اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبًاۚ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ} (52)

ثم قال : { وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض } .

قال ابن عطية{[19869]} : " والواو في قوله : { وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض } عاطفة على قوله " إلهٌ واحدٌ " ، ويجوز أن تكون واو ابتداءٍ " .

قال أبو حيَّان{[19870]} : " ولا يقال : واو ابتداءٍ إلاَّ لواو الحال ، ولا يظهر هنا الحال " .

قال شهابُ الدين{[19871]} : وقد يطلقون واو ابتداء ، ويريدون بها واو الاستئناف ؛ أي : التي لم يقصد بها عطف ولا تشريك ، وقد نصُّوا على ذلك ؛ فقالوا : قد يؤتى بالواو أول الكلام ، من غير قصدٍ إلى عطفٍ ، واستدلوا على ذلك بإتيانهم بها في أول أشعارهم وهو كثيرٌ جدًّا .

ومعنى قوله : " عاطفة على قوله : إلهٌ واحدٌ " أي : أنها عطفت جملة على مفرد ، فيجب تأويلها بمفردٍ ؛ لأنها عطفت على الخبر ؛ فيكون خبراً ، ويجوز - على كونها عاطفة - أن تكون عاطفة على الجملة بأسرها ، وهي قوله تعالى : { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } . وكأن ابن عطية - رحمه الله - قصد بواو الابتداء هذا ؛ فإنَّها استئنافيةٌ .

فصل

قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنَّها من جملة ما في السماوات والأرض ، وليس المراد من كونها لله ، أنَّها مفعولة لأجله ، ولطاعته ؛ لأنَّ فيها المباحاتِ ، والمحظورات التي يؤتى بها ، لغرضِ الشَّهوةِ ، واللَّذةِ ، لا لغرضِ الطاعة ؛ فوجب أن يكون المراد من كونها لله تعالى أنَّها واقعة بتكوينه وتخليقه .

قوله : { وَلَهُ الدين وَاصِباً } حال من " الدِّينُ " والعامل فيها الاستقرار المتضمن الجارَّ الواقع خبراً ، والواصبُ : الدَّائمُ ؛ قال حسَّان : [ المديد ]

غَيَّرتهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ *** وهَزِيمٌ رَعْدهُ وَاصِبُ{[19872]}

وقال ابو الأسود : [ الكامل ]

لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَليلَ بَقاؤهُ *** يَوْماً بِذمِّ الدَّهْرِ أجْمعَ وَاصِبَا{[19873]}

والواصب : العليل لمداومةِ السقم له ؛ قال تعالى : { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } [ الصافات : 9 ] أي : دائمٌ ، وقيل : من الوصبِ ، وهو التَّعب ؛ ويكون حينئذٍ على النسب ، أي : ذا وَصَبٍ ؛ لأنَّ الدِّين فيه تكاليف ، ومشاقٌّ على العباد ؛ فهو كقوله : [ المتقارب ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أضْحَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا{[19874]}

أي : ذا فُتونٍ ، وقيل : الواصب : الخالص ، ويقال : وصَب الشَّيءُ ، يَصِبُ وصُوباً ، إذا دام ، ويقال واظَبَ على الشَّيءِ ، وَواصَبَ عليه إذا دَامَ ، ومَفازَةٌ واصِبَةٌ ، أي : بعيدة ، لا غاية لها .

وقال ابن قتيبة : ليس من أحدٍ يدان له ، ويطاع إلاَّ انقطع ذلك بسبب في حال الحياة ، أو بالموتِ إلا الحقَّ - سبحانه وتعالى - فإنَّ طاعته دائمة لا تنقطع .

قال ابنُ الخطيب{[19875]} : وأقولُ : الدين قد يعنى به الانقياد ؛ يقال : يا من دَانتْ لهُ الرِّقَابُ ، أي : انقادت لذاته ، أي : وله الدينُ واصِباً ، أي : انقياد كل ما سواه له لازمٌ أبداً ؛ لأنَّ انقياد غيره له معلَّل ، بأنَّ غيره ممكنٌ لذاته ، والممكن لذاته يلزم أن يكون محتاجاً إلى السبب ، في طرفي الوجود ، والعدمِ ، فالماهيات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتيًّا ، والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتيًّا ، ينتج أنَّ الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثِّر لزوماً ذاتيًّا ، فهذه [ الماهيات{[19876]} ] موصوفة بالانقياد لله - تعالى - اتصافاً ، دائماً ، واجباً ، لازماً ، ممتنع التَّغير .

ثم قال { أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ } ، أي : تخافون ؛ استفهام على طريق الإنكارِ ، أي : أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد ، وأن كلَّ ما سواه محتاجٌ إليه ، في حدوثه وبقائه ، فبعد العلم بهذه الأصول ، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله ، أو رهبة من غير الله ؟ ! .


[19869]:ينظر: المحرر الوجيز 3/400.
[19870]:ينظر: البحر المحيط 5/486.
[19871]:ينظر: الدر المصون 4/335.
[19872]:ينظر: ديوانه (281)، البحر المحيط 5/484، الطبري 14/118، الدر المصون 4/334.
[19873]:ينظر: تفسير الطبري 14/74، مجاز القرآن (3611)، البحر المحيط 5/483، روح المعاني 145/164، الدر المصون 4/8334.
[19874]:عجز بيت وصدره: رخيم الكلام قطيع القيام أمسى فؤادي وهو لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص، وقيل: لزياد الأعجم. ينظر: اللسان والتاج والصحاح (فتن)، البحر المحيط 5/486، المحرر الوجيز 4/196، 197، الدر المصون 4/335.
[19875]:ينظر: الفخر الرازي 20/41.
[19876]:في أ: الذاتيات.