اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن دَآبَّةٖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (49)

قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } الآية قد تقدم أن السجود على نوعين :

سجود كسجود الصلاة بوضع الجبهة على الأرض ، وسجود هو انقياد وخضوع ؛ فلهذا قال بعضهم : المراد بالسجود ههنا : الانقيادُ والخضوع ؛ لأنه اللائق بالدابة .

وقيل : السجود حقيقة ؛ لأنه اللائق بالملائكة عليهم الصلاة والسلام .

وقيل : السجود لفظ مشتركٌ بين المعنيين ، وحمل اللفظ المشترك [ على إفادة مجموع معنيين جائز ، فيحمل لفظ السجود ههنا على المعنيين معاً ، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع ، وأما في حق الملائكة فبمعنى السجود الحقيقي ؛ وهذا ضعيف ؛ لأن استعمال اللفظ المشترك ]{[19856]} في جميع مفهوماته معاً غير جائز .

قوله تعالى : { مِن دَآبَّةٍ } يجوز أن يكون بياناً ل { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ويكون لله تعالى في سمائه خلق ؛ يدبون كما يدبُّ الخلق الذي في الأرض ، ويجوز أن يكون بياناً ل { مَا فِي الأرض } فقط .

قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : هلاَّ جيء ب " مَنْ " دون " ما " تغليباً للعقلاءِ على غيرهم ؟ .

قلت : إنه لو جيء ب " مَنْ " لم يكن فيه دليلٌ على التغليب ، بل كان متناولاً للعقلاء خاصة ، فجيء بما هو صالح للعقلاء ، وغيرهم ؛ إرادة للعموم " .

قال أبو حيَّان{[19857]} : " وظاهر السؤال تسليم أنَّ مَنْ قد تشتمل العقلاء ، وغيرهم على جهة التغليب ، وظاهر الجواب تخصيص " مَنْ " بالعقلاءِ ، وأنَّ الصالح للعقلاء ما دون " مَنْ " ، وهذا ليس بجوابٍ لأنه أورد السؤال على التسليم ، ثمَّ أورد الجواب على غير التسليم ، فصار المعنى أنَّ من يغلب بها ؛ والجواب لا يغلب بها ، وهذا في الحقيقة ليس بجواب " .

فصل

قال الأخفش : قوله : " مِنْ دَابَّةٍ " يريد من الدَّواب ، وأخبر بالواحدِ ؛ كما تقول : ما أتَانِي من رجلٍ مثله ، وما أتَانِي من الرِّجالِ مثلهُ .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " يريد كل دابَّة على الأرضِ{[19858]} " .

فإن قيل : ما الوجه في تخصيص الملائكة ، والدواب بالذكر ؟ .

فالجواب من وجهين :

الأول : أنَّه تعالى بيَّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله - سبحانه وتعالى - وبين بهذه الآية أنَّ الحيوانات بأسرها منقادة لله - تعالى - لأن أخسَّها الدوابُّ ، وأشرفها الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - فلما بين في أخسها ، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله - تعالى - كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى .

الثاني : قال حكماءُ الإسلام : الدابَّةُ : اشتقاقها من الدَّبيب ، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيَّة ؛ فالدابة اسمٌ لكلِّ حيوان يتحرك ويدبُّ ، فلما ميَّز الله الملائكة عن الدابة ؛ علمنا أنَّها ليست مما يدبُّ ؛ بل هي أرواحٌ محضةٌ مجردة ، وأيضاً فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب ؛ لقوله { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .

{ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يجوز أن تكون الجملة استئنافاً أخبر عنهم بذلك ، وأن يكون حالاً من فاعل " يسجد " .

قوله " يَخَافُونَ " فيها وجهان :

أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم ، كأنه قيل : ما لهم يستكبرون ؟ فأجيب بذلك ، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل " لا يَسْتَكْبِرُونَ " ،


[19856]:سقط من: ب.
[19857]:ينظر: البحر المحيط 5/483.
[19858]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/36).