الكاف في قوله تعالى : " وَكَذَلِكَ " فيها الوجهان المَشْهُوران كما تقدم ذلك غير مَرّة : إما النصب على النعت ، أو على الحال من المصدر المحذوف .
والتقدير : وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً جعلاً مثل ذلك ، ولكن المشار إليه ب " ذلك " غير مذكور فيما تقدم ، وإنما تقدم ما يدلّ عليه . واختلفوا في " ذلك " على خمسة أوجه :
أحدها : أن المشار إليه هو الهُدى المدلول عليه بقوله : { يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } .
والتقدير : جعلناكم أمة وسطاً مثل ما هديناكم .
الثاني : أنه الجعل ، والتقدير : جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجَعْل القريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية .
الثالث : قيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسّطة جعلناكم أمة وسطاً .
الرابع : قيل : المعنى كما جعلنا القِبْلة وسط الأرض جعلناكم أمة وسطاً .
الخامس - وهو أبعدها - أن المشار إليه قوله : { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } [ البقرة : 130 ] أي : مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً .
[ قال ابن الخطيب : ويحتمل عندي أن يكون التقدير : ولله المشرق والمغرب ، فهذه الجهات بعد استوائها لكونها مِلْكاً لله تعالى ، خصّ بعضها بمزيد الشرف والتكريم ، بأن جعله قبلة فضلاً منه ، وإحساناً ؛ فكذا العباد كلهم يشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة ، فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً .
وفيه وجه آخر : وهو أنه قد يذكر ضمير الشيء ، وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً ، كقوله تعالى :
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] لأن المعروف عند كل أحد أنه - سبحانه وتعالى - هو القادر على إعزاز من يشاء من خلقه ، وإذلال من يشاء ، فقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }
أي : ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً ]{[1793]} .
و " جعل " بمعنى صير ، فيتعدّى لاثنين ، فالضمير مفعول أول ، و " أمة " مفعول ثاني ووسطاً نعته .
والوَسَط بالتحريك : اسم لما بين الطرفين ، ويطلق على خيار الشيء ؛ لأن الأوساط محميَّة بالأطراف ؛ قال حَبِيبٌ : [ البسيط ] .
821 - كَانَتْ هِيَ الوَسَطَ المَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ *** بِهَا الحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتُ طَرَفَا{[1794]}
ووسط الوادي خير موضع فيه ؛ قال زُهَيْر : [ الطويل ]
822 - هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ *** إذَا نَزَلَتْ إِحْدَى البَلاَياَ بِمُفْضَلِ{[1795]}
823 - كُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعاً وَسَطَا{[1796]} ]{[1797]} *** . . .
وقال تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [ القلم : 28 ] أي أعدلهم .
[ وروى القفال عن الثورى عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وبجل وعظم وكرم " أمّة وَسَطاً " ؛ قال : " عَدْلاً {[1798]} " .
وقال عليه صلوات الله وسلام : " خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا{[1799]} " ؛ أي : أعدلها . وقيل : كان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - أوسط قريش نَسَباً .
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام : " عَلَيْكُمْ بالنَّمطِ الأَوْسَطِ{[1800]} "
قال الجوهري في الصحاح : " أمة وسطاً " أي : عدلاً ، وهو الذي قاله الأخفش ، والخليل ، وقطرب ، فالقرآن والحديث والشعر يدلون على أن الوَسَط : خيار الشيء{[1801]} ] .
أحدها : أن الوسط حقيقة في البُعْد عن الطرفين ، ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رذيلتان ، فالمتوسّط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين ، فكان معتدلاً فاضلاً .
وثانيها : إنما سمي العدل وسطاً ؛ لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين ، [ والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين ]{[1802]} .
وثالثها : أن المراد بقوله : { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } طريقة المدح لهم ؛ لأنه لا يجوز أن يذكر الله - تعالى - وصفاً ، ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم عطف على ذلك شهادة الرسول ، وذلك مدح ، فثبت أن المراد بقوله : " وَسَطاً " ما يتعلّق بالمدح في باب الدين ، ولا يجوز أن يمدح الله الشُّهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً لا بكونهم عدولاً ؛ فوجب أن يكون المراد من الوَسَط العدالة .
ورابعها : أن الأوساط محمية بالأطراف ، وحكمها مع الأطراف على حَدّ سواء ، والأطراف يتسارع إليها الخَلَل والفساد ، والوسط عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جِهَةٍ دون جهة .
وقال بعضهم : تفسير الوسط بأنه خيار الشيء [ أوْلى من تفسيره بالعدالة ؛ لأن العدالة لا تطلق على الجمادات ، فكان أَوْلَى ، والمراد من الآية : أنهم لم يغلوا ؛ كما غلت النصارى ، فجعلوه ابناً وإلهاً ، ولا قصَّروا ؛ كتقصير اليهود في قتل الأنبياء ، وتبديل الكُتُبِ وغير ذلك{[1803]} ] . وفرق بَعْضهم بين " وَسَط " بالفتح و " وَسْط " بالتسكين .
