اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

قوله - تعالى - : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ } الآية ، وهذا مثل ثانٍ لإبطالِ قول عبدة الأصنام ؛ وتقريره : أنَّه لما تقرَّر في أوائل العقول أنَّ الأبكم العاجز لا يساوي في الفضل والشَّرف النَّاطق القادر الكاملظ ، مع استوائهما في البشرية ، فلأن يحكم بأنَّ الجماد لا يكون مساوياً لربِّ العالمين في المعبوديَّة أولى .

قال الواحدي : قال أبو زيد : الأبكم ، هو : العَيِيُّ المفحم ، وقد بكم بكماً وبكامةً ، وقال أيضاً : الأبكمُ : الأقطع اللسان ، وهو الذي لا يحسن الكلام .

روى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأبكم : الذي لا يعقل . وقال الزجاج : الأبكم : المطبق الذي لا يسمعُ ولا يبصر .

ثم قال : { لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } ، إشارة إلى العجز التَّام ، والنُّقصان الكامل .

وقوله : { كَلٌّ على مَوْلاهُ } ، الكلُّ : الثَّقيلُ ، والكلُّ : العيال ، والجمع : كلُول ، والكلُّ : من لا ولد لهُ ولا وَالِد ، والكلُّ أيضاً : اليَتيمُ . سمِّي بذلك ؛ لثقله على كافله ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

أكُولٌ لمَالِ الكُلِّ قَبْلَ شبَابهِ *** إذَا كانَ عَظْمُ الكَلِّ غَيْرَ شَديدِ{[19985]}

قال أهل المعاني : " أصل الكلِّ من الغلط الذي هو نقيضُ الحدَّة ، يقال : كلَّ السِّكينُ : إذا غلظت شفرته فلم تقطع ، وكلَّ اللسانُ : إذا غلظ فلم يقدر على الكلام ، وكلَّ فلانٌ عن الأمْرِ : إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه ، فمعنى : " كلٌّ على مولاهُ " ، أي : غليظٌ وثقيلٌ على مولاه أهل ولايته " .

قوله : { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ } ، شرط وجزاؤه ، وقرأ ابن مسعود{[19986]} ، وابن وثَّاب ، وعلقمة : " يُوَجِّهْ " ، بهاء واحدة ساكنة للجزم ، وفي فاعله وجهان :

أحدهما : ضمير الباري - تعالى - ، ومفعوله محذوف ؛ [ تقديره كقراءة العامة ]{[19987]} .

والثاني : أنه ضمير الأبكم ، ويكون " يُوجِّهْ " لازماً بمعنى : " يَتوَجَّهُ " .

يقال : وجَّه وتوجَّهَ بمعنًى ، وقرأ علقمة أيضاً وطلحة كذلك ، إلاَّ أنه بضم{[19988]} الهاءِ ، وفيها أوجه :

أحدها : أنَّ " أيْنَمَا " ليست هنا شرطيَّة ، و " يُوَجِّهُ " خبر مبتدأ مضمر ، أي : أيْنَمَا هو يوجه ، أي : الله - تعالى- ، والمفعول محذوف ، وحذفت الياء من قوله : " لا يَأتِ " تخفيفاً ؛ كما حذفت في قوله : { يَوْمَ يَأْتِ } [ هود : 105 ] و { إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] .

والثاني : أن لام الكلمة حذفت تخفيفاً لأجل التضعيف ، وهذه الهاء هي الضمير ، فلم يحلها جزم ، ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرَّازي .

الثالث : أن " أيْنَمَا " أهملت حملاً على " إذَا " ؛ لما بينهما من الأخُوَّةِ في الشرط ؛ كما حملت " إذا " عليها في الجزم في بعض المواضع ، وحذفت الباء من : " يَأتِ " تخفيفاً ، أو جزم على التوهُّم ، ويكون : " يُوجِّهُ " لازماً بمعنى : " يَتوجَّهُ " كما تقدَّم .

