اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مُهۡطِعِينَ مُقۡنِعِي رُءُوسِهِمۡ لَا يَرۡتَدُّ إِلَيۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَآءٞ} (43)

قوله : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } حالان من المضاف المحذوف إذا التقدير : أصحاب الأبصار ، إذا يقال : شَخَص زَيْدٌ بصرهُ ، أو تكون الأبصار دلَّت على أربابها فجاءت الحال من المدلول عليه ، قالهما أبو البقاءِ .

وقيل : " مُهْطِعين " منصوب بفعل مقدر ، أي : تبصرهم مهطعين ، ويجوز في " مُقْنِعِي " أن يكون حالاً من الضمير في : " مُهْطِعِينَ " فيكون حالاً ، وإضافة : " مُقْنِعِي " غير حقيقة ؛ فلذلك وقع حالاً .

والإهْطَاعُ : قيل : الإسرْاعُ في المشيِ ؛ قال : [ البسيط ]

إذَا دَعانَا فأهْطَعْنَا لِدَعْوتهِ *** دَاعٍ سَمِيعٌ فَلفُّونَا وسَاقُونَا{[19359]}

وقال : [ الكامل ]

وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ عِنانَهُ *** فِي رَأْسِ جِذْعٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19360]}

وقال أبو عبيدة : قد يكون الإسراع [ مع ] إدامة النَّظر .

وقال الراغب : " هَطَعَ الرَّجلُ بِبصَرهِ إذَا صَوَّبهُ ، وبَعِيرٌ مُهْطِعٌ إذا صوَّب عُنُقهُ " .

وقال الأخفش : هُو الإقْبَالُ على الإصغاءِ ، وأنشد : [ الوافر ]

بِدجْلةَ دَراهُم ولقَدْ أرَاهُمْ *** بِدجْلةَ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ{[19361]}

والمعنى : مُقبلينَ برءوسهم إلى سماعِ الدَّاعِي .

وقال ثعلبٌ : " هَطَعَ الرَّجلُ إذا نظرَ بذُلِّ وخُشوعٍ لا يقلع بِبصَره إلى السماء " . وهذا موافقٌ لقول أبي عبيدة ؛ فقد سمع فيه : " أهْطََعَ وهَطَعَ " رباعيًّا وثلاثيًّا .

والإقناعُ : رفع الرَّأسِ ، وإدامة النَّظر من غير التفات إلى غيره ، قاله القتبيُّ ، وابنُ عرفة .

ومنه قوله -يصف إبلاً ترعى أعالي الشَّجر ؛ فترفع رءوسها- : [ الوافر ]

يُبَاكِرْنَ العِضاهَ بِمُقنَعَاتٍ *** نَواجِذُهُنَّ كالحِدَإ الوَقِيعِ{[19362]}

ويقال : أقْنَعَ رأسه ، أي : طأطأها ، ونكَّسها فهو من الأضداد ، والقَناعةُ : الاجتزاءُ باليسيرِ ، ومعنى قَنَعَ عن كذا : أي : رفع رأسه عن السؤال . وفَمٌ مُقَنَّعٌ : معطوف الأسنان إليه داخلة ، ورجُلٌّ مُقنَّعٌ –بالتشديد- ، ويقال : قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعَةً ، وقَنَعاً ، إذا رَضِيَ ، وقنع قُنُوعاً ، إذا سَألَ ، [ فوقع ] الفرق بالمصدر .

وقال الراغب : قال بعضهم : أصل هذه الكلمة من القناعِ ، وهو ما يُغطِّي الرَّأس

والقَانِعُ : من يَلِجُّ في السؤال فيرضى بِما يَأتيهِ ، كقوله : [ الوافر ]

لَمَالُ المَرْءِ يًصْلِحُه فيُغْنِي *** مَفَاقِرهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوعِ{[19363]}

ورجل مقنَّعٌ : تَقنَّعَ بِهِ ؛ قال : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** شُهُودِي على ليْلَى عُدولٌ مَقانِعُ{[19364]}

ومنى الآية : أنَّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنَّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه ، فبين -تعالى- أنَّ حالهم بخلاف هذا المعتاد ، و أنهم يرفعون رءوسهم .

والرُّءُوسُ : جمعُ رأسِ ، وهو مؤنَّثٌ ، ويُجمع في القلَّةِ على أرؤس ، وفي الكثرة على " رُءُوس " والأرَاسُ : العظيم الرأس ، ويعبر به عن الرَّجل العظيم كالوجه ، والرِّسُّ مشتقًّ من ذلك ورِيَاسُ السَّيف مقبضه ، وشاةٌ رَأْسَى : أسودَّتْ رأسَها .

