اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٖۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (35)

قوله تعالى : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } نفى عن نفسه الولد ، أي : ما كان من نعته اتخاذ الولد .

والمعنى : أن ثبوت الولد له محالٌ ، فقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقولنا : ما كان للهِ أن يكون له ثانٍ وشريكٌ ، أي : لا يصحُّ ذلك ، ولا ينبغي ، بل يستحيلُ ؛ فلا يكونُ نفياً على الحقيقةِ ، وإن كان بصُورة النَّفِي .

وقيل : اللاَّم منقولةٌ ، أي : ما كان من ولدٍ ، والمرادُ : ما كان الله أن يقُول لأحدٍ ، إنَّه ولدي ؛ لأنَّ مثل [ هذا ] الخبر كذبٌ ، والكذبُ لا يليقُ بحكمةِ الله تعالى وكماله ، فقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } كقولنا : ما كان لله أن يظلم ، أي : لا يلِيقُ بحكمته ، وكمالِ إلهِيَّتِهِ .

قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً } إذا أراد أن يحدث أمْراً ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، وهذا كالحُجَّة على تَنْزيهه عن الولدِ ، وبيانهُ : أن الَّذي يجعلُ للهِ ولداً ، إما أن يكون الولدُ قديماً أزليَّا ، فهو محالٌ ؛ لأنَّه [ لو كان واجباً لذاته ، لكان واجبُ الوجودِ أكثر من واحدٍ ، ]{[21609]} ولو كان [ مُمْكِناً ]{[21610]} لذاته ، لافتقر في وجوده إلى الواجب لذاته ؛ لأنَّ الواجب لذاته غنيٌّ لذاته ، فلو كان مفتقراً في وجودِهِ إلى الواجِبِ لذاتِه ، كان ممكناً لذاته ، والممكنُ لذاته محتاجٌ لذاته ، فيكُون عبداً له ؛ لأنَّهُ لا معنى للعبُوديَّة إلاَّ ذلك .

وإن كان الولدُ مُحْدَثاً ، فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم ، وإيجاده ، وهو المرادُ من قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } .

فيكونُ عَبْداً ، لا ولداً ؛ فثبت أنه يستحيلُ أن يكون لله ولدٌ .

فصل في قدم كلام الله تعالى

دلَّت هذه الآية على قدم كلام الله تعالى ؛ لأنَّه إذا أراد إحداث شيءٍ ، قال له : { كُن فَيَكُونُ } فلو كان بقوله : " كُنْ " مُحْدَثاً ، لافتقر حدوثُه إلى قولٍ آخر ، ولزمَ التَّسَلْسُل ؛ وهو محال ؛ فثبت أنَّ قول الله تعالى ، قديمٌ ، لا مُحْدَث .

واحتج المعتزلةُ بالآية على حُدُوثِ كلامِ الله تعالى من وجوه :

أحدها : أنه تعالى أدخل كلمة " إذَا " وهي دالَّة على الاستقبال ؛ فوجب ألاَّ يحصُلَ ذلك القولُ إلاَّ في الاستقبال .

ثانيها : أنَّ " الفاء " للتعقيب ، و " الفاءُ " في قوله : { فإنَّمَا يَقُولُ } يدلُّ على تأخير ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخِّر عن غيره مُحدثٌ .

وثالثها : " الفاءُ " في قوله { فَيَكُونُ } يدلُّ على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصلٍ ، فيكون قولُ اللهِ تعالى متقدِّمَّاً على حُدُوث الحادث تقديماً بلا فَصْلٍ ، والمتقدم على المحدثِ تقديماً بلا فصل يكونُ مُحْدَثاً ، فقولُ الله محدثٌ .

قال ابنُ الخطيبِ{[21611]} - رحمه الله- واستدلالُ الفريقين ضعيفٌ .

أمَّا الأوَّل ؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قوله { كُنْ } قديماً ، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق .

وأمَّا الاستدلالُ المعتزلة ؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قولُ الله تعالى الذي هو مركَّبٌ من الحروف ، والأصوات مُحْدَثاً ؛ وذلك لا نزاع فيه ، [ لأن ]{[21612]} المدَّعى قدمُه شيءٌ آخرُ .

فصل في أقوال الناس في قوله { كُنْ }

من النَّاس من أجْرَى الآيةَ على ظاهرها ، وزعم أنَّه تعالى ، إذا أحدث شيئاً ، قال له : كُنْ ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّه إما أن يقُول له : كُنْ قبل حدوثه ، أو حال حُدُوثه ، فإن كان الأوَّل ، كان خطاباً مع المعدُوم ، وهو عبثٌ ، وإن كان حال حدوثه ، فقد وُجِدَ بالقُدْرَة ، والإرادة ، لا بقوله { كُنْ } ومن النَّاس من زعم أنَّ المراد من قوله : { كُنْ } هو التخليقُ والتكوينُ ؛ لأنَّ القُدْرَة على الشَّيء غير ، وتكوين الشيء غيرٌ فإنَّ الله تعالى قادرٌ في الأزل ، وغير مُكَوِّن في الأول ؛ ولأنَّه الآن قادرٌ على عالم سوى هذا العالم ، وغير مكوِّن له ، فالقادريَّة غير المكوّنيَّة ، والتكوينُ ليس هو نفس المكوَّن ؛ لأنَّ المكوَّن إنما حدث ؛ لأنَّ الله تعالى كونه ، وأوجده ، فلو كان التَّكوين نفس المكوَّن ؛ لكان قولنا : " المُكَوَّن إنَّما وجد بتكوين الله " بمنزلةِ قولنا : " المُكَوَّنُ إنَّما وجد بنَفْسِه " وذلك محالٌ ؛ فثبت أنَّ التكوين غير المُكَوَّن ، فقوله { كُنْ } إشارةٌ إلى الصفة [ المسمَّاة ] بالتكوين .

وقال آخرون : قوله سبحانه وتعالى : { كُنْ } عبارةٌ عن نفاذ قُدرة الله تعالى ومشيئته في المُمْكِنَات ؛ فإنَّ وقوعها بتلك القُدْرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مُجْرَى العَبْد المُطِيع المُنْقَاد لأوامر الله تعالى ، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبرةِ على سبيلِ الاستعارة .


[21609]:في أ: يكون ولا حياء، ولو كان واجبا لذاته.
[21610]:في ب: واجبا.
[21611]:ينظر: الفخر الرازي 21/186.
[21612]:في أ: إنما.