اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا نُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَمَا كَانُوٓاْ إِذٗا مُّنظَرِينَ} (8)

ثم إنه –تعالى- أجاب عن شبهتهم بقوله : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } فإذا كان المراد الأول ، كان تقرير الجواب : أنَّ إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحقِّ ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار ، أنه لو أنزل عليهم ملائكة ، لبقوا مصرِّين على كفرهم ، فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً ، ولا يكون حقًّا ، فلهذا السبب ما أنزل الله –تعالى- الملائكة .

قال المفسرون : المراد بالحق –هنا- الموت ، أي : لا ينزلون إلا بالموتِ ، أو بعذاب الاستئصال ، ولم يبق بعد نزولهم إنظارٌ ، ولا إمهال ، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة ؛ فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة ، وإن كان المراد استعجالهم بنزول العذاب فتقرير الجواب : أنَّ الملائكة لا تنزل إلاَّ بعذاب الاستئصال ، ولا تفعل بأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ بل يمهلهم لما علم من إيمان بعضهم ، ومن إيمان أولاد الباقين .

قوله : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة } ، قرأ أبو بكر{[19454]} -رضي الله عنه- : " ما تُنزَّلُ " بضمِّ التاء ، وفتح النون ، والزاي مشدَّدة ، مبنيًّا للمفعول ، " المَلائِكةُ " : مرفوعاً لقيامه مقام فاعله ، وهو موافقٌ لقوله تعالى : { وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] ؛ لأنها لا تنزل إلاَّ بأمر من الله –تعالى- فغيرها هو المنزِّلُ لها ، وهو الله –تعالى- .

وقرأ الأخوان ، وحفص : بضمِّ النون الأولى ، وفتح الثانية ، وكسر الزاي مشددة مبنيًّا للفاعل المعظم نفسه وهو الباري -جل ذكره- . " المَلائِكةَ " ، نصباً : مفعول به ؛ وهو موافق لقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة } [ الأنعام : 111 ] ، ويناسب قوله قبل ذلك : " ومَا أهْلَكْنَا " ، وقوله بعده : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] ، وما بعده من ألفاظ التَّعظيم .

والباقون من السبعة ما تنزَّلُ بفتح التاء{[19455]} والنون والزاي مشددة ، و " المَلائِكةُ " مرفوعة على الفاعلية ، والأصل : تَتنَزَّلُ ، بتاءين ، فحذفت إحداهما ، وقد تقدم تقريره في : { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، ونحوه ، وهو موافق لقوله سبحانه وتعالى : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } [ القدر : 4 ] .

وقرأ زيد بن علي : " مَا نَزلَ " مخففاً مبنيًّا للفاعل ، و " الملائكةُ " مرفوعة على الفاعلية ، وهو كقوله : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .

قوله : { إِلاَّ بالحق } يجوز تعلقه بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول ، أي : ملتبسين بالحق ، وجعله الزمخشري -رحمه الله- نعتاً لمصدر محذوف ، أي : إلاَّ تنزُّلاً ملتبساً بالحقِّ .

قوله " إذَنْ " قال الزمخشري{[19456]} : " إذَنْ حرف جواب وجزاء ؛ لأنها جواب لهم ، وجزاء الشرط مقدر ، تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين ، وما أخر عذابهم " .

قال صاحب النظم : " لفظة " إذَنْ " مركبة من " إذْ " ، وهو اسم بمنزلة " حِينَ " ؛ تقول : أتيتك إذْ جِئْتنِي ، أي : حِينَ جِئْتنِي ، ثم ضم إليه " إنْ " فصار : ِإذْ أنْ ، ثم استثقلوا الهمزة ؛ فحذفوها ، فصار " إذَنْ " ، ومجيْ لفظة " أنْ " دليل على إضمار فعلٍ بعدها ، والتقدير : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا " .


[19454]:وقرأ بها أيضا يحيى بن وثاب. ينظر: البحر المحيط 5/434 وينظر: الدر المصون 4/289.
[19455]:ينظر: الحجة 5/42 وإعراب القراءات السبع 342، 343 وحجة القراءات 381 والإتحاف 2/174 والمحرر الوجيز 3/351 والبحر المحيط 5/434 والدر المصون 4/289.
[19456]:ينظر: الكشاف 2/572.