فقال : كلُّ موضع صَلَحَ فيه لفظ " بَيْن " يقال بالسكون ، وإلا فبالتحريك .
فتقول : جلست وَسْطَ القومِ ، بالسكون .
وقال الراغب : وسط الشيء ما له طرفان متساويان القَدْر ، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد ، فتقول : وسطه صلب ، ووسْط بالسكون يقال في الكميّة المنفصلة ؛ كشيء يفصل بين جسمين نحو : " وَسْط القوم " كذا .
وتحرير القول فيه هو أن المفتوح في الأصل مَصْدَرٌ ، ولذلك استوى في الوصف به الواحدُ وغيره ، والمؤنَّث والمذكَّر ، والسَّاكن ظَرْفٌ ، والغالب فيه عدم التصرُّف ، وقد جاء متمكِّناً في قول الفرزدق : [ الطويل ] .
824 - أَتَتْهُ بِمَجْلُومٍ كَأَنَّ جَبِينَهُ *** صَلاَءَةُ وَرْسٍ وَسْطُهَا قَدْ تَفَلَّقَا{[1804]}
روي برفع الطَّاء ، والضمير ل " صلاءة " ، وبفتحها والضمير للجائية .
فصل في الاستدلال بالآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى
احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ؛ لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيرتيهم بجعل الله وخلقه ، وهذا صريح في المذهب .
وقالت المعتزلة : المراد من هذا الجعل فعل الألطاف .
الأول : أن هذا ترك للظاهر ، وذلك محال لا يصار إليه إلا عند عدم إمكان حمل الآية على ظاهرها ، أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسّك بفصل المَدْح والذم والثواب والعقاب ، وقد بيّنا أن هذه الطريقة منتقضةٌ على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي .
والثاني : أنه تعالى - قال قبل هذه الآية { يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 142 ] .
وقد بيّنا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه - تعالى - يخص البعض بالهداية دون البعض ، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منها مؤكدة لمضمون الأخرى .
والثالث : أن كلّ ما في مقدور الله - تعالى - من الألطاف في حقّ الكل فقد فعله ، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة .
والرابع : أن الله - تعالى - ذكر ذلك في معرض الامْتِنَان .
فصل في الاستدلال بالآية على أن الإجماع حجّة{[1805]}
احتج الجمهور بهذه الآية على أن الإجماع حجة فقالوا : أخبر الله - تعالى - عن عدالة هذه الأمة ، وعن خيريتهم ، فلو أقدموا على شيء من المَحْظُورات لما اتّصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المَحْظُورات وجب أن يكون قولهم حجّة ، فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتِّصَاف كل واحد منهم بها ، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة ، فلا بد من حملها على البعض ، فنحن نحملها على الأئمة المعصومين .
فالجواب : أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره ، والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين :
الأول : أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات ، واجتناب المحرمات ، وهذا من فعل العبد ، وقد أخبر الله - تعالى - أنه جعلهم وسطاً ، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً ، وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال .
الثاني : أن الوَسَط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين ، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك ، وهو خلاف الأصل .
سلّمنا اتصافهم بالخيرية ، وذلك لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط ، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجتمعوا عليه وإن كان خطأ ، لكنه من الصَّغائر ، فلا يقدح ذلك في خيريتهم ، ومما يؤكّد ذلك الاحتمال أنه - تعالى - حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس ، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة .
سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ، ولكن الله - تعالى - بيّن وصفهم بذلك لكونهم شهداء على النَّاس ، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة ، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك ، لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمُّل ، وذلك لا نزاع فيه ؛ لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة .
فلم قلت : إنهم في الدنيا كذلك ؟
سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا ، لكن المخاطبين بهذا الخطاب [ هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية ، لأن الخطاب ]{[1806]} مع مَنْ لم يوجد مُحَال ، وإذا كان كذلك ، فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت لا عدالة غيرهم ، فدلّت الآية على أن إجماع [ أولئك ]{[1807]} حق ، فيجب ألاَّ نتمسّك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه .
لكن ذلك لا يمكن [ إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم ، وعلمنا بقاء كل واحد ]{[1808]}منهم إلى ما بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ، ولما كان ذلك كالمتعذّر امتنع التمسّك بالإجماع .
والجواب عن قولهم : الآية متروكة الظاهر .
قلنا : لا نُسلّم فإن قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } يقتضي أنه - تعالى - جعل كلّ واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة .
وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه ، فإنّ كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر ، بل إذا اختلفوا ، فعند ذلك قد يفعلون القبيح ، وإنما قلنا : إن هذا الخطاب معهم حال الاجتماع ، لأن قوله : " جَعَلْنَاكُمْ " خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده ، على أنا وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد فيهم عدلاً ، لكنا نقول ترك العمل به في حقّ البعض لدليل قام عليه ، فوجب أن يبقى معمولاً به في حقّ الباقي ، وهذا معنى ما قاله العلماء : ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك ، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة ، فإذا كُنَّا لا نعلمهم بأعيانهم افتقرنا إلى إجماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم .
مثاله : أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - إذا قال : إن واحداً من أولاد فلان لا بد وأن يكون مصيباً في الرأي ، فإذا لم نعلمه بعينه ، ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقّاً ؛ لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق .
فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقّاً ، لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد المخالف .
ولهذا قال العلماء : إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة [ بقول المخطئ .
قوله : لو كان المراد من كونهم وسطاً هو عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى .
قلنا : هذا مذهبنا . فإن قيل{[1809]} ] قولهم : لم قلتم : إن إخبار الله - تعالى - عن عَدَالتهم وخيريّتهم اجتنابهم عن الصغائر ؟
قلنا : خبر الله - تعالى - صدق ، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه ، وفعل الصغيرة ليس بخبر ، فالجمع بينهما متناقض .
ولقائل أن يقول : الإخبار عن الشَّخْص بأنه خير أهم من [ الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور ، أو في بعض الأمور ، ولذلك فإنه يصحّ تقسيمه إلى ]{[1810]} هذين القسمين ، فيقال : الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض ، أو في كل الأمور ، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين ، فمن كان خيراً من بعض الوجود دون البعض يصدق عليه أنه خير ، فإذن إخبار الله - تعالى - عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره - تعالى - عن خيريتهم في كل الأمور ، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر ، [ وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلاَّ أن هذا السؤال وارد عليهم ، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }{[1811]} خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها ، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الآية ، ومن جاء بعدهم إلى [ قيام الساعة ]{[1812]} ، كما أن قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } [ البقرة : 178 ] ، { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة : 183 ] يتناول الكل ، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت ، [ وكذلك سائر تكاليف الله - تعالى - وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة{[1813]} ] فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة ، فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة ، فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجّة على من بعدهم ؟
قلنا : لأنه - تعالى - لما جعلهم شهداء على الناس ، فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة ، إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه .
فعلمنا أن المراد به أهل كلّ عصر ، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة ، فإن الأمة الجماعة التي تؤمّ جهة واحدة ، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ، ولأنه - تعالى - قال : " أُمَّةً وَسَطاً " فعبر عنهم بلفظ النكرة ، ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر .
[ قال النووي - رحمه الله تعالى - في " التهذيب " : الأُمّة تطلق على معانٍ :
منها من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن بما جاءه ، واتبعه فيه ، وهذا هو الذي جاء مَدْحه في الكتاب والسُّنة كقوله تعالى : { كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } و { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }
وقوله صلوات الله وسلام عليه : " شَفَاعَتِي لأُمَّتِي " و " تَأْتِي أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ " وغير ذلك .
ومنها من بعث إليهم النبي - صلوات الله وسلامه عليه - من مسلم وكافر .
ومنه قوله عليه أفضل الصلاة والسلام : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ لاَ يَسْمَعُ بي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثم يموت وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلَتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ{[1814]} " رواه مسلم .
ويأتي باقي الكلام عن الأمة في آخر " النحل " إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] إلى قوله : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً }{[1815]} [ البقرة : 213 ] .
فصل في الكلام على قوله : لتكونوا
قوله تعالى : " لِتَكُونُوا " يجوز في هذه اللام وجهانِ :
أحدهما : أن تكون لام " كي " فتفيد العلة .
والثاني : أن تكون لام الصيرورة ، وعلى كلا التقديرين فهي حرف جر ، وبعدها " أن " مضمرة ، وهي وما بعدها في محلّ جر ، وأتى ب " شهداء " جمع " شهيد " الذي يدلّ على المبالغة دون شاهدين وشهود جمعي " شاهد " .
أحدهما : أنها على بابها ، وهو الظاهر .
والثاني : أنها بمعنى " اللام " ، بمعنى : أنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي والدين ، كما نقله الرسول - عليه السلام - وكذلك القولان في " على " الأخيرة ، بمعنى أن الشهادة لمعنى التزكية منه - عليه السلام - لهم .
وإنما قدم متعلّق الشهادة آخراً ، وقدم أولاً لوجهين :
أحدهما : وهو ما ذكره الزمخشري أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم .
والثاني : أن " شهيداً " أشبه بالفَوَاصل والمقاطع من " عليكم " ، فكان قوله " شهيداً " تمام الجملة ، ومقطعها دون " عليكم " ، وهذا الوجه قاله الشيخ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المعفول يشعر بالاختصاص ، وقد تقدم ذلك .
اختلفوا في هذه الشهادة هل هي في الدنيا أو في الآخرة ؟ فالقائل بأنها في الآخرة وهم الأكثرون لهم وجهان :
الأول : أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أُمَمِهِمْ الذين يكذبونهم .
روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيطالب الله - تعالى - الأنبياء بالبّينة على أنهم قد بلّغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشهدون فتقول الأمم : من أين عرفتم فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه النَّاطق على لسان نبيه الصَّادق ، فيؤتى بمحمد - عليه الصلاة والسلام - فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله :{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وقد طعن القاضي رحمه الله تعالى في هذه الرواية من وجوه :
أحدها : أن مَدَار هذه الرواية على أن الأمم يكذبون أنبياءهم ، وهذا بناء على أن أهل القيامة يكذبون .
وهذا باطل عند القاضي ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في سورة " الأنعام " عند قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ }
وثانيها : أن شهادة الأمة ، وشهادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - مستندةٌ في الآخرة إلى شهادة الله - تعالى - على صدق الأنبياء ، وإذا كان كذلك ، فَلِمَ لم يشهد الله - تعالى - لهم بذلك ابتداء ؟
والجواب : الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - في الفضل عن سائر الأمم بالمبَادرة إلى تصديق الله - تعالى - وتصديق جميع الأنبياء ، والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعَدْل بالنسبة إلى الفاسق .
وثالثها : أن مثل هذه الأخبار لا تسمّى شهادة ، وهذا ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْس فاشْهَدْ " والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس ، فوجب جواز الشَّهَادة عليه .
والثاني : قالوا معنى الآية : لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحقّ فيها ، قال ابن زيد رحمه الله تعالى : الأشهاد الأربعة : الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد ، قال تعالى : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] .
وقال : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وقال :
{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }
وثانيها : شهادة الأنبياء ، وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عليه الصلاة والسلام : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
وقال تعالى في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .
وقال في حق - محمد صلى الله عليه وسلم :
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] .
وثالثها : شهادة أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - قال تعالى :
{ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ } [ الزمر : 69 ] .
وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] .
ورابعها : شهادة الجَوَارح ، وهي بمنزلة الإقرار ، بل أعجب منه .
قال تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ } [ النور : 24 ] . الآية ، وقال :
{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ } [ يس : 65 ] الآية .
القول الثاني : أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا ، وتقديره أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال : شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته .
ولما كان بين الإبصار بالعَيْن وبين المعرفة بالقَلْب مناسبة شديدة ، لا جَرَمَ قد تسمى المعرفة التي في القلب : مشاهدة وشهوداً ، والعارف بالشيء : شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلائل على الشيء : شاهداً على الشيء ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً ، ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً ، ثم اختصّ هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة . إذا ثبت هذا فنقول : إن كلّ من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه ، والله سبحانه وتعالى وصف هذه الأمة بالشهادة ، فهذه الشهادة : إما أن تكون في الآخرة ، أو في الدنيا ، ولا جائز أن تكون في الآخرة ؛ لأن الله - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء ، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا .
وإنما قلنا : إنه - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا ؛ لأنه - تعالى - [ قال : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسطاً " وهذا إخبار عن الماضي ، فلا أقل من حصوله في الحال ، وإنما قلنا إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا ؛ لأنه تعالى{[1816]} ] قال : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ " رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط ، فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا [ وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا ]{[1817]} .
فإن قيل : تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً ، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة .
قلنا : الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل ، بدليل أنه - تعالى - اعتبر العدالة في هذه الشهادة ، والشهادة التي يعتبر فيها العدالة ، هي الأداء لا التحمّل ، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدّين للشهادة في الدنيا ، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجّة ، ولا معنى لقولنا : الإجماع حجة إلا هذا ، فثبت أن الآية تدلّ على أن الإجماع حجّة [ من هذا الوجه أيضاً ]{[1818]} .
واعلم أن هذا الدليل لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } يعني مؤدياً ومبيناً ، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشَّهادة في الآخرة ، فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمّل ، لأنهم إذا أثبتوا الحقّ عرفوا عنده من [ القابل ومن الراد ]{[1819]} ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة [ على أن الشَّاهد على العقود يعرف الذي تم ، والذي لم يتم ، ثم يشهدون بذلك عند الحاكم .
قال القرطبي رحمه الله : معنى قوله تعالى : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } أي : بأعمالكم يوم القيامة .
وقيل : " عليكم " بمعنى لكم أي : يشهد لكم بالإيمان .
وقيل : يشهد عليكم بالتبليغ لكم ]{[1820]} .
وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ . . . } في هذه الآية خمسة أوجه :
أحدها : أن " القبلة " مفعول أول ، و " التي كنت عليها " مفعول ثان ، فإن الجعل بمعنى التصيير ، وهذا ما جزم به الزّمخشري فإنه قال : { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعوليْ جعل ، يريد : وما جعلنا القِبْلَةَ الجهة التي كنت عليها ، وهي الكَعْبَة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ب " مكة " إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس ، ثم حول إلى الكعبة .