وقرأ{[19989]} عبد الله أيضاً : " تُوَجِّههُ " ، بهاءين بتاء الخطاب ، وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة- : " إنَّ هذه القراءة ضعيفة ؛ لأن الجزم لازم " ، وكأنه لم يعرف توجيهها ، وقرأ علقمة وطلحة أيضاً : " يُوجَّهْ " ، بهاء واحدة ساكنة للجزم ، والفِعْل مبني للمفعول ؛ وهي واضحة .

وقرأ ابن{[19990]} مسعود أيضاً : " تُوَجِّههُ " ، كالعامة إلا أنه بتاء الخطاب ، وفيه التفاتٌ ، وفي الكلام حذف وهو حذف المقابل ؛ لقوله : { أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } ، كأنه قيل : والآخر ناطقٌ متصرف في ماله ، وهو خفيف على مولاه { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } ، ودلَّ على ذلك : { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } .

ونقل أبو البقاءِ - رحمه الله - أنه قرئ{[19991]} : " أيْنَمَا تَوجَّه " ، بالتَّاء وفتح الجيم والهاء فعلاً ماضياً ، فاعله ضمير الأبكم .

قوله : { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } ، 00 . الرَّاجح أن يكون مرفوعاً ؛ عطفاً على الضمير المرفوع في : " يَسْتَوِي " ، وسوَّغه الفصل بالضمير ، والنصب على المعيَّة مرجوح ، والجملة من قوله : { وَهُوَ على صِرَاطٍ } ، إمَّأ استئنافٌ أو حال .

فصل

لمَّا وصف الله أحد الرَّجُليْن بهذه الصِّفات الأربع ، وهذه صفات الأصنام ، وهو : أنَّه أبكم لا يقدر على شيءٍ ، أي : عاجز كلٌّ على مولاه ، ثقيل ، أينما يرسله لا يأت بخير ؛ لأن أبكم : لا يفهم ، قال : هل يستوي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع ، وهذه صفات الأصنام لا تسمع ولا تعقل ولا تنطق ، وهو كلٌّ على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويخدمه ويضعه ، { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } ، يعني : الله قادر متكلِّم يأمر بالتَّوحيد ، { وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .

قال الكلبي : يدلكم على صراط مستقيم .

وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : كِلا المثلين للمؤمن والكافر ، يرويه عطيَّة ، عن ابن عباس رضي الله عنه .

قال عطاء : الأبكم : أبيُّ بن خلف ، { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } : حمزة ، وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون - رضي الله عنهم{[19992]}- .

وقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي ، وكان قليل الخير ، يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم{[19993]} .

وقيل : نزلت في عثمان بن عفَّان ومولاه ، كان مولاه يكره الإسلام{[19994]} .

وقيل : المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات الذَّميمة ، وكل حرٍّ موصوف بتلك الصفات الحميدة ، وهذا أولى من القول الأول ؛ لأن وصفه - تعالى - إياهما بكونهما رجلين ، يمنع من حمل ذلك على الوثن ، وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم ، يمنع من حمله على الله - تعالى- .


[19985]:ينظر: اللسان والتاج (كلل)، التهذيب (كل)، الألوسي 14/197، المحرر 4/701، الدر المصون 4/349. البحر 5/502.
[19986]:ينظر: المحتسب 2/11، والشواذ 73، والبحر 5/504، والدر المصون 4/350.
[19987]:في ب: لدلالة المعنى عليه.
[19988]:ينظر: البحر 5/504، والدر المصون 4/350.
[19989]:ينظر: القرطبي 10/99، والدر المصون 4/350، وقد تقدمت قراءة عبد الله بن مسعود في أول الآية يوصه.
[19990]:ينظر: السابق.
[19991]:ينظر: الدر المصون 4/350.
[19992]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/78).
[19993]:ينظر: المصدر السابق.
[19994]:هو مروي عن ابن عباس ذكره الماوردي في "تفسيره" (3/204) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/235 ـ 236) وعزاه إلى ابن سعد وابن أبي شيبة والبخاري في "تاريخه" وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس.