيثُ المعنى ، وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً : ويجُوزُ أن يكون مفعولاً ، والعاملُ فيه فُصِّلَتْ .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[18648]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 17/142.
[18649]:تقدم.
[18650]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/372).
[18651]:ينظر: الكشاف 2/377، والمحرر الوجيز 3/149 والبحر 5/207، والدر المصون 4/75.
[18652]:ينظر: الكشاف 2/377 والبحر المحيط 5/201، والدر المصون 4/75.
[18653]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/620) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/578) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18654]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/626).
[18655]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/621) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/578) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18656]:ينظر: البحر المحيط 5/201.