قوله تعالى : { وَمَا بِكُم } يجوز في " مَا " وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولة ، والجارُّ صلتها ، وهي مبتدأ ، والخبر قوله : " فَمِنَ اللهِ " والفاء زائدة في الخبر ؛ لتضمن الموصول معنى الشرط ، تقديره : والذي استقرَّ بكم ، و " مِنْ نِعْمَةٍ " بيانٌ للموصولِ .
وقدَّر بعضهم متعلق " بِكُمْ " خاصًّا ، فقال : " ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ " .
وليس بجيِّد ؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً .
الثاني : أنها شرطية ، وفعل الشرط بعدها محذوف ، وإليه نحا الفراء ، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء .
قال الفرَّاء{[19877]} : التقدير " وما يكن بكم " . وقد ردَّ هذا ؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد " إنْ " خاصَّة في موضعين :
أحدهما : أن يكون من باب الاشتغال ؛ نحو { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ } [ التوبة : 6 ] لأن المحذوف في حكم المذكور .
الثاني : أن تكون " إن " متلوة ب " لا " النافية ، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام ؛ كقوله : [ الوافر ]
فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ *** وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ{[19878]}
أي : وإلا تطلقها ، فحذف ؛ لدلالة قوله " فَطلِّقُهَا " عليه .
فإن لم توجد " لا " النافية ، أو كانت الأداة غير " إنْ " لم تحذف إلا ضرورة ، مثال الأول قول الشاعر : [ الرجز ]
قَالتْ بَناتُ العَمِّ : يَا سَلمَى وإنْ *** كَانَ فَقِيراً مُعْدماً ؛ قالتْ : وإنْ{[19879]}
أي : وإن كان فقيراً راضية ؛ ومثال الثاني قول الشاعر : [ الرمل ]
صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ *** أيْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ{[19880]}
فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو *** هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي{[19881]}
لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله ، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى ؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ ، فهي من الله تعالى ، لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } .
واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية ؛ فقالوا : الإيمانُ نعمة ، وكلُّ نعمة فهي من الله ، فالإيمان من الله تعالى ، وأيضاً : فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به ، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان ، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ ، وكل نعمة فهي من الله ؛ لقوله { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } وهذا اللفظ يفيد العموم ، وأيضاً : فالموجود إمَّا واجب لذاته ، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته ، والممكن لذاته ، لا يوجد إلا لمرجح ؛ إن كان واجباً لذاته ، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته ، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل ؛ وهو محال ، فلابدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته ؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله .
واعلم أنَّ النعم : إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة ، أما النعمُ الدينية : فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاته ، وإما معرفة الخير ؛ لأجل العمل به ، وأما النعمُ الدنيوية فهي : إمَّا نفسانية ، وإما بدنيةٌ ، وإما خارجية ، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد ؛ كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] انتهى .
قوله : { إِذَا مَسَّكُمُ الضر } قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما- : يريد الأسقام ، والأمراض ، والقحط ، والحاجة{[19882]} .
[ قوله ] : { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } الفاء جواب " إذَا " والجُؤارُ : رفع الصَّوت ؛ قال رؤبة يصف راهباً : [ المتقارب ]
يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ *** طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار{[19883]}
ومنهم من قيَّده بالاستغاثة ؛ وأنشد الزمخشريُّ : [ الكامل ]
3329 *** - جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ{[19884]}
. . . . . . . . . . . . . . . . *** وقيل : الجُؤارُ : كالخُوارِ ، جَأرَ الثَّوْرُ ، وخَارَ : واحِدٌ ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين ، وذلك مُعتلها .
وقال الراغب{[19885]} : " جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات " وقرأ{[19886]} الزهري : " تَجَرُونَ " محذوف الهمزة ، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها ، كما{[19887]} قرأ نافع : " رِداً " في { رِدْءاً } [ القصص : 34 ] .
ومعنى الآية : أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله ، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم ؛ فإلى الله يستغيث ؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله ، فكأنه - تعالى- قال لهم : فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ ، والسلامة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.