الثاني : أن " القِبْلَة " هي المفعول الثاني ، وإنما قدم ، و " التي كنت عليها " هو الأول ، وهذا ما اختاره الشيخ محتجّاً له بأن التصيير هو الانتقال من حَالٍ إلى حَالٍ ، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني ، ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفاً ، وجعلت الجاهل عالماً ، والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا القِبْلَة الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً ، ثم صرفت عنها إلى " بيت المقدس " قبلتك الآن إلا لنعلم .
ونسب الزمخشري في جعله " القِبْلَة " مفعولاً أول إلى الوهم .
الثالث : أن " القِبْلَة " مفعول أول ، و " التي كنت " صفتها ، والمفعول الثَّاني محذوف تقديره : وما جعلنا القِبْلة التي كنت عليها منسوخة .
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قدره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة ، ولا طائل تحته .
الرابع : أن " القبلة " مفعول أول ، و " إلاَّ لنعلم " هو المفعول الثَّاني ، وذلك على حذف مضاف تقديره : وما جعلنا صرف القِبْلَة التي كنت عليها إلا لنعلم ، نحو قولك : ضرب زيد للتأديب ، أي : كائن ، أو ثابت للتأديب .
الخامس : أن " القبلة " مفعول أول ، والثاني محذوف ، و { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } صفة لذلك المحذوف ، والتقدير : وما جعلنا القِبْلة القبلة التي ، ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيف .
أحدهما : أنها زائدة ، ويروى عن ابن عباس أي : أنت عليها ، وهذا منه تفسير معنى لا إعراب ، وهو كقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] والقبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل نحو : الجِلْسَة ، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة .
وقال قطرب رحمه الله تعالى : يقولون : ليس له قِبْلَة أي جهة يتوجه إليها .
وقال غيره : إذا تقابل رجلان فكلّ واحد قبلة للآخر .
الأول : أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل الكعبة قِبْلة ، وذلك لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلّي إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى " بيت المقدس " بعد الهجرة تأليفاً لليهود ، ثم حول إلى الكعبة فقال : { وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ } الجهة { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } أولاً يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس .
الثاني : يجوز أن يكون قوله : { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وأن استقبالك " بيت المقدس " كان أمراً عارضاً لغرض ، وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا ، وهي " بيت المقدس " لنمتحن الناس ، وننظر من يتبع الرسول ، ومن لا يتبعه وينفر عنه .
وذكر أبو مسلم وجهاً ثالثاً فقال : لولا الروايات لم تدلّ الآية على قبلة من قبل الرسول - عليه الصلاة والسلام - لأنه قد يقال : كنت بمعنى : صرت ، كقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } وقد يقال : كان في معنى لم يزل كقوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 158 ] فلا يمتنع أن يراد بقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } أي : التي لم تزل عليها ، وهي الكعبة إلاَّ كذا وكذا .
قوله : " إلاَّ لِنَعْلَمَ " قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولاً ثانياً .
وأما على غيره فهو استثناء مفرّغ من المفعول العام ، أي : ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلاَّ لكذا . وقوله : " لِنَعْلَمَ " ليس على ظاهره ، فإن علمه قديم ، ونظره في الإشكال قوله :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ } [ محمد : 31 ] .
وقوله : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } [ الأنفال : 66 ] ، وقوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 42 ] ، وقوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ } [ العنكبوت : 3 ] .
وقوله : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ }
[ سبأ : 21 ] ، فلا بد من التأويل وهو من أوجه :
أحدها : لتمييز التابع من النَّاكص إطلاقاً للسبب ، وإرادة للمسبّب .
وقيل : على حذف مضاف أي : لنعلم رسولنا فحذف ، كما يقول الملك : فتحنا البَلْدة الفلانية بمعنى : فتحها أولياؤنا .
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه : " اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي يقول : وادهراه وأنا الدهر "
وفي الحديث : " مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّا فَقَدْ أَهَانَنِي "
قال القرطبي رحمه الله : وهذا قول ابن أبي طالب وقول العرب ، تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم ، كقوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } [ الفيل : 1 ] بمعنى ألم تعلم ، وعلمت ، وشهدت ، ورأيت ، ألفاظ تتعاقب .
وقيل : حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ، معناه : لتعلموا .
والغرض من هذا الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله :
{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى } [ سبأ : 24 ] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب ، ورفقاً بالمخاطب .
وقيل : يعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم .
وقيل : العلم صلة زائدة معناه إلاَّ ليحصل اتباع المتبعين ، وانقلاب المنقلبين .
ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني ، والمعنى : أنه لو كان لعلمه الله .
قوله : { مَنْ يَتَّبع } في " من " وجهان :
أحدهما : أنها موصولة ، و " يتبع " صلتها ، والموصول وصلته في محلّ المفعول ل " نعلم " ؛ لأنه يتعدّى إلى واحد .
