اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

الكاف في قوله تعالى : " وَكَذَلِكَ " فيها الوجهان المَشْهُوران كما تقدم ذلك غير مَرّة : إما النصب على النعت ، أو على الحال من المصدر المحذوف .

والتقدير : وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً جعلاً مثل ذلك ، ولكن المشار إليه ب " ذلك " غير مذكور فيما تقدم ، وإنما تقدم ما يدلّ عليه . واختلفوا في " ذلك " على خمسة أوجه :

أحدها : أن المشار إليه هو الهُدى المدلول عليه بقوله : { يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } .

والتقدير : جعلناكم أمة وسطاً مثل ما هديناكم .

الثاني : أنه الجعل ، والتقدير : جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجَعْل القريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية .

الثالث : قيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسّطة جعلناكم أمة وسطاً .

الرابع : قيل : المعنى كما جعلنا القِبْلة وسط الأرض جعلناكم أمة وسطاً .

الخامس - وهو أبعدها - أن المشار إليه قوله : { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } [ البقرة : 130 ] أي : مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً .

[ قال ابن الخطيب : ويحتمل عندي أن يكون التقدير : ولله المشرق والمغرب ، فهذه الجهات بعد استوائها لكونها مِلْكاً لله تعالى ، خصّ بعضها بمزيد الشرف والتكريم ، بأن جعله قبلة فضلاً منه ، وإحساناً ؛ فكذا العباد كلهم يشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة ، فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً .

وفيه وجه آخر : وهو أنه قد يذكر ضمير الشيء ، وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً ، كقوله تعالى :

{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] لأن المعروف عند كل أحد أنه - سبحانه وتعالى - هو القادر على إعزاز من يشاء من خلقه ، وإذلال من يشاء ، فقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }

أي : ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً ]{[1793]} .

و " جعل " بمعنى صير ، فيتعدّى لاثنين ، فالضمير مفعول أول ، و " أمة " مفعول ثاني ووسطاً نعته .

والوَسَط بالتحريك : اسم لما بين الطرفين ، ويطلق على خيار الشيء ؛ لأن الأوساط محميَّة بالأطراف ؛ قال حَبِيبٌ : [ البسيط ] .

821 - كَانَتْ هِيَ الوَسَطَ المَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ *** بِهَا الحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتُ طَرَفَا{[1794]}

ووسط الوادي خير موضع فيه ؛ قال زُهَيْر : [ الطويل ]

822 - هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ *** إذَا نَزَلَتْ إِحْدَى البَلاَياَ بِمُفْضَلِ{[1795]}

[ وقال آخر : [ الراجز ] .

823 - كُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعاً وَسَطَا{[1796]} ]{[1797]} *** . . .

وقال تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [ القلم : 28 ] أي أعدلهم .

[ وروى القفال عن الثورى عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وبجل وعظم وكرم " أمّة وَسَطاً " ؛ قال : " عَدْلاً {[1798]} " .

وقال عليه صلوات الله وسلام : " خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا{[1799]} " ؛ أي : أعدلها . وقيل : كان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - أوسط قريش نَسَباً .

وقال عليه أفضل الصلاة والسلام : " عَلَيْكُمْ بالنَّمطِ الأَوْسَطِ{[1800]} "

قال الجوهري في الصحاح : " أمة وسطاً " أي : عدلاً ، وهو الذي قاله الأخفش ، والخليل ، وقطرب ، فالقرآن والحديث والشعر يدلون على أن الوَسَط : خيار الشيء{[1801]} ] .

وأما المعنى فمن وجوه .

أحدها : أن الوسط حقيقة في البُعْد عن الطرفين ، ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رذيلتان ، فالمتوسّط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين ، فكان معتدلاً فاضلاً .

وثانيها : إنما سمي العدل وسطاً ؛ لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين ، [ والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين ]{[1802]} .

وثالثها : أن المراد بقوله : { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } طريقة المدح لهم ؛ لأنه لا يجوز أن يذكر الله - تعالى - وصفاً ، ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم عطف على ذلك شهادة الرسول ، وذلك مدح ، فثبت أن المراد بقوله : " وَسَطاً " ما يتعلّق بالمدح في باب الدين ، ولا يجوز أن يمدح الله الشُّهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً لا بكونهم عدولاً ؛ فوجب أن يكون المراد من الوَسَط العدالة .

ورابعها : أن الأوساط محمية بالأطراف ، وحكمها مع الأطراف على حَدّ سواء ، والأطراف يتسارع إليها الخَلَل والفساد ، والوسط عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جِهَةٍ دون جهة .