قوله : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } في محل نصب على الحال من الضمير في : " مُقْنِعِي " ويجوزو أن يكون بدلاً من : " مُقْنِعِي " ، كذا قاله أبو البقاء ، يعني أنه يحل محله ، ويجوز أن يكون استئنافاً ، والطرف في الأصل مصدر ، وأطلق على الفاعل ، كقولهم : " مَا فِيهِمْ عينٌ تَطْرف " ، الطَّرفُ هنا : العَيْنُ قال الشاعر : [ الكامل ]

وأغُضُّ طَرْفِي ما بَدتْ لِي جَارتِي *** حتَّى يُوارِي جَارتِي مأواها{[19365]}

والطَّرفُ : الجِفْنُ أيضاً ، يقال : ما طبق طرفهُ ، أي : حفنهُ على الآخر ، الطَّرفُ أيضاً : تحركُ الجِفْنِ .

ومعنى الآية : دوام ذلك الشُّخوصِ .

قوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } " يجوز أن يكون استئنافاً ، وأن يكون حالاً ، والعامل فيه إمَّا " يَرتَدُّ " وإمَّا ما قبله من العوامل ، وأفرد : " هَواءٌ " ، وإن كان خبراً عن جمع ؛ لأنَّه في معنى فارغة متجوفة ، ولو لم يقصد ذلك لقال : أهوية ليطابق الخبر مبتدأه " .

والهَواءُ : الخَالِي من الأجسامِ ويُعبَّرُ به عن الجُبْنِ ، يقال : جوفهُ هواء ، أي : فارغ ؛ قال زهيرٌ : [ الوافر ]

كَانَّ الرَّجلَ مِنْهَا فوقَ صَعْل *** مِنَ الظِّلمانِ جُؤجؤهُ هَواءُ{[19366]}

وقال حسَّان بن ثابت -رضي الله عنه- : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** فأنت مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَواءُ{[19367]}

النَّخْبُ : الذي أخذت نخبته أي : خِيارهُ ، ويقال : قلب فلانٍ هواء : إذا كان جَباناً للقوة في قلبه .

والمعنى : أنَّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جمع الخواطر ، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقَّقوهُ من العذاب ، وخيالة من كلِّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزِنِ .


[19359]:البيت لعمران بن حطان . وينظر: الدر المنثور 4/88، الدر المصون 4/277.
[19360]:البيت لامرئ القيس وقيل: لأنيق بن جبلة. وروي: ومستقلل الذفري.......... *** في رأس ............... ينظر: البحر المحيط 5/418، الطبري 13/238، مجاز القرآن 1/322، اللسان والتاج (أول)، الدر المصون 4/277.
[19361]:البيت ليزيد الحميري. وروي: بدجلة أهلها.. في ديوانه /110، ينظر: مجاز القرآن 1/343، البحر المحيط 5/423، روح المعاني 13/245، التاج والتهذيب واللسان (هطع) إعراب القرآن 3/166، الدر المصون 4/277.
[19362]:البيت للشماخ. ينظر: ديوانه (220) وفيه: (يبادرون) بدلا من (يباكرن)، مجاز القرآن 1/243، روح المعاني 13/220، المخصص 12/287، الصاحبي (263)، التهذيب واللسان (قنع) القرطبي 5/409، إعراب القرآن 3/166، الطبري 13/157 الدر المصون 4/277.
[19363]:البيت للشماخ . ينظر: ديوانه (221)، مجاز القرآن 2/51، المخصص 12/287، الصاحبي (263)، التهذيب واللسان (قنع) فصيح ثعلب /15 المفرادات 429، أحكام القرآن 3/1294، المسائل البصريات 1/613، الدر المصون 4/277.
[19364]:جز بيت لقيس بن الملوح وصدره: وبايعت ليلى بالخلاء ولم يكن *** ...................... ينظر: ديوانه (186)، اللسان (قنع) جمهرة اللغة ص 942، شرح المفصل 1/13، 3/51، أمالي القالي 1/196، الكامل 1/165، الراغب /624، 625 معجم البلدان (القانع)، الدر المصون 4/278.
[19365]:البيت لعنترة. ينظر: ديوانه (76)، البحر المحيط 5/419، تفسير القرطبي 9/377، روح المعاني 13/246، الدر المصون 4/278.
[19366]:ينظر: ديوانه (9)، شرح الديوان 63، تفسير غريب القرآن 134، القرطبي 5/409، الطبري 13/159، الكشاف 2/382 شواهد الكشاف /317، الألوسي 13/247، الكامل 1/195، المحرر الوجيز 4/560، الدر المصون 4/278.
[19367]:عجز بيت وصدره: ألا أبلغ أبا سفيان عني *** ................... ينظر: الديوان (9)، الكشاف 2/382، القرطبي 5/409، الألوسي 13/247، مجاز القرآن 1/344، الطبري 13/144، اللسان والتاج (هوى، جوف)، الدر المصون 4/278.