والثاني : أنها استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، و " يتبع " خبره ، والجملة في محلّ نصب ؛ لأنها معلقة للعلم ، والعلم على بابه ، وإليه نحا الزَّمخشري في أحد قوليه .
وقد رد أبو البقاء هذا الوجه ، فقال : لأن ذلك يوجب تعلّق " نعلم " عن العمل ، وإذا علقت عنه لم يبق ل " من " ما تتعلّق به ، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله ، ولا يصحّ تعلقها ب " يتبع " ؛ لأنها في المعنى متعلّقة بلا علامة ، وليس المعنى : أي فريق يتبع ممن ينقلب انتهى .
وهو رد واضح إذ ليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على أن يتعلق " مِمَّنْ يَنْقَلِبُ " ب " نعلم " نحو : علمت من أحسن إليك مِمّن أساء ، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز ، فإن العلم لا يتعدى ب " من " إلا إذا أريد به التمييز .
وقرأ الزهري : " إلاَّ لِيُعْلم " على البناء للمفعول ، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل ، فإنا لا نقدر ذلك الفاعل غير الله تعالى .
قوله : " عَلَى عَقِبَيْهِ " في محلّ نصب على الحال ، أي ينقلب مرتدّاً راجعاً على عقبيه ، وهذا مجاز ، [ ووجه الاستعارة أن : المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلما تركوا الإيمان والدلائل بمنزلة المدبر عما بين يديه ، فوصفوا بذلك لما قال تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } [ المدثر : 23 ] وقوله تعالى : { كَذَّبَ وَتَوَلَّى }{[1821]} [ طه : 48 ] .
وقرئ " عَلَى عَقْبَيْهِ " بسكون القاف ، وهي لغة " تميم " .
اختلفوا في هذه المحنة ، هل حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها ؟ فقال بعضهم : إنما حصلت بسبب تعيين القبلة ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلّي إلى الكعبة ، فلما جاء " المدينة " صلى إلى " بيت المقدس " ، فشق ذلك على العرب لترك قبلتهم .
قال القرطبي رحمه الله : والآية جواب لقريش في قولهم :
{ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] وكانت قريش تألف الكعبة ، فأراد الله - عز وجل - أن يمتحنهم بغير ما ألفوه .
وقال الأكثرون : حصلت بسبب التحويل قالوا : إن محمداً صلى الله عليه وسلم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه .
روى القَفَّال عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلموا ، فقالوا : مرة ههنا ومرة ههنا{[1822]} .
وقال السدي رحمه الله تعالى : لما توجه النبي - عليه الصلاة والسلام - نحو المسجد الحرام واختلف الناس ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها ؟
وقال المسلمون : ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس .
وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده .
وقال المشركون : تحيّر في دينه{[1823]} .
قال ابن الخطيب : وهذا القول أولى ؛ لأن الشبهة في أمر النَّسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة [ وقد وصفها الله - تعالى - بالكبر فقال عز وجل : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فكان حمله عليه أولى ]{[1824]} .
قوله : " وإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً " " إنْ " هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر ، وهو أغلب أحوالها ، و " اللام " للفرق بينها وبين " إن " النافية ، وهل هي لام الابتداء ، أو لام أخرى أتى بها للفرق ؟ خلاف مشهور{[1825]} .
وزعم الكوفيون أنها بمعنى " ما " النافية ، وأن " اللام " بمعنى " إلا " ، والمعنى : ما كانت إلا كبيرة ، نقل ذلك عنهم أبو البقاء رحمه الله [ وفيه نظر . واعلم أن " إن " المكسورة الخفيفة تكون على أربعة أوجه :
جزاء ، وهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى ، فالمستلزم هو الشرط ، واللازم هو الجزاء ، كقولك : إن جئتني أكرمتك .
ومخففة من الثقيلة ، وهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة المشددة ، كقولك : إن زيداً لقائم ، قال تعالى : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ، { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] .
وللجحد ، لقوله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } [ الأنعام : 57 ]
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } [ الأنعام : 148 ]
{ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا } [ فاطر : 41 ] . أي : ما يمسكهما . وزائدة كقوله : ما إن رأيت زيداً ]{[1826]} ، والقراءة المشهورة نصب " كبيرة " على خبر " كان " ، واسم كان مضمر فيها يعود على التولية ، أو الصلاة ، أو القبلة المدلول عليها بسياق الكلام .
وقرأ اليزيدي{[1827]} عن أبي عمرو : برفعها .
أحدهما - وذكره الزمخشري - : أن " كان " زائدة ، وفي زيادتها عاملةً نظر لا يخفى ؛ وقد استدلّ الزمخشري على ذلك بقوله : [ الوافر ] .
825 - فَكَيْفَ إذَا مَرَرْتَ بِدَارِ قَوْمٍ*** وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ{[1828]}
فإن قوله : " كرام " صفة ل " جيران " ، وزاد بينهما " كانوا " ، وهي رافعة للضمير ، ومن منع ذلك تأول " لنا " خبراً مقدماً ، وجملة الكون صفة ل " جيران " .