وقال بعضهم : تفسير الوسط بأنه خيار الشيء [ أوْلى من تفسيره بالعدالة ؛ لأن العدالة لا تطلق على الجمادات ، فكان أَوْلَى ، والمراد من الآية : أنهم لم يغلوا ؛ كما غلت النصارى ، فجعلوه ابناً وإلهاً ، ولا قصَّروا ؛ كتقصير اليهود في قتل الأنبياء ، وتبديل الكُتُبِ وغير ذلك{[1803]} ] . وفرق بَعْضهم بين " وَسَط " بالفتح و " وَسْط " بالتسكين .

فقال : كلُّ موضع صَلَحَ فيه لفظ " بَيْن " يقال بالسكون ، وإلا فبالتحريك .

فتقول : جلست وَسْطَ القومِ ، بالسكون .

وقال الراغب : وسط الشيء ما له طرفان متساويان القَدْر ، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد ، فتقول : وسطه صلب ، ووسْط بالسكون يقال في الكميّة المنفصلة ؛ كشيء يفصل بين جسمين نحو : " وَسْط القوم " كذا .

وتحرير القول فيه هو أن المفتوح في الأصل مَصْدَرٌ ، ولذلك استوى في الوصف به الواحدُ وغيره ، والمؤنَّث والمذكَّر ، والسَّاكن ظَرْفٌ ، والغالب فيه عدم التصرُّف ، وقد جاء متمكِّناً في قول الفرزدق : [ الطويل ] .

824 - أَتَتْهُ بِمَجْلُومٍ كَأَنَّ جَبِينَهُ *** صَلاَءَةُ وَرْسٍ وَسْطُهَا قَدْ تَفَلَّقَا{[1804]}

روي برفع الطَّاء ، والضمير ل " صلاءة " ، وبفتحها والضمير للجائية .

فصل في الاستدلال بالآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى

احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ؛ لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيرتيهم بجعل الله وخلقه ، وهذا صريح في المذهب .

وقالت المعتزلة : المراد من هذا الجعل فعل الألطاف .

أجيب عنه بوجوده :

الأول : أن هذا ترك للظاهر ، وذلك محال لا يصار إليه إلا عند عدم إمكان حمل الآية على ظاهرها ، أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسّك بفصل المَدْح والذم والثواب والعقاب ، وقد بيّنا أن هذه الطريقة منتقضةٌ على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي .

والثاني : أنه تعالى - قال قبل هذه الآية { يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 142 ] .

وقد بيّنا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه - تعالى - يخص البعض بالهداية دون البعض ، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منها مؤكدة لمضمون الأخرى .

والثالث : أن كلّ ما في مقدور الله - تعالى - من الألطاف في حقّ الكل فقد فعله ، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة .

والرابع : أن الله - تعالى - ذكر ذلك في معرض الامْتِنَان .

فصل في الاستدلال بالآية على أن الإجماع حجّة{[1805]}

احتج الجمهور بهذه الآية على أن الإجماع حجة فقالوا : أخبر الله - تعالى - عن عدالة هذه الأمة ، وعن خيريتهم ، فلو أقدموا على شيء من المَحْظُورات لما اتّصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المَحْظُورات وجب أن يكون قولهم حجّة ، فإن قيل : الآية متروكة الظاهر ؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتِّصَاف كل واحد منهم بها ، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة ، فلا بد من حملها على البعض ، فنحن نحملها على الأئمة المعصومين .

فالجواب : أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره ، والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين :

الأول : أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات ، واجتناب المحرمات ، وهذا من فعل العبد ، وقد أخبر الله - تعالى - أنه جعلهم وسطاً ، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً ، وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال .

الثاني : أن الوَسَط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين ، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك ، وهو خلاف الأصل .

سلّمنا اتصافهم بالخيرية ، وذلك لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط ، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجتمعوا عليه وإن كان خطأ ، لكنه من الصَّغائر ، فلا يقدح ذلك في خيريتهم ، ومما يؤكّد ذلك الاحتمال أنه - تعالى - حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس ، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة .

سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ، ولكن الله - تعالى - بيّن وصفهم بذلك لكونهم شهداء على النَّاس ، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة ، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك ، لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمُّل ، وذلك لا نزاع فيه ؛ لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة .

فلم قلت : إنهم في الدنيا كذلك ؟

سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا ، لكن المخاطبين بهذا الخطاب [ هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية ، لأن الخطاب ]{[1806]} مع مَنْ لم يوجد مُحَال ، وإذا كان كذلك ، فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت لا عدالة غيرهم ، فدلّت الآية على أن إجماع [ أولئك ]{[1807]} حق ، فيجب ألاَّ نتمسّك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه .

لكن ذلك لا يمكن [ إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم ، وعلمنا بقاء كل واحد ]{[1808]}منهم إلى ما بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ، ولما كان ذلك كالمتعذّر امتنع التمسّك بالإجماع .

والجواب عن قولهم : الآية متروكة الظاهر .

قلنا : لا نُسلّم فإن قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } يقتضي أنه - تعالى - جعل كلّ واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة .

وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه ، فإنّ كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر ، بل إذا اختلفوا ، فعند ذلك قد يفعلون القبيح ، وإنما قلنا : إن هذا الخطاب معهم حال الاجتماع ، لأن قوله : " جَعَلْنَاكُمْ " خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده ، على أنا وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد فيهم عدلاً ، لكنا نقول ترك العمل به في حقّ البعض لدليل قام عليه ، فوجب أن يبقى معمولاً به في حقّ الباقي ، وهذا معنى ما قاله العلماء : ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك ، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة ، فإذا كُنَّا لا نعلمهم بأعيانهم افتقرنا إلى إجماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم .

مثاله : أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - إذا قال : إن واحداً من أولاد فلان لا بد وأن يكون مصيباً في الرأي ، فإذا لم نعلمه بعينه ، ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقّاً ؛ لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق .

فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقّاً ، لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد المخالف .

ولهذا قال العلماء : إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة [ بقول المخطئ .

قوله : لو كان المراد من كونهم وسطاً هو عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى .

قلنا : هذا مذهبنا . فإن قيل{[1809]} ] قولهم : لم قلتم : إن إخبار الله - تعالى - عن عَدَالتهم وخيريّتهم اجتنابهم عن الصغائر ؟

قلنا : خبر الله - تعالى - صدق ، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه ، وفعل الصغيرة ليس بخبر ، فالجمع بينهما متناقض .

ولقائل أن يقول : الإخبار عن الشَّخْص بأنه خير أهم من [ الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور ، أو في بعض الأمور ، ولذلك فإنه يصحّ تقسيمه إلى ]{[1810]} هذين القسمين ، فيقال : الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض ، أو في كل الأمور ، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين ، فمن كان خيراً من بعض الوجود دون البعض يصدق عليه أنه خير ، فإذن إخبار الله - تعالى - عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره - تعالى - عن خيريتهم في كل الأمور ، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر ، [ وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلاَّ أن هذا السؤال وارد عليهم ، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }{[1811]} خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها ، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الآية ، ومن جاء بعدهم إلى [ قيام الساعة ]{[1812]} ، كما أن قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } [ البقرة : 178 ] ، { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة : 183 ] يتناول الكل ، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت ، [ وكذلك سائر تكاليف الله - تعالى - وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة{[1813]} ] فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة ، فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة ، فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجّة على من بعدهم ؟

قلنا : لأنه - تعالى - لما جعلهم شهداء على الناس ، فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة ، إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه .

فعلمنا أن المراد به أهل كلّ عصر ، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة ، فإن الأمة الجماعة التي تؤمّ جهة واحدة ، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ، ولأنه - تعالى - قال : " أُمَّةً وَسَطاً " فعبر عنهم بلفظ النكرة ، ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر .

[ قال النووي - رحمه الله تعالى - في " التهذيب " : الأُمّة تطلق على معانٍ :

منها من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن بما جاءه ، واتبعه فيه ، وهذا هو الذي جاء مَدْحه في الكتاب والسُّنة كقوله تعالى : { كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } و { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }

[ آل عمران : 110 ] .

وقوله صلوات الله وسلام عليه : " شَفَاعَتِي لأُمَّتِي " و " تَأْتِي أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ " وغير ذلك .

ومنها من بعث إليهم النبي - صلوات الله وسلامه عليه - من مسلم وكافر .

ومنه قوله عليه أفضل الصلاة والسلام : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ لاَ يَسْمَعُ بي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثم يموت وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلَتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ{[1814]} " رواه مسلم .

ويأتي باقي الكلام عن الأمة في آخر " النحل " إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] إلى قوله : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً }{[1815]} [ البقرة : 213 ] .

فصل في الكلام على قوله : لتكونوا

قوله تعالى : " لِتَكُونُوا " يجوز في هذه اللام وجهانِ :

أحدهما : أن تكون لام " كي " فتفيد العلة .

والثاني : أن تكون لام الصيرورة ، وعلى كلا التقديرين فهي حرف جر ، وبعدها " أن " مضمرة ، وهي وما بعدها في محلّ جر ، وأتى ب " شهداء " جمع " شهيد " الذي يدلّ على المبالغة دون شاهدين وشهود جمعي " شاهد " .

وفي " على " قولان :

أحدهما : أنها على بابها ، وهو الظاهر .

والثاني : أنها بمعنى " اللام " ، بمعنى : أنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي والدين ، كما نقله الرسول - عليه السلام - وكذلك القولان في " على " الأخيرة ، بمعنى أن الشهادة لمعنى التزكية منه - عليه السلام - لهم .

وإنما قدم متعلّق الشهادة آخراً ، وقدم أولاً لوجهين :

أحدهما : وهو ما ذكره الزمخشري أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم .

والثاني : أن " شهيداً " أشبه بالفَوَاصل والمقاطع من " عليكم " ، فكان قوله " شهيداً " تمام الجملة ، ومقطعها دون " عليكم " ، وهذا الوجه قاله الشيخ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المعفول يشعر بالاختصاص ، وقد تقدم ذلك .

فصل في الكلام على الشهادة .

اختلفوا في هذه الشهادة هل هي في الدنيا أو في الآخرة ؟ فالقائل بأنها في الآخرة وهم الأكثرون لهم وجهان :

الأول : أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أُمَمِهِمْ الذين يكذبونهم .

روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيطالب الله - تعالى - الأنبياء بالبّينة على أنهم قد بلّغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشهدون فتقول الأمم : من أين عرفتم فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه النَّاطق على لسان نبيه الصَّادق ، فيؤتى بمحمد - عليه الصلاة والسلام - فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله :{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وقد طعن القاضي رحمه الله تعالى في هذه الرواية من وجوه :

أحدها : أن مَدَار هذه الرواية على أن الأمم يكذبون أنبياءهم ، وهذا بناء على أن أهل القيامة يكذبون .

وهذا باطل عند القاضي ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في سورة " الأنعام " عند قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ }

[ الأنعام : 23 - 24 ] .

وثانيها : أن شهادة الأمة ، وشهادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - مستندةٌ في الآخرة إلى شهادة الله - تعالى - على صدق الأنبياء ، وإذا كان كذلك ، فَلِمَ لم يشهد الله - تعالى - لهم بذلك ابتداء ؟

والجواب : الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - في الفضل عن سائر الأمم بالمبَادرة إلى تصديق الله - تعالى - وتصديق جميع الأنبياء ، والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعَدْل بالنسبة إلى الفاسق .

وثالثها : أن مثل هذه الأخبار لا تسمّى شهادة ، وهذا ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْس فاشْهَدْ " والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس ، فوجب جواز الشَّهَادة عليه .

والثاني : قالوا معنى الآية : لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحقّ فيها ، قال ابن زيد رحمه الله تعالى : الأشهاد الأربعة : الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد ، قال تعالى : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] .

وقال : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وقال :

{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }

[ الانفطار : 10 - 12 ] .

وثانيها : شهادة الأنبياء ، وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عليه الصلاة والسلام : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }

[ المائدة : 117 ] .

وقال تعالى في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .

وقال في حق - محمد صلى الله عليه وسلم :

{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] .

وثالثها : شهادة أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - قال تعالى :

{ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ } [ الزمر : 69 ] .

وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] .

ورابعها : شهادة الجَوَارح ، وهي بمنزلة الإقرار ، بل أعجب منه .

قال تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ } [ النور : 24 ] . الآية ، وقال :

{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ } [ يس : 65 ] الآية .

القول الثاني : أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا ، وتقديره أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال : شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته .

ولما كان بين الإبصار بالعَيْن وبين المعرفة بالقَلْب مناسبة شديدة ، لا جَرَمَ قد تسمى المعرفة التي في القلب : مشاهدة وشهوداً ، والعارف بالشيء : شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلائل على الشيء : شاهداً على الشيء ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً ، ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً ، ثم اختصّ هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة . إذا ثبت هذا فنقول : إن كلّ من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه ، والله سبحانه وتعالى وصف هذه الأمة بالشهادة ، فهذه الشهادة : إما أن تكون في الآخرة ، أو في الدنيا ، ولا جائز أن تكون في الآخرة ؛ لأن الله - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء ، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا .

وإنما قلنا : إنه - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا ؛ لأنه - تعالى - [ قال : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسطاً " وهذا إخبار عن الماضي ، فلا أقل من حصوله في الحال ، وإنما قلنا إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا ؛ لأنه تعالى{[1816]} ] قال : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ " رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط ، فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا [ وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا ]{[1817]} .

فإن قيل : تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً ، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة .

قلنا : الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل ، بدليل أنه - تعالى - اعتبر العدالة في هذه الشهادة ، والشهادة التي يعتبر فيها العدالة ، هي الأداء لا التحمّل ، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدّين للشهادة في الدنيا ، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجّة ، ولا معنى لقولنا : الإجماع حجة إلا هذا ، فثبت أن الآية تدلّ على أن الإجماع حجّة [ من هذا الوجه أيضاً ]{[1818]} .

واعلم أن هذا الدليل لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } يعني مؤدياً ومبيناً ، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشَّهادة في الآخرة ، فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمّل ، لأنهم إذا أثبتوا الحقّ عرفوا عنده من [ القابل ومن الراد ]{[1819]} ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة [ على أن الشَّاهد على العقود يعرف الذي تم ، والذي لم يتم ، ثم يشهدون بذلك عند الحاكم .

قال القرطبي رحمه الله : معنى قوله تعالى : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } أي : بأعمالكم يوم القيامة .

وقيل : " عليكم " بمعنى لكم أي : يشهد لكم بالإيمان .

وقيل : يشهد عليكم بالتبليغ لكم ]{[1820]} .

وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ . . . } في هذه الآية خمسة أوجه :

أحدها : أن " القبلة " مفعول أول ، و " التي كنت عليها " مفعول ثان ، فإن الجعل بمعنى التصيير ، وهذا ما جزم به الزّمخشري فإنه قال : { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعوليْ جعل ، يريد : وما جعلنا القِبْلَةَ الجهة التي كنت عليها ، وهي الكَعْبَة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ب " مكة " إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس ، ثم حول إلى الكعبة .

الثاني : أن " القِبْلَة " هي المفعول الثاني ، وإنما قدم ، و " التي كنت عليها " هو الأول ، وهذا ما اختاره الشيخ محتجّاً له بأن التصيير هو الانتقال من حَالٍ إلى حَالٍ ، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني ، ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفاً ، وجعلت الجاهل عالماً ، والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا القِبْلَة الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً ، ثم صرفت عنها إلى " بيت المقدس " قبلتك الآن إلا لنعلم .

ونسب الزمخشري في جعله " القِبْلَة " مفعولاً أول إلى الوهم .

الثالث : أن " القِبْلَة " مفعول أول ، و " التي كنت " صفتها ، والمفعول الثَّاني محذوف تقديره : وما جعلنا القِبْلة التي كنت عليها منسوخة .

ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قدره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة ، ولا طائل تحته .

الرابع : أن " القبلة " مفعول أول ، و " إلاَّ لنعلم " هو المفعول الثَّاني ، وذلك على حذف مضاف تقديره : وما جعلنا صرف القِبْلَة التي كنت عليها إلا لنعلم ، نحو قولك : ضرب زيد للتأديب ، أي : كائن ، أو ثابت للتأديب .

الخامس : أن " القبلة " مفعول أول ، والثاني محذوف ، و { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } صفة لذلك المحذوف ، والتقدير : وما جعلنا القِبْلة القبلة التي ، ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيف .

وفي قوله : " كُنْتَ " وجهان :

أحدهما : أنها زائدة ، ويروى عن ابن عباس أي : أنت عليها ، وهذا منه تفسير معنى لا إعراب ، وهو كقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] والقبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل نحو : الجِلْسَة ، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة .

وقال قطرب رحمه الله تعالى : يقولون : ليس له قِبْلَة أي جهة يتوجه إليها .

وقال غيره : إذا تقابل رجلان فكلّ واحد قبلة للآخر .

فصل في الكلام على الآية .

في هذا الكلام وجهان :

الأول : أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل الكعبة قِبْلة ، وذلك لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلّي إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى " بيت المقدس " بعد الهجرة تأليفاً لليهود ، ثم حول إلى الكعبة فقال : { وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ } الجهة { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } أولاً يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس .

الثاني : يجوز أن يكون قوله : { الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وأن استقبالك " بيت المقدس " كان أمراً عارضاً لغرض ، وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا ، وهي " بيت المقدس " لنمتحن الناس ، وننظر من يتبع الرسول ، ومن لا يتبعه وينفر عنه .

وذكر أبو مسلم وجهاً ثالثاً فقال : لولا الروايات لم تدلّ الآية على قبلة من قبل الرسول - عليه الصلاة والسلام - لأنه قد يقال : كنت بمعنى : صرت ، كقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } وقد يقال : كان في معنى لم يزل كقوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 158 ] فلا يمتنع أن يراد بقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ } أي : التي لم تزل عليها ، وهي الكعبة إلاَّ كذا وكذا .

قوله : " إلاَّ لِنَعْلَمَ " قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولاً ثانياً .

وأما على غيره فهو استثناء مفرّغ من المفعول العام ، أي : ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلاَّ لكذا . وقوله : " لِنَعْلَمَ " ليس على ظاهره ، فإن علمه قديم ، ونظره في الإشكال قوله :

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ } [ محمد : 31 ] .

وقوله : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } [ الأنفال : 66 ] ، وقوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 42 ] ، وقوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ } [ العنكبوت : 3 ] .

وقوله : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ }

[ سبأ : 21 ] ، فلا بد من التأويل وهو من أوجه :

أحدها : لتمييز التابع من النَّاكص إطلاقاً للسبب ، وإرادة للمسبّب .

وقيل : على حذف مضاف أي : لنعلم رسولنا فحذف ، كما يقول الملك : فتحنا البَلْدة الفلانية بمعنى : فتحها أولياؤنا .

ومنه يقال : فتح عمر السّواد .

ومنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه : " اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي يقول : وادهراه وأنا الدهر "

وفي الحديث : " مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّا فَقَدْ أَهَانَنِي "

وقيل : معناه : إلا لنرى .

فصل

قال القرطبي رحمه الله : وهذا قول ابن أبي طالب وقول العرب ، تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم ، كقوله تعالى :

{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } [ الفيل : 1 ] بمعنى ألم تعلم ، وعلمت ، وشهدت ، ورأيت ، ألفاظ تتعاقب .

وقيل : حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ، معناه : لتعلموا .

والغرض من هذا الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله :

{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى } [ سبأ : 24 ] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب ، ورفقاً بالمخاطب .

وقيل : يعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم .

وقيل : العلم صلة زائدة معناه إلاَّ ليحصل اتباع المتبعين ، وانقلاب المنقلبين .

ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني ، والمعنى : أنه لو كان لعلمه الله .

قوله : { مَنْ يَتَّبع } في " من " وجهان :

أحدهما : أنها موصولة ، و " يتبع " صلتها ، والموصول وصلته في محلّ المفعول ل " نعلم " ؛ لأنه يتعدّى إلى واحد .

والثاني : أنها استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، و " يتبع " خبره ، والجملة في محلّ نصب ؛ لأنها معلقة للعلم ، والعلم على بابه ، وإليه نحا الزَّمخشري في أحد قوليه .

وقد رد أبو البقاء هذا الوجه ، فقال : لأن ذلك يوجب تعلّق " نعلم " عن العمل ، وإذا علقت عنه لم يبق ل " من " ما تتعلّق به ، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله ، ولا يصحّ تعلقها ب " يتبع " ؛ لأنها في المعنى متعلّقة بلا علامة ، وليس المعنى : أي فريق يتبع ممن ينقلب انتهى .

وهو رد واضح إذ ليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على أن يتعلق " مِمَّنْ يَنْقَلِبُ " ب " نعلم " نحو : علمت من أحسن إليك مِمّن أساء ، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز ، فإن العلم لا يتعدى ب " من " إلا إذا أريد به التمييز .

وقرأ الزهري : " إلاَّ لِيُعْلم " على البناء للمفعول ، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل ، فإنا لا نقدر ذلك الفاعل غير الله تعالى .

قوله : " عَلَى عَقِبَيْهِ " في محلّ نصب على الحال ، أي ينقلب مرتدّاً راجعاً على عقبيه ، وهذا مجاز ، [ ووجه الاستعارة أن : المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلما تركوا الإيمان والدلائل بمنزلة المدبر عما بين يديه ، فوصفوا بذلك لما قال تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } [ المدثر : 23 ] وقوله تعالى : { كَذَّبَ وَتَوَلَّى }{[1821]} [ طه : 48 ] .

وقرئ " عَلَى عَقْبَيْهِ " بسكون القاف ، وهي لغة " تميم " .

فصل

اختلفوا في هذه المحنة ، هل حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها ؟ فقال بعضهم : إنما حصلت بسبب تعيين القبلة ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلّي إلى الكعبة ، فلما جاء " المدينة " صلى إلى " بيت المقدس " ، فشق ذلك على العرب لترك قبلتهم .

قال القرطبي رحمه الله : والآية جواب لقريش في قولهم :

{ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] وكانت قريش تألف الكعبة ، فأراد الله - عز وجل - أن يمتحنهم بغير ما ألفوه .

وقال الأكثرون : حصلت بسبب التحويل قالوا : إن محمداً صلى الله عليه وسلم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه .

روى القَفَّال عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلموا ، فقالوا : مرة ههنا ومرة ههنا{[1822]} .

وقال السدي رحمه الله تعالى : لما توجه النبي - عليه الصلاة والسلام - نحو المسجد الحرام واختلف الناس ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها ؟

وقال المسلمون : ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس .

وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده .

وقال المشركون : تحيّر في دينه{[1823]} .

قال ابن الخطيب : وهذا القول أولى ؛ لأن الشبهة في أمر النَّسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة [ وقد وصفها الله - تعالى - بالكبر فقال عز وجل : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فكان حمله عليه أولى ]{[1824]} .

قوله : " وإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً " " إنْ " هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر ، وهو أغلب أحوالها ، و " اللام " للفرق بينها وبين " إن " النافية ، وهل هي لام الابتداء ، أو لام أخرى أتى بها للفرق ؟ خلاف مشهور{[1825]} .

وزعم الكوفيون أنها بمعنى " ما " النافية ، وأن " اللام " بمعنى " إلا " ، والمعنى : ما كانت إلا كبيرة ، نقل ذلك عنهم أبو البقاء رحمه الله [ وفيه نظر . واعلم أن " إن " المكسورة الخفيفة تكون على أربعة أوجه :

جزاء ، وهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى ، فالمستلزم هو الشرط ، واللازم هو الجزاء ، كقولك : إن جئتني أكرمتك .

