اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجۡـَٔرُونَ} (53)

قوله تعالى : { وَمَا بِكُم } يجوز في " مَا " وجهان :

أحدهما : أن تكون موصولة ، والجارُّ صلتها ، وهي مبتدأ ، والخبر قوله : " فَمِنَ اللهِ " والفاء زائدة في الخبر ؛ لتضمن الموصول معنى الشرط ، تقديره : والذي استقرَّ بكم ، و " مِنْ نِعْمَةٍ " بيانٌ للموصولِ .

وقدَّر بعضهم متعلق " بِكُمْ " خاصًّا ، فقال : " ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ " .

وليس بجيِّد ؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً .

الثاني : أنها شرطية ، وفعل الشرط بعدها محذوف ، وإليه نحا الفراء ، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء .

قال الفرَّاء{[19877]} : التقدير " وما يكن بكم " . وقد ردَّ هذا ؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد " إنْ " خاصَّة في موضعين :

أحدهما : أن يكون من باب الاشتغال ؛ نحو { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } [ التوبة : 6 ] لأن المحذوف في حكم المذكور .

الثاني : أن تكون " إن " متلوة ب " لا " النافية ، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام ؛ كقوله : [ الوافر ]

فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ *** وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ{[19878]}

أي : وإلا تطلقها ، فحذف ؛ لدلالة قوله " فَطلِّقُهَا " عليه .

فإن لم توجد " لا " النافية ، أو كانت الأداة غير " إنْ " لم تحذف إلا ضرورة ، مثال الأول قول الشاعر : [ الرجز ]

قَالتْ بَناتُ العَمِّ : يَا سَلمَى وإنْ *** كَانَ فَقِيراً مُعْدماً ؛ قالتْ : وإنْ{[19879]}

أي : وإن كان فقيراً راضية ؛ ومثال الثاني قول الشاعر : [ الرمل ]

صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ *** أيْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ{[19880]}

وقول الآخر : [ الخفيف ]

فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو *** هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي{[19881]}

فصل

لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله ، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى ؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ ، فهي من الله تعالى ، لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } .

واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية ؛ فقالوا : الإيمانُ نعمة ، وكلُّ نعمة فهي من الله ، فالإيمان من الله تعالى ، وأيضاً : فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به ، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان ، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ ، وكل نعمة فهي من الله ؛ لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } وهذا اللفظ يفيد العموم ، وأيضاً : فالموجود إمَّا واجب لذاته ، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته ، والممكن لذاته ، لا يوجد إلا لمرجح ؛ إن كان واجباً لذاته ، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته ، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل ؛ وهو محال ، فلابدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته ؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله .

واعلم أنَّ النعم : إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة ، أما النعمُ الدينية : فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاته ، وإما معرفة الخير ؛ لأجل العمل به ، وأما النعمُ الدنيوية فهي : إمَّا نفسانية ، وإما بدنيةٌ ، وإما خارجية ، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد ؛ كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] انتهى .

قوله : { إِذَا مَسَّكُمُ الضر } قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : يريد الأسقام ، والأمراض ، والقحط ، والحاجة{[19882]} .

[ قوله ] : { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } الفاء جواب " إذَا " والجُؤارُ : رفع الصَّوت ؛ قال رؤبة يصف راهباً : [ المتقارب ]

يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ *** طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار{[19883]}

ومنهم من قيَّده بالاستغاثة ؛ وأنشد الزمخشريُّ : [ الكامل ]

3329 *** - جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ{[19884]}

. . . . . . . . . . . . . . . . *** وقيل : الجُؤارُ : كالخُوارِ ، جَأرَ الثَّوْرُ ، وخَارَ : واحِدٌ ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين ، وذلك مُعتلها .

وقال الراغب{[19885]} : " جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات " وقرأ{[19886]} الزهري : " تَجَرُونَ " محذوف الهمزة ، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها ، كما{[19887]} قرأ نافع : " رِداً " في { رِدْءاً } [ القصص : 34 ] .

ومعنى الآية : أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله ، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم ؛ فإلى الله يستغيث ؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله ، فكأنه - تعالى- قال لهم : فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ ، والسلامة .


[19877]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/104.
[19878]:البيت للأحوص. ينظر: ديوانه (190)، الإنصاف 72، شرح التصريح 2/252، العيني 4/435، الهمع 2/62، الدرر 2/78، البحر المحيط 5/486، الفتوحات 2/576، أمالي الشجري 1/341، الإنصاف 72، المغني 720، ابن عقيل 4/107، شواهد المغني 767، رصف المباني 188، أوضح المسالك (516)، الكتاب 1/ 195، شذور الذهب 343، الأشموني 4/25، الدر المصون 4/335.
[19879]:تقدم.
[19880]:البيت لكعب بن جعيل أو لحسام بن ضرار. ينظر: الكتاب 1/458، المقتضب 2/75، أمالي الشجري 1/332، الإنصاف 618، ابن يعيش 9/10، الخزانة 1/457، المؤتلف والمختلف ص 84، المقاصد النحوية 4/424، شرح المفصل 9/10، لسان العرب (حير)، همع الهوامع 2/59، الدر المصون 4/335.
[19881]:تقدم.
[19882]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/42).
[19883]:البيت للأعشى وليس لرؤبة، ينظر: ديوان الأعشى 86، البحر المحيط 5/484، الرازي 20/52، الكشاف 2/413، الألوسي 14/165، الطبري 14/121، الدر المصون 4/336.
[19884]:ينظر: أساس البلاغة (جأر)، الدر المصون 4/336.
[19885]:ينظر: المفردات 103.
[19886]:ينظر: المحتسب 2/10، والبحر 5/487، والدر المصون 4/336.
[19887]:من الآية 14 من القصص، وينظر: السبعة 494.