والثاني : أن " كان " غير زائدة ، بل يكون " كبيرة " خبراً لمبتدأ محذوف ، والتقدير : وإن كانت لهي كبيرة ، وتكون هذه الجملة في محلّ نصب خبراً لكانت ، ودخلت لام الفرق على الجملة الواقعة خبراً ، وهو توجيه ضعيفٌ ، ولكن لا توجه هذه القراءة الشَّاذة بأكثر من ذلك .
[ والضمير في " كانت " فيه وجهان :
الأول : أنه يعود على القبلة ؛ لأن المذكور السابق هو القبلة .
والثاني : يعود إلى ما دلّ عليه الكلام السّابق ، وهو مفارقة القبلة ، والتأنيث للتولية أي : وإن كانت التولية ؛ لأن قوله تعالى : " ما ولاهم " يدل على القولية ، ويحتمل أن يكون المعنى : وإن كانت هذه الفعلة نظيره " فبها ونعمت " .
ومعنى " كبيرة " ثقيلة شاقّة مُسْتنكرة .
وقوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [ الكهف : 5 ]{[1829]} .
قوله : " إلاَّ عَلَى الَّذِينَ " متعلق ب " كبيرة " ، وهو استثناء مفرغ .
فإن قيل : لم يتقدم هنا نفي ولا شبهة ، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك .
فالجواب : أن الكلام وإن كان موجباً لفظاً فإنه في معنى النفي ؛ إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين ، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] .
وقال أبو حيان : [ هو استثناء من مستثنى محذوف تقديره : وإن كانت لكبيرة على النّاس إلا على الذين ]{[1830]} وليس استثناء مفرغاً ؛ لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبهة ، وقد تقدم جواب ذلك [ واستدل الأصحاب رحمهم الله - تعالى - بهذه الآية على خلق الأعمال ]{[1831]} .
قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ } في هذا التركيب وما أشبهه [ مما ورد في القرآن وغيره ] نحو : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ }
[ آل عمران : 179 ] ، { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ } [ آل عمران : 179 ] قولان :
أحدهما : قول البصريين ؛ وهو أن خبر " كان " محذوف ، وهذه اللام تسمى لام الجُحود ينتصب الفعل بعدها بإضمار " أن " وجوباً ، فينسبك منها ومن الفعل مصدر منجرّ بهذه " اللام " ، وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف .
والتقدير : وما كان الله مريداً لإضاعة أعمالكم ، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي .
[ واشترط بعضهم مع ذلك أن يكون كوناً ماضياً ، ويفرق بينها وبين " لام " ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون مَنْفي ]{[1832]} ، ويدلّ على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله : [ الوافر ] .
826 - سَمَوْتَ وَلَمْ تَكْنْ أَهْلاً لِتَسْمُو*** . . . {[1833]}
والقول الثاني للكوفيين : وهو أن " اللام " وما بعدها في محلّ الجر ، ولا يقدرون شيئاً محذوفاً ، ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار " أن " ، وأن " اللام " للتأكيد ، وقد رد عليهم أبو البقاء فقال : وهو بعيد ، لأن " اللام " لام الجر ، و " أن " بعدها مرادة ، فيصير التقدير على قولهم : وما كان لله إضاعة إيمانكم ، وهذا الرد غير لازم لهم ، فإنهم لم يقولوا بإضمار " أن " بعد اللام كما قدمت نقله عنهم ، بل يزعمون النصب بها ، وأنها زائدة للتأكيد ولكن للرد عليهم موضع غير هذا .
واعلم أن قولك : " ما كان زيد ليقوم " ب " لام " الجحود أبلغ من : " ما كان زيد يقوم " .
أما على مذهب البصريين فواضح ، وذلك أن مع " لام " الجحود نفي الإرادة للقيام والتَّهيئة ، ودونها نفي للقيام فقط ، ونفي التَّهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ؛ إذ لا يلزم من نفي الفِعْلِ نفي إرادته .
وأما على مذهب الكوفيين فلأن " اللام " عندهم للتوكيد ، والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد .
وقرأ الضحاك{[1834]} : " لِيُضَيِّعَ " بالتشديد ، وذلك أن : أَضَاعَ وَضيَّعَ بالهمزة ، والتضعيف للنقل من " ضاع " القاصر ، يقال : ضَاعَ الشيء يَضيعُ ، وأَضَعْتُه أي : أهملته ، فلم أحفظه .
وأما ضَاعَ المِسْكُ يَضُوعُ أي : فاح ، فمادة أخرى .
فصل في مناسبة اتّصال هذه الآية بما قبلها
وجه اتصال هذه الآية الكريمة بما قبلها أن رجالاً من المسلمين كأبي أمامة ، وسعد ابن زُرَارة ، والبراء بن عازب ، والبراء بن مَعْرُور ، وغيرهم ماتوا على القبلة .
قال عشائرهم : يا رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى ، فكيف حالهم ؟
فأنزل الله - تعالى - هذه الآية{[1835]} .
