اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (75)

قوله : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ } ، يجوز في : " مَنْ " هذه ، أن تكون موصولة ، وأن تكون موصوفة ، واختاره الزمخشري رحمه الله ، قال : " كأنه قيل : وحرًّا رزقناه ليطابق عبداً " ومحلها النصب على " عَبْداً " ، وقد تقدَّم الكلام [ إبراهيم : 24 ] في المثل الواقع بعد " ضَرَب " .

وقوله : { سِرّاً وَجَهْراً } ، يجوز أن يكون منصوباً على المصدر ، أي : إنفاق سر وجهر ، ويجوز أن يكون حالاً .

وهذا مثل المؤمن من أعطاه الله مالاً ، فعمل فيه بطاعةِ الله وأنفقه في رضاه سرًّا وجهراً ، فأثابه الله عليه الجنَّة .

قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوُونَ } ، إنَّما جميع الضمير وإن تقدَّمه اثنان ؛ لأنَّ المراد : جنس العبيد والأحرار ، المدلول عليهما ب " عَبْداً " ، وب " مَن رزقنَاهُ " .

وقيل : على الأغنياء والفقراء المدلول عليهما بهما أيضاً ، وقيل : اعتباراً بمعنى " مَنْ " ، فإنَّ معناها جمع ، فراعى معناها بعد أن راعى لفظها .

فصل

قيل : المراد بقوله : { عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } ، هو : الصَّنم ؛ لأنَّه عبد بدليل قوله : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } [ مريم : 93 ] وهو مملوك لا يقدر على شيء ، والمراد بقوله : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً } : عابد الصَّنم ؛ لأن الله - تعالى - رزقه المال ، فهو ينفقُ منه على نفسه وعلى أتباعه سرًّا وجهراً ، فهما لا يتساويان في بديهة العقل ، بل صريح العقل شاهدٌ بأن عابد الصَّنم أفضل من الصَّنم ، فكيف يجوز الحكم بأنه مساوٍ لربِّ العالمين في المعبوديَّة ؟ .

وقيل : المراد بالعبد المملوك : عبد معيَّن ، قيل : أبو جهل ، وب { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } :أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - .

وقيل : عامٌّ في كل عبد بهذه الصفة ، وفي كل حرٍّ بهذه الصفة .

فصل

دلَّت هذه الآية على أن العبد لا يملك شيئاً .

فإن قيل : دلَّت الآية على أنَّ عبداً من العبيد لا يقدر على شيءٍ ، فلم قلتم : إن كل عبد كذلك ؟ .

فالجواب : أنه ثبت في أصول الفقه : أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدلُّ على كون ذلك الوصف علَّة لذلك الحكم ، وكونه عبداً وصفٌ مشعرٌ بالذلِّ والمقهورية وقوله : { لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } ، حكم مذكور عقيبه ، وهذا يقتضي أنَّ العلَّة لعدم القدرة على شيءٍ ، هو كونه عبداً ، وأيضاً قال بعده : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً } فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول ، وهو العبد بهذه الصفة ، وهو أنه رزقه رزقاً حسناً {[19982]} ، فوجب ألا يحصل هذا الوصف للعبد ، حتَّى يحصل الامتيازُ بين الثاني وبين الأوَّل ، ولو ملك العبد ، لكان الله قد آتاهُ رزقاً حسناً ؛ لأن الملك الحلال رزق حسن .

ثم اختلفوا ؛ فروي عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - وغيره التشدد في ذلك ، حتى قال : لا يملك الطَّلاق أيضاً .

وأكثر الفقهاء على أنَّه يملك الطلاق ، واختلفوا في أنَّ المالك إذا ملكه شيئاً ، هل يملكه أم لا ؟ وظاهر الآية ينفيه .

فإن قيل : لم قال : { عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } وكل عبدٍ فهو مملوك وغير قادر على التصرُّف ؟ .

فالجواب : ذكر المملوك ليحصل الامتياز بينه وبين الحرِّ ؛ لأنَّ الحر قد يقال : إنه عبد الله ، وأما قوله : { لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } ؛ للتَّمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون ؛ لأنهما يقدران على التصرُّف .

قوله { الحمد لِلَّهِ } ، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- : على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتَّوحيد{[19983]} .

وقيل : المعنى أنَّ الحمد كلّه لله ، وليس شيءٌ من الحمد للأصنام ؛ لأنها لا نعمة لها على أحدٍ .

وقوله عزَّ وجلَّ- : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : أنهم لا يعلمون أنَّ كل الحمد لي ، وليس شيء منه للأصنام .

وقال القاضي - رحمه الله- : قال للرَّسُول - صلوات الله وسلامه عليه- : { قُلِ الحمد لِلَّهِ } [ النمل : 59 ] .

وقيل : هذا خطاب لمن رزقه الله رزقاً حسناً أن يقول : الحمد لله على أن ميَّزه في هذه القدرة على ذلك العبد الضعيف .

وقيل : لما ذكر هذا المثل مطابقاً للغرض{[19984]} كاشفاً عن المقصود ، قال بعده : { الحمد لِلَّهِ } ، يعني : الحمد لله على قوَّة هذه الحجَّة وظهور هذه البيِّنة .

ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : أنَّها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها ، لا يعلمونها هؤلاء الجهَّال .


[19982]:سقط من: ب.
[19983]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/66).
[19984]:في ب: للآخر.