اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (5)

لمَّا قال : " وإن تولَّوْا " عن عبادة الله وطاعته ، بيَّن بعده صفة ذلك التولي فقال : { أَلا إِنَّهُمْ } يعني الكُفَّار { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يقال : ثنيت الشَّيء إذا عطفته وطويته .

وقرأ الجمهور : بفتح الياء وسكون الثَّاء المثلثة ، وهو مضارع " ثَنَى يَثْني ثَنْياً " ، أي طوى وَزَوى ، و " صُدُورهم " مفعول به ، والمعنى : يَحْرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله ، والأصل " يَثْنِيُونَ " فأُعِلَّ بحذف الضَّمةِ عن الياء ، ثُمَّ تحذفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين .

وقرأ سعيدُ{[18664]} بن جبير " يُثْنُون " وهو مضارع " أثْنَى " كأكرم .

واستشكل النَّاسُ هذه القراءة فقال أبُو البقاءِ : ماضيه أثنى ، ولا يعرفُ في اللغةِ ، إلاَّ أنْ يقال : معناه عرضُوها للانثناء ، كما يقال : أبعت الفرسَ : إذا عرضته للبيع .

وقال صاحبُ اللَّوامِحِ : ولا يعرفُ الإثناء في هذا الباب ، إلاَّ أن يرادَ به ، وجدتُهَا مثْنِيَّة ، مثل أحْمَدْتُه وأمْجَدْتُه ، ولعلَّه فتح النون ، وهذا ممَّا فعل بهم فيكون نصب " صُدُورَهُم " بنزع الخافض ، ويجُوزُ على ذلك أن يكون " صُدُورَهُم " رفعاً على البدل بدل البعض من الكُلِّ يعني بقوله : ولعلَّهُ فتح النُّونِ أي : ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نونِ " يُثْنَون " فيكون مبنياً للمفعول ، وهو معنى قوله : وهذا ممَّا فعل بهم أي وجدوا كذلك ، فعلى هذا يكونُ " صُدورهُم " منصُوباً بنزعِ الخافضِ ، أي : في صدورهم ، أي يوجدُ الثَّنْيُ في صدورهم ، ولذلك جوَّز رفعهُ على البدل كقولك : ضُربَ زيدٌ الظَّهْرُ . ومنْ جوَّز تعريف التمييز لا يبعدُ عنده أن ينتصب " صُدُورهُم " على التَّمييز بهذا التقدير الذي قدَّرهُ .

وقرأ ابنُ عبَّاسٍ ، وعليُّ بنُ الحسين{[18665]} ، وابناه زيد ، ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وعبد الرحمن بن أبزى ، وأبو الأسود " تَثنَوْني " مضارع " اثْنَوْنَى " على وزنِ " افْعَوْعَلَ " من الثَّنْي كاحْلَوْلى من الحَلاوةِ وهو بناءُ مبالغةٍ ، " صُدُورهُم " بالرَّفع على الفاعلية .

ونُقل عن ابن{[18666]} عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق : " يَثْنَوْنَى صدورهم " بالياءِ والتَّاءِ ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ ؛ فجاز تذكيرُ الفعل باعتبار تأويل فاعله بالجمع وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعةِ .

وقرأ ابنُ عبَّاس{[18667]} أيضاً وعروة وابن أبزى والأعمش " تَثْنَوِنُّ " بفتح التاء وسكون الثَّاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة ، والأصل : " تَثْنَوْنِنُ " بوزن " تَفْعَوْعِلُ " من الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضعف من الكَلأ ، يريد مطاوعة نفوسهم للثَّنْي كما يثنى الهَشُّ من النَّبات ، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم .

و " صدورهم " بالرَّفع على الفاعلية .

وقرأ مجاهدٌ وعروة أيضاً كذلك ، إلاَّ أنَّهما جعلا مكان{[18668]} الواو المسكورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل " تطمئن " .

وفيها تخريجان :

أحدهما : أنَّ الواو قُلبتْ همزة لاستثقال الكسرة عليها ، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح ، لمَّا استثقلوا الكسرة على الواوِ أبدلوها همزة .

والثاني : أن وزنه " تَفْعَيِيلٌ " من الثِّن وهو ما ضعف من النَّبات كما تقدَّم ، وذلك أنَّهُ مضارع ل " اثْنَان " مثل احْمَارَّ واصفارَّ ، وقد تقدَّم [ يونس : 24 ] أن من العرب من يقلبُ مثل هذه الألف همزة ؛ كقوله : [ الطويل ]

. . . *** . . . بالعَبِيطِ ادْهَأمَّتِ{[18669]}

فجاء مضارع " اثْنَأنَّ " على ذلك كقولك احْمَأرَّ يَحمَئِرُّ كاطمأنَّ يَطْمَئِنُّ .