[ واعلم أنه لا بد من هذا السبب ، وإلا لم يتّصل بعض الكلام ببعض ، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوّزوا النسخ إلا مع البَدَاء يقولون : إنه لمّا تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة ]{[1836]} فبين أن النسخ نقل من مَصْلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن القائم به متمسّك بالدين ، وأن من هذا حاله ، فإنه لا يضيع أجره .
ونظيره : ما سألوا بعد تحريم الخَمْر عمن مات ، وكان يشربها ، فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ }
[ المائدة : 93 ] فعرفهم الله - تعالى - أنه لا جُنَاحَ عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى
فإن قيل : إذا كان الشك إنما تولّد من تجويز البَدَاء على الله - تعالى - فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟
أحدها : أن ذلك الشّك وقع لمنافق ، فذكر الله - تعالى - ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق .
وثانيها : لعلهم اعتقدوا أن الصَّلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا : ليت إخواننا ممن مات أدرك ، فذكر الله - تعالى - هذا الكلام جواباً عن ذلك .
وثالثها : لعله - تعالى - ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك السؤال لو خَطَر ببالهم .
ورابعها : لعلهم توهموا أن ذلك لما نُسِخَ وبطل ، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كَفّارة لما سلف ، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل ، فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ، ولم يأتوا بما يكفر ما سلف ؛ قال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ، والمراد : أهل ملّتكم ، كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً }
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } [ البقرة : 50 ] ، ويجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً ، فإنهم أشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم ، وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين ، فقيل : إيمانكم للأحياء والأموات ، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب ، فيقولوا : كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم .
وقال أبو مسلم : يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب ، والمراد بالإيمان صلاتهم ، وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ .
وإنما اختار أبو مسلم هذا القول ، لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا .
قال القرطبي : " وسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نيّة وقول وعمل " .
استدلت المعتزلة بقوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات ، فإنه - تعالى - أراد بالإيمان ها هنا الصلاة .
والجواب : لا نسلم أن المراد من الإيمان هنا الصلاة ، بل المراد منه التَّصديق ، والإقرار ، فكأنه - تعالى - قال : إنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة .
سلمنا أن المراد من الإيمان هاهنا الصلاة ، ولكن الصلاة أعظم الإيمان ، وأشرف نتائجه وفوائده ، فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاسْتِعَارة من هذه الجهة .
قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : لا يضيع ثواب إيمانكم ؛ لأن الإيمان قد انقضى وفني ، وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته ، إلاّ أنَّ استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه ، فصح حفظه وإضاعته ، وهو كقوله تعالى :{ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ }
[ آل عمران : 195 ] . قوله : { لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
قرأ أبو عمرو{[1837]} ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : " لَرَؤُفٌ " على وزن : " نَدُس " و " رَعُف " مهموزاً غير مُشْبَع ، وهي لغة فاشيةٌ ، كقوله : [ الوافر ] .
827 - وَشَرُّ الظَّالِمين فَلا َتَكُنْهُ*** يُقَاتِلُ عَمَّهُ الرَّؤُفَ الرَّحِيمَا{[1838]}
828 - يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقًّا*** كَحَقِّ الوَالِدِ الرِّؤُفِ الرَّحِيمِ{[1839]}
وقرأ الباقون : " لرؤوفٌ " مثقلاً مهموزاً مشبعاً على زنة " شكور " .
وقرأ أبو جعفر{[1840]} " لروف " من غير هَمْزٍ ، وهذا دأبه في كل همزة ساكنة أو متحركة .
و " الرأفة " : أشد الرحمة ، فهي أخص منها ، [ وقيل بينهما عموم وخصوص ، فلا ترى فيه أكمل من الرحمة بالكيفية ، والرحمة اتصال النعمة برقة يكون معها إيلام كقطع العضو المتآكل وشرب الدواء ]{[1841]} .
وفي " رءوف " لغتان أخريان لم تصل إلينا بهما قراءة وهما : " رئِف " على وزن " فَخِذ " ، و " رأف " على وزن " ضَعْف " .
وإنم قدم على " رحيم " لأجل الفواصل ، والله أعلم .
فصل فيمن استدل بالآية على أن الله تعالى لا يخلق الكفر
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا : لأنه - تعالى- بين أنه بالنَّاس لرءوف رحيم ، فوجب أن يكون رءوفاً رحيماً بهم ، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكُفْر الذي يجرّهم إلى العقاب الدائم ، والعذاب السَّرمَدِي ، ولو لم يُكَلّفهم ما لا يُطِيقون ، فإنه - تعالى- لَوْ كان مع مثل هذا الإضرار رءوفاً رحيماً ، فعلى أيّ طريقٍ يتصور ألاَّ يكون رَءُوفاً رَحيماً .
واعلم أنَّ الكلامَ عليه قد تَقَدَّم مِرَاراً ، والله أعلمُ .