اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ} (62)

قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ، أي : البنات التي يكرهونها لأنفسهم ، ومعنى : " ويجعلون " : يصفون الله بذلك ، ويحكمون به له ، كقولك : جعلتُ زيداً على النَّاس ، أي : حكمت بهذا الحكم . وتقدَّم معنى الجعل عند قوله تعالى : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ } [ المائدة : 103 ] .

قوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } ، العامة على أن " الكذب " مفعول به ، و " أن لهم الحسنى " ، بدل منهم ، بدل كل من كل ، أو على إسقاط الخافض ، أي : بأن لهم الحسنى .

وقرأ{[19915]} الحسن " ألسنتهم " بسكون التَّاء تخفيفاً ، وهي تشبه تسكين لام { بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، وهمزة { بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] ونحوه .

والألسنةُ : جمع لسان مراداً به التذكير ، فجمع كما جمع فعال المذكر نحو : " حِمَار وأحْمِرَة " ، وإذا أريد به التَّأنيث ، جمع جمع أفعل ، كذِرَاعٍ ، وأذْرُع .

وقرأ{[19916]} معاذ بن جبل رضي الله عنه : " الكُذُبُ " بضم الكافِ والذَّال ، ورفع الباء ، على أنَّه جمع كذُوب ، كصَبُور وصُبُر ، وهو مقيسٌ .

وقيل : هو جمع كاذب ، نحو " شَارِف وشُرُف " ؛ كقول الشاعر : [ الوافر ]

ألاَ يَا حَمْزَ للشُّرفِ النِّواءِ *** . . . . . . . . . . . . . {[19917]}

وهو حينئذٍ صفة ل : " ألْسِنتُهمُ " ، وحينئذ يكون " أنَّ لهُم الحُسْنَى " ، مفعولاً به . والمراد بالحسن : البَنُونَ . وقال يمانُ : يعني بالحسنةِ : الجنة في المعادِ . فإن قيل : كيف يحكمُون بذلك ، وهم منكُرونَ القيامة ؟ . فالجواب : أنَّ جميعهم لم ينكر القيامة ، فقد قيل : إنَّه كان في العرب جمعٌ يقرُّونَ بالبعثِ ، ولذلك كانوا يربطون البعير النَّفيسَ على قبرٍ ، ويتركونه إلى أن يموت ويقولون : إنَّ ذلك الميت إذا حشر ؛ يحشر معه مركوبه . وقيل : إنهم كانوا يقولون : إن كان محمداً صادقاً في قوله بالبعث ، تحصل لنا الجنَّة بهذا الدين الذي نحن عليه . قيل : وهذا القول أولى ، لقوله بعد : " لا جَرمَ أنَّ لهُم النَّارَ " فردّ عليهم قولهم ، وأثبت لهم النَّار ؛ فدلَّ على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنَّة .

قوله : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } ، أي : حقًّا . قال ابن عباسٍ - رضي الله عنه - نعم إن لهم النَّار{[19918]} .

قال الزجاج : " لا " رد لقولهم ، أي : ليس الأمر كما وصفوا ، " جرم " [ فعلهم ]{[19919]} أي : كسب ذلك القول لهم النار ، فعلى هذا اللفظ " أنَّ " في محلِّ نصبٍ بوقوع الكسب عليه . وقال قطربٌ : " أنَّ " في موضع رفع ، والمعنى : وجب أن لهم النَّار ، وكيف كان الإعراب ، فالمعنى : أنه يحق لهم النَّار ، ويجبُ .

قوله : { وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } قرأ نافعٌ بكسر{[19920]} الراء ، اسم فاعل من أفرط ، إذا تجاوز ، فالمعنى : أنهم متجاوزون الحد في معاصي الله - تعالى - أو في الإفراط ، فأفعل هنا قاصر . وقال الفارسيُّ : كأنه من أفرط ، أي : صار ذا فرطٍ ، مثل : أجرب ، أي : صار ذا جرب ، والمعنى : أنَّهم ذُو فرطٍ إلى النَّار ، كأنَّهم قد أرْسِلُوا إلى من يُهَيِّئُ لهُم مواضع إلى النَّار . والباقون بفتحها ، اسم مفعولٍ من : أفرطته ، وفيه معنيان :

أحدهما : أنه من أفرطته خلفي ، أي : تركته ونسيته ، حكى الفراء أنَّ العرب تقول أفرطتُ منهم ناساً ، أي : خلفتهم ، والمعنى : أنَّهم مَنْسيُّونَ ، مَترُوكونَ في النَّار .

والثاني : أنه من أفرطته ، أي : قدمته إلى كذا ، وهو منقولٌ بالهمزة من فرط إلى كذا ، أي : تقدَّم إليه ، كذا قاله أبو حيان{[19921]} ، وأنشد للقطامي : [ البسيط ]

واسْتَعْجلُونَا وكَانُوا مِنْ صَحابَتِنَا *** كَمَا تعجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ{[19922]}

فجعل " فَرَطَ " قاصراً ، و " أفْرَطَ " منقولاً .

وقال الزمخشريُّ : " بمعنى مقدَّمُون إلى النَّار معجَّلون إليها ، من أفرطت فُلاناً وفرَّطتهُ ، إذا قدَّمتهُ إلى المَاءِ " .

فجعل " فَعَلَ " ، و " أفْعَل " بمعنى ؛ لأنَّ " أفْعَلَ " منقولٌ من " فَعَل " ، والقولان محتملان ، ومنه الفرطُ ، أي : المتقدم ، قال صلى الله عليه وسلم : " أنَا فَرطُكمْ على الحَوْضِ{[19923]} " ، أي : سابقكم ، ومنه " جَعَلهُ فَرطاً لأبويه وذُخْراً " ، أي : متقدماً بالشَّفاعة ، وبتثقيل الموازين ، والمعنى على هذا : أنهم قدموا إلى النَّار ، وأنهم فرط الذين يدخلون بعدهم .

وقرأ{[19924]} أبو جعفر في رواية " مُفرِّطُونَ " بتشديد الرَّاءِ مكسورة ، من فرَّط في كذا ، أي : قصَّر ، وفي رواية مفتوحة ، من فرَّطتهُ معدى بالتَّضعيف ؛ أي من " فرط " بالتخفيف أي : تقدَّم ، وسبق .

وقرأ عيسى{[19925]} بن عمر والحسن - رضي الله عنهما - " لا جَرمَ إنَّ لهم النار وإنهم " ، بكسر " إن " فيهما ، على أنهما جواب قسم ، أغنت عنه : " لا جرم " .


[19915]:ينظر: البحر 5/490، والدر المصون 4/339.
[19916]:ينظر: البحر 5/49 والمحتسب 2/11، والدر المصون 4/339.
[19917]:تقدم.
[19918]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/602) وذكره البغوي في "تفسيره" (3/74).
[19919]:في ب: أن لهم النار.
[19920]:ينظر: السبعة 374، والإتحاف 2/185، والنشر 2/304 والحجة 391، والتيسير 138، والبحر 5/490، والدر المصون 4/339.
[19921]:ينظر: البحر المحيط 5/490.
[19922]:ينظر: اللسان والتاج والصحاح (فرط)، البحر المحيط 5/491، الطبري 14/128، روح المعاني 1/173، الدر المصون 4/339.
[19923]:تقدم.
[19924]:ينظر: النشر 2/304، والإتحاف 2/185، والقرطبي 1/80 والبحر 5/491، والدر المصون 4/340.
[19925]:ينظر: البحر 5/490، الدر المصون 4/340.