ومخففة من الثقيلة ، وهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة المشددة ، كقولك : إن زيداً لقائم ، قال تعالى : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ، { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] .

وللجحد ، لقوله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } [ الأنعام : 57 ]

{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } [ الأنعام : 148 ]

{ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا } [ فاطر : 41 ] . أي : ما يمسكهما . وزائدة كقوله : ما إن رأيت زيداً ]{[1826]} ، والقراءة المشهورة نصب " كبيرة " على خبر " كان " ، واسم كان مضمر فيها يعود على التولية ، أو الصلاة ، أو القبلة المدلول عليها بسياق الكلام .

وقرأ اليزيدي{[1827]} عن أبي عمرو : برفعها .

وفيه تأويلان :

أحدهما - وذكره الزمخشري - : أن " كان " زائدة ، وفي زيادتها عاملةً نظر لا يخفى ؛ وقد استدلّ الزمخشري على ذلك بقوله : [ الوافر ] .

825 - فَكَيْفَ إذَا مَرَرْتَ بِدَارِ قَوْمٍ*** وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ{[1828]}

فإن قوله : " كرام " صفة ل " جيران " ، وزاد بينهما " كانوا " ، وهي رافعة للضمير ، ومن منع ذلك تأول " لنا " خبراً مقدماً ، وجملة الكون صفة ل " جيران " .

والثاني : أن " كان " غير زائدة ، بل يكون " كبيرة " خبراً لمبتدأ محذوف ، والتقدير : وإن كانت لهي كبيرة ، وتكون هذه الجملة في محلّ نصب خبراً لكانت ، ودخلت لام الفرق على الجملة الواقعة خبراً ، وهو توجيه ضعيفٌ ، ولكن لا توجه هذه القراءة الشَّاذة بأكثر من ذلك .

[ والضمير في " كانت " فيه وجهان :

الأول : أنه يعود على القبلة ؛ لأن المذكور السابق هو القبلة .

والثاني : يعود إلى ما دلّ عليه الكلام السّابق ، وهو مفارقة القبلة ، والتأنيث للتولية أي : وإن كانت التولية ؛ لأن قوله تعالى : " ما ولاهم " يدل على القولية ، ويحتمل أن يكون المعنى : وإن كانت هذه الفعلة نظيره " فبها ونعمت " .

ومعنى " كبيرة " ثقيلة شاقّة مُسْتنكرة .

وقوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [ الكهف : 5 ]{[1829]} .

قوله : " إلاَّ عَلَى الَّذِينَ " متعلق ب " كبيرة " ، وهو استثناء مفرغ .

فإن قيل : لم يتقدم هنا نفي ولا شبهة ، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك .

فالجواب : أن الكلام وإن كان موجباً لفظاً فإنه في معنى النفي ؛ إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين ، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] .

وقال أبو حيان : [ هو استثناء من مستثنى محذوف تقديره : وإن كانت لكبيرة على النّاس إلا على الذين ]{[1830]} وليس استثناء مفرغاً ؛ لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبهة ، وقد تقدم جواب ذلك [ واستدل الأصحاب رحمهم الله - تعالى - بهذه الآية على خلق الأعمال ]{[1831]} .

قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ } في هذا التركيب وما أشبهه [ مما ورد في القرآن وغيره ] نحو : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ }

[ آل عمران : 179 ] ، { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ } [ آل عمران : 179 ] قولان :

أحدهما : قول البصريين ؛ وهو أن خبر " كان " محذوف ، وهذه اللام تسمى لام الجُحود ينتصب الفعل بعدها بإضمار " أن " وجوباً ، فينسبك منها ومن الفعل مصدر منجرّ بهذه " اللام " ، وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف .

والتقدير : وما كان الله مريداً لإضاعة أعمالكم ، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي .

[ واشترط بعضهم مع ذلك أن يكون كوناً ماضياً ، ويفرق بينها وبين " لام " ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون مَنْفي ]{[1832]} ، ويدلّ على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله : [ الوافر ] .

826 - سَمَوْتَ وَلَمْ تَكْنْ أَهْلاً لِتَسْمُو*** . . . {[1833]}

والقول الثاني للكوفيين : وهو أن " اللام " وما بعدها في محلّ الجر ، ولا يقدرون شيئاً محذوفاً ، ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار " أن " ، وأن " اللام " للتأكيد ، وقد رد عليهم أبو البقاء فقال : وهو بعيد ، لأن " اللام " لام الجر ، و " أن " بعدها مرادة ، فيصير التقدير على قولهم : وما كان لله إضاعة إيمانكم ، وهذا الرد غير لازم لهم ، فإنهم لم يقولوا بإضمار " أن " بعد اللام كما قدمت نقله عنهم ، بل يزعمون النصب بها ، وأنها زائدة للتأكيد ولكن للرد عليهم موضع غير هذا .