وأمَّا " صُدورُهم " فبالرَّفع على ما تقدَّم .

وقرأ الأعمش أيضاً تَثْنَؤُونَ بفتح الياء{[18670]} وسكون المثلثة وفتح النون وهمزة مضمومة وواوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كَتَرْهَبُون . صُدورَهُم بالنَّصْبِ .

قال صاحبُ اللَّوامِحِ : ولا أعرف وجهه يقال : " ثَنَيْتُ " ولم أسمعْ " ثَنَأتُ " ، ويجوز أنَّهُ قلب الياء ألفاً على لغةِ من يقول : " أعْطات " في " أعْطَيْتُ " ، ثُمَّ همز الألف على لغةِ من يقول : { ولا الضَّأْلين } [ الفاتحة : 7 ] .

وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً - رضي الله عنهما{[18671]} - " تَثْنَوِى " بفتح التَّاءِ وسكون المثلثة ، وفتح النُّونِ وكسر الواو بعدها ياءٌ ساكنةٌ بزنة " تَرْعَوِى " وهي قراءةٌ مشكلة جداً حتَّى قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلطٌ لا تتجه ، وإنَّما قال إنَّها غلطٌ ؛ لأنَّه لا معنى للواوِ في هذا الفعل إذ لا يقالُ : ثَنَوْتُهُ فانْثَوَى كرعَوْتُه ، أي : كففته فارعَوَى ، أي : فانكفَّ ، ووزنه افعلَّ كاحْمَر .

وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ{[18672]} يعمر وابن أبي إسحاق " يَنْثُونَ " بتقديم النُّون السَّاكنة على المثلثة .

وقرأ ابنُ عباس أيضاً{[18673]} " لَتَثْنَونِ " بلام التأكيد في خبر " إنَّ " وفتح التَّاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة " تَفْعَوْعِلُ " ، كما تقدَّم إلاَّ أنَّها حذفت الياء ، التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم : لا أدْرِ وما أدْرِ . و " صُدورهم " ، فاعل كما تقدم .

وقرأ طائفة{[18674]} : " تَثنؤنَّ " بفتح التَّاءِ ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نُون مفتوحةٍ ثم همزة مضمومةٍ ثم نون مشددة ، مثل تَقْرَؤنَّ ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ ، إلاَّ أنَّه قلب الياءَ واواً ؛ لأنَّ الضمة تُنافِرُهَا ، فجعلت الحركةُ على مُجانِسها ، فصار اللفظُ " تَثْنَوونَ " ثم قلبت الواوُ المضمومةُ همزة كقولهم : " أجُوه " في " وُجُوه " و " أقِّتَتْ " في " وقِّتَت " فصار " تَثْنَؤونَ " ، فلمَّا أكَّد الفعل بنونِ التَّوكيد حذفت نونُ الرَّفع فالتقى ساكنان : وهما واوُ الضمير والنون الأولى من نون التَّوكيد ، فحذفت الواو وبقيت الضَّمةُ تدلُّ عليها ؛ فصار " تَثْنَؤنَّ " كما ترى و " صُدورَهُم " منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً مضبوطة .

قوله تعالى : { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } فيه وجهان :

أحدهما : أنَّ هذه اللاَّم متعلقةٌ ب " يَثْنُونَ " كذا قاله الحوفيُّ ، والمعنى : أنَّهم يفعلون ثَنْي الصُّدور لهذه العلةِ . وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كلفة فيه .

والثاني : أنَّ اللاَّم متعلقةٌ بمحذوفٍ .

قال الزمخشريُّ : " لِيَسْتخُفُوا منهُ " يعنى ويريدون : ليستَخْفُوا من الله فلا يطلعُ رسوله والمؤمنون على ازْورَارهِمْ ، ونظيرُ إضمار " يريدون " لعود المعنى إلى إضماره الإضمارُ في قوله : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] معناه : " فضرب فانفلق " .

قال شهاب الدين{[18675]} : وليس المعنى الذي يقُودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا ، لأنَّ ثمَّ لا بد من حذف معطوفٍ يُضْطَر العقلُ إلى تقديره ؛ لأنَّهُ ليس من لازم الأمْرِ بالضَّرْبِ إنفلاقُ البحر فلا بُدَّ أن يُتَعَقَّل " فضرب فانفلق " ، وأمَّا في هذه ، فالاستخفاف علةٌ صالحةٌ لثَنْيهم صدورهم ، فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادةِ .

والضَّميرُ في " مِنْهُط فيه وجهان :

أحدهما : أنَّهُ عائدٌ على رسُولِ الله - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللاَّم ب " يَثْنُونَ " .

والثاني : أنَّهُ عائدٌ على الله تعالى كما قال الزمخشريُّ .

قوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } في هذا الظرف وجهان :

أحدهما : أنَّ ناصبهُ مُضْمَرٌ ، فقدَّره الزمخشري ب " يريدون " كما تقدم ، فقال : ومعنى ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) : ويريدون الاستخفاء حين يشتغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله ، كقول نُوحٍ { جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ } [ نوح : 7 ] ، وقدَّره أبو البقاء فقال : ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) : يستخفون .

والثاني : أنَّ النَّاصب له " يَعْلَمُ " ، أي : ألا يعلم سرَّهُم وعلنهم حين يفعلون كذا ، وهذا معنى واضح ، وكأنَّهُم إنَّما جوَّزُوا غيره ؛ لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعلنهم بهذا الوقت الخاصِّ ، والله تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت .

وهذا غيرُ لازم ؛ لأنَّه إذا عُلِمَ سرُّهم وعلنهُم في وقت التَّغْشِية الذي يخفى فيه السرُّ فأولى في غيره ، وهذا بحسب العادةِ وإلاَّ فالله تعالى لايتفاوتُ علمهُ .

و " ما " يجُوزُ أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى " الذي " ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : تُسِرُّونه وتُعْلِنُونه .

فصل

قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - نزلت في الأخنس بن شريقٍ ، وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحبُّ ، وينطوي له بقلبه على ما يكره{[18676]} .

فقوله : { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } أي يخفون ما في صدورهم من الشَّحْنَاءِ والعداوةِ .

قال عبدُ الله بنُ شداد : نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره ، وطأطأ رأسه ، وغطَّى وجهه ، كي لا يراه النبي - صلوات الله وسلامه عليه - .

قال قتادة{[18677]} : كانوا يخفون صدورهم ، لكيلا يسمعُوا كلامَ الله ولا ذكره{[18678]} .

وقيل : كان الرَّجلُ من الكُفَّار يدخل بيته ، ويرخي ستره ، ويحْنِي ظهرهُ ، ويتغشَّى بثوبه ، ويقول : هل يعلمُ الله ما في قلبي .

وقال السُّدي : " يَثْنُونَ صُدورَهُمْ " أي : يُعرضُون بقلوبهم ، من قولهم : ثنيت عناني ليَسْتخْفُوا مِنهُ أي : من رسول الله - صلوات ا لله وسلامه عليه -{[18679]} .

وقال مجاهدٌ : من الله عز وجل .

{ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } يغطون رؤوسهم بثيابهم{[18680]} و " ألا " كلمة تنبيه أي : ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم . ثم ذكر أنَّهُ لا فائدة لهم في استخفافهم فقال سبحانه : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .

قال الأزهري معنى الآية من أولها إلى آخرها : إنَّ الذين اضمرُوا عداوة رسُول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم .

وروى محمد بن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر - رضي الله عنه - ؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } قال : كان أناسٌ يستحيون أن يَخلوا فينفضوا إلى السَّماء ، وأن يجامعوا نساءهم ، فيفضوا إلى السَّماءِ ؛ فنزل ذلك فيهم{[18681]} .

لمَّا ذكر أنه : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أردفهُ بما يدلُّ على أنَّهُ تعالى عالمٌ بجميعِ المعلومات وهو أنَّ رزق كلَّ حيوان إنَّما يصل إليه من الله ؛ لأنَّه لو لم يكن عالماً بجيمع المعلُومات لما حصلت هذه المهمَّات .


[18664]:ينظر: المحرر الوجيز 3/150 والبحر المحيط 5/203 والدر المصون 4/78.
[18665]:ينظر: الكشاف 2/379 والمحرر الوجيز 3/150 والبحر المحيط 5/203، والدر المصون 4/78.
[18666]:ينظر: البحر المحيط 5/203، والدر المصون 4/78.
[18667]:ينظر: الكشاف 2/379 والمحرر الوجيز 3/151، والبحر المحيط 5/203، والدر المصون 4/78.
[18668]:ينظر: الكشاف 2/389، والمحرر الوجيز 3/151. والبحر المحيط 5/203، والدر المصون 4/78.
[18669]:تقدم.
[18670]:ينظر: البحر المحيط 5/203، والدر المصون 4/79.
[18671]:ينظر: الكشاف 2/379، والبحر المحيط 5/203، والدر المصون 4/79.
[18672]:ينظر: المحرر الوجيز 3/151، والبحر المحيط 5/203، والدر المصون 4/79.
[18673]:ينظر: الكشاف 2/379، والبحر المحيط 5/203، والدر المصون 4/79.
[18674]:ينظر: الدر المصون 4/79.
[18675]:ينظر: الدر المصون 4/79.
[18676]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/373).
[18677]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/624) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/579) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18678]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/625-626) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/580) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/373).
[18679]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/373).
[18680]:انظر المصدر السابق.
[18681]:أخرجه البخاري (8/200) كتاب التفسير: باب ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه......حديث (4681) والطبري (6/626) من طريق ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/579) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.