اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا} (96)

قال : { آتُونِي } : قرأ أبو بكرٍ{[21329]} " آيتُونِي " بهمزة وصلٍ ؛ من أتى يأتي في الموضعين من هذه السورة ؛ بخلاف عنه في الثاني ، ووافقه حمزة على الثاني ، من غير خلافٍ عنه ، والباقون بهمزة القطع فيهما .

ف " زُبرَ " على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض ، أي : جيئُوني بزُبرِ الحديد ، وفي قراءة قطعها على المفعول الثاني ؛ لأنه يتعدَّى بالهمزة إلى اثنين ، وعلى قراءة أبي بكرٍ يحتاج إلى كسر التنوين من " رَدْماً " لالتقاءِ الساكنين ؛ لأنَّ همزة الوصل ، تسقط درجاً ، فيقرأ له بكسر التنوين ، وبعده همزة ساكنة هي فاءُ الكلمة ، وإذا ابتدأت بكلمتي " ائتُونِي " في قراءته ، وقراءة حمزة ، تبدأ بهمزة مكسورة للوصلِ ، ثم ياءٍ صريحة ، هي بدلٌ من همزة فاء الكلمة ، وفي الدَّرج تسقط همزة الوصل ، فتعود الهمزة ؛ لزوالِ موجب إبدالها .

والباقون يبتدئون ، ويصلون بهمزة مفتوحة ؛ لأنَّها همزة قطعٍ ، ويتركون تنوين " رَدْماً " على حاله من السكون ، وهذا كله ظاهر لأهل النحو ، خفيٌّ على القراء .

والزُّبَرُ : جمع زُبْرَة ، كغُرفَةٍ وغُرَفٍ .

و " زُبَرَ الحَديدِ " قطعه .

قال الخليل : الزُّبرة من الحديد : القطعة الضخمة .

وقرأ الحسن{[21330]} بضمِّ الباء .

قوله : " سَاوَى " هذه قراءة الجمهور ، وقتادة " سوَّى " بالتضعيف ، وعاصم في رواية " سُوِّيَ " مبنيًّا للمفعول .

وفيه إضمارٌ ، أي : فأتوهُ بها ، فوضع تلك الزُّبرَ بعضها على بعض { حتى إِذَا ساوى } أي سدت ما بين الجبلين إلى أعلاهما .

قوله : " الصَّدفَيْنِ " قرأ{[21331]} أبو بكرٍ بضم الصاد ، وسكون الدَّال ، وابن كثيرٍ ، وأبو عمرو ، وابن عامر بضمهما ، والباقون بفتحهما ، وهذه لغاتٌ قرئ بها في السَّبع ، وأبو جعفرٍ ، وشيبة ، وحميد بالفتح والإسكان ، والماجشونُ بالفتح والضمِّ ، وعاصم في رواية بالعكس .

والصَّدفانِ : ناحيتا الجبلين ، وقيل : أن يتقابل جبلان ، وبينهما طريقٌ ، والناحيتان صدفان ؛ لتقابلهما ، وتصادفهما ، من صادفت الرجل ، أي : لاقيته وقابلته ، وقال أبو عبيد : " الصَّدفُ : كل بناءٍ مرتفعٍ ، وقيل : ليس بمعروفٍ ، والفتحُ لغة تميمٍ ، والضمُّ لغة حميرٍ " .

فصل في بناء السد

لما أتوهُ بزبر الحديد ، وضع بعضها على بعض ؛ حتى ساوتْ ، وسدَّت ما بين الجبلينِ ، ووضع المنافخ عليها ، و الحطب ، حتَّى إذا صارت كالنَّار ، صبَّ النُّحاس المذاب على الحديدِ المحمَّى ، فالتصق بعضه ببعض ، فصار جبلاً صَلْداً .

وهذه معجزةٌ تامَّةٌ ؛ لأنَّ هذه الزُّبَر الكثيرة ، إذا نفخ عليها ؛ حتَّى تصير كالنَّار ، لم يقدر الحيوان على القرب منها ، والنَّفخُ عليها لا يكون إلا بالقرب منها ، فكأنَّه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النَّافخين عليها .

قيل : إنَّه وضع الحديد على الحطب ، والحطب على الحديد ؛ فصار الحطب في خلال الحديد ، ثمَّ نفخُوا عليه ؛ حتَّى صار ناراً ، أفرغ عليه النُّحاس المذاب ؛ فدخل في خلال الحديد مكان الحطب ؛ لأنَّ النَّار أكلت الحطب ؛ فصار النحاسُ مكان الحطب ؛ حتَّى لزم الحديدُ النُّحاس .

قال قتادة{[21332]} : صار كالبُرد المحبَّر طريقة سوداء وطريقة حمراء .

فصل فيما بين السدين

قال الزمخشريُّ : قيل : بعد ما بين السَّدين مائة فرسخٍ .

وروي : عرضهُ كان خمسين ذراعاً ، وارتفاعه مائتي ذراعٍ .

قوله : " قِطْراً " هو المتنازع فيه ، وهذه الآية أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع ، وهي من إعمال الثاني ؛ للحذف من الأول ، والقِطرُ : النُّحاس ، أو الرَّصاصُ المذاب ؛ لأنه يقطر .


[21329]:ينظر: النشر 2/315، والإتحاف 2/226، والتيسير 146، وإعراب القراءات 1/421، والحجة 434.
[21330]:ينظر: البحر المحيط 6/155.
[21331]:ينظر في قراءتها: السبعة 401، والتيسير 146، والنشر 2/315، والإتحاف 2/227، والحجة للقراء السبعة 5/177، وإعراب القراءات 1/420.
[21332]:ينظر: معالم التنزيل 3/182.