اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلسَّلَٰمُ عَلَيَّ يَوۡمَ وُلِدتُّ وَيَوۡمَ أَمُوتُ وَيَوۡمَ أُبۡعَثُ حَيّٗا} (33)

قوله تعالى : { والسلام عَلَيَّ } : الألف واللام في " السَّلام " للعهدِ ؛ لأنه قد تقدم لفظه في قوله -عزَّ وجلَّ- : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } [ الآية : 15 ] فهو كقوله :

{ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15 ، 16 ] أي : ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوجَّهٌ إليَّ ، وقال الزمخشريُّ -رحمه الله- : " والصحيحُ أن يكون هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متَّهِمِي مريم -عليها السلام- وأعدائها من اليهُود ، وتحقيقه : أنَّ اللاَّم لاستغراق الجنس ، فإذا قال : وجنسُ السَّلام عليَّ خاصَّة ، فقد عرَّض بأنَّ ضدَّه عليكم ، ونظيره قول موسى -صلوات الله عليه وسلامه- : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] .

يعني : أنَّ العذاب على من كذَّب ، وتولَّى ، وكان المقام مقام اللَّجاج والعِنَاد ، فيليق به هذا التعريضُ " .

فصل في الفرق بين السلام على يحيى ، والسلام على عيسى

رُوِيَ أن عيسى -صلواتُ الله عليه وسلامه- قال ليحيى : أنت خيرٌ منِّي ؛ سلِّم الله عليك ، وسلَّمتُ على نفسي . وأجاب الحسنُ ، فقال : إن تسليمهُ على نفسه تسليمُ الله ؛ لأنَّه إنَّما فعله بإذن الله .

قال القاضي{[21601]} : السَّلام عبارةٌ عمَّا يحصُل به الأمانُ ، ومنه السَّلامةُ في النِّعم ، وزوال الآفاتِ ، فكأنَّه سأل ربَّه ما أخبر الله تعالى أنه فعل بيحيى ، وأعظمُ احتياجِ الإنسانِ إلى السَّلامة في هذه الأحْوالِ الثلاثة ، وهي يومُ الولادةِ ، أي : السَّلامة عند الولادة من طَعْن الشَّيطان ، ويومُ الموت ، أي : عند الموت من الشَِّرك ، ويومُ البعث من الأهوال .

قال المفسِّرون : لمَّا كلَّمهم عيسى بهذا ، علمُوا براءةَ مريم ، ثم سكت عيسى -صلوات الله عليه وسلامه- ، فلَم يتكلَّم بعد ذلك حتّى بلغ المدَّة التي يتكلَّم فيها الصِّبْيَان .

قوله : { يومَ ولدتُ } منصوبٌ بما تضمنَّه " عَليَّ " من الاستقرار ، ولا يجوزُ نصبه ب " السَّلام للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولهِ ، وقرأ ويدُ بنُ{[21602]} عليٍّ " وَلَدَتْ " جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضمير مريم ، والتاءُ للتأنيث ، و " حَيَّا " حالٌ مؤكِّدةٌ .

فصل في الرد على اليهود والنصارى

اعلم أن اليهُود والنَّصارى يُنْكِرُونَ أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- تكلَّم في زمانِ الطفوليَّة ؛ واحتجُّوا بأنَّ هذا من الوقائعِ العجيبة ، التي تتوافرُ الدَّواعِي على نقلها ، فلو وجدت ، لنُقلتْ بالتَّواتر ، ولو كان كذلكَ ، لعرفهُ النَّصارى ، لا سيَّما وهم أشدُّ النَّاسِ بحثاً عن أحواله ، وأشدُّ النَّاسِ غُلُوَّا فيه ؛ حتَّى ادعوا كونهُ إلهاً ، ولا شكَّ أنَّ الكلام في الطفوليَّة من المناقب العظيمة ، فلمَّا لم يعرفه النصارى مع شدَّة الحبِّ ، وكمالِ البَحْثِ عنه ، علمنا أنَّه لم يُوجَدْ ؛ ولأنَّ اليهود أظهرُوا عداوتهُ حين ادَّعى النُّبُوَّة والرسالة ، فلو أنَّه - صلوات الله عليه- تكلَّم في المَهْدِ ، لكانت عداوتهم معه أشدَّ ، ولكان قصدهم قتله أعظم ، فحيثُ لم يحصُل شيءٌ من ذلك ، علمنا أنَّه ما تكلَّم .

وأمَّا المسلمُون ، فاحتجُّوا بالعَقْل على أنه تكلَّم ، فقالوا : لولا كلامه الذي دلَّهم على براءة أمِّه عن الزِّنا ، لما تركُوا إقامة الحدِّ عليها ، ففي تَرْكِهِمْ لذلك دلالةٌ على أنَّه- صلوات الله عليه- تكلَّم في المَهْدِ .

وأجابُوا عن الشُّبْهة الأولى بأنَّه ربَّما كان الحاضرُون عند كلامه قليلين ؛ فلذلك لم يشتهر .

وعن الثاني : لعلَّ اليهُود ما حَضَرُوا هناك ، وما سَمِعُوا كلامهُ ، وإنَّما سَمِعَ كلامهُ أقاربهُ ؛ لإظهارِ براءَة أمّه ؛ فلذلك لم يَشْتَغِلُوا بقَتْلِه .


[21601]:ينظر: الفخر الرازي 21/185.
[21602]:ينظر: البحر المحيط 6/178، الدر المصون 4/505.