واعلم أن قولك : " ما كان زيد ليقوم " ب " لام " الجحود أبلغ من : " ما كان زيد يقوم " .

أما على مذهب البصريين فواضح ، وذلك أن مع " لام " الجحود نفي الإرادة للقيام والتَّهيئة ، ودونها نفي للقيام فقط ، ونفي التَّهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ؛ إذ لا يلزم من نفي الفِعْلِ نفي إرادته .

وأما على مذهب الكوفيين فلأن " اللام " عندهم للتوكيد ، والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد .

وقرأ الضحاك{[1834]} : " لِيُضَيِّعَ " بالتشديد ، وذلك أن : أَضَاعَ وَضيَّعَ بالهمزة ، والتضعيف للنقل من " ضاع " القاصر ، يقال : ضَاعَ الشيء يَضيعُ ، وأَضَعْتُه أي : أهملته ، فلم أحفظه .

وأما ضَاعَ المِسْكُ يَضُوعُ أي : فاح ، فمادة أخرى .

فصل في مناسبة اتّصال هذه الآية بما قبلها

وجه اتصال هذه الآية الكريمة بما قبلها أن رجالاً من المسلمين كأبي أمامة ، وسعد ابن زُرَارة ، والبراء بن عازب ، والبراء بن مَعْرُور ، وغيرهم ماتوا على القبلة .

قال عشائرهم : يا رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى ، فكيف حالهم ؟

فأنزل الله - تعالى - هذه الآية{[1835]} .

[ واعلم أنه لا بد من هذا السبب ، وإلا لم يتّصل بعض الكلام ببعض ، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوّزوا النسخ إلا مع البَدَاء يقولون : إنه لمّا تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة ]{[1836]} فبين أن النسخ نقل من مَصْلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن القائم به متمسّك بالدين ، وأن من هذا حاله ، فإنه لا يضيع أجره .

ونظيره : ما سألوا بعد تحريم الخَمْر عمن مات ، وكان يشربها ، فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ }

[ المائدة : 93 ] فعرفهم الله - تعالى - أنه لا جُنَاحَ عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى

فإن قيل : إذا كان الشك إنما تولّد من تجويز البَدَاء على الله - تعالى - فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن ذلك الشّك وقع لمنافق ، فذكر الله - تعالى - ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق .

وثانيها : لعلهم اعتقدوا أن الصَّلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا : ليت إخواننا ممن مات أدرك ، فذكر الله - تعالى - هذا الكلام جواباً عن ذلك .

وثالثها : لعله - تعالى - ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك السؤال لو خَطَر ببالهم .

ورابعها : لعلهم توهموا أن ذلك لما نُسِخَ وبطل ، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كَفّارة لما سلف ، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل ، فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ، ولم يأتوا بما يكفر ما سلف ؛ قال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ، والمراد : أهل ملّتكم ، كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عليه وسلم : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً }

[ البقرة : 72 ] ،

{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } [ البقرة : 50 ] ، ويجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً ، فإنهم أشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم ، وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين ، فقيل : إيمانكم للأحياء والأموات ، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب ، فيقولوا : كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم .

وقال أبو مسلم : يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب ، والمراد بالإيمان صلاتهم ، وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ .

وإنما اختار أبو مسلم هذا القول ، لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا .

قال القرطبي : " وسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نيّة وقول وعمل " .

استدلت المعتزلة بقوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات ، فإنه - تعالى - أراد بالإيمان ها هنا الصلاة .

والجواب : لا نسلم أن المراد من الإيمان هنا الصلاة ، بل المراد منه التَّصديق ، والإقرار ، فكأنه - تعالى - قال : إنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة .

سلمنا أن المراد من الإيمان هاهنا الصلاة ، ولكن الصلاة أعظم الإيمان ، وأشرف نتائجه وفوائده ، فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاسْتِعَارة من هذه الجهة .

فصل في الكلام على الآية .

قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : لا يضيع ثواب إيمانكم ؛ لأن الإيمان قد انقضى وفني ، وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته ، إلاّ أنَّ استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه ، فصح حفظه وإضاعته ، وهو كقوله تعالى :{ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ }

[ آل عمران : 195 ] . قوله : { لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .

قرأ أبو عمرو{[1837]} ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : " لَرَؤُفٌ " على وزن : " نَدُس " و " رَعُف " مهموزاً غير مُشْبَع ، وهي لغة فاشيةٌ ، كقوله : [ الوافر ] .

827 - وَشَرُّ الظَّالِمين فَلا َتَكُنْهُ*** يُقَاتِلُ عَمَّهُ الرَّؤُفَ الرَّحِيمَا{[1838]}

وقال آخر : [ الوافر ] .

828 - يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقًّا*** كَحَقِّ الوَالِدِ الرِّؤُفِ الرَّحِيمِ{[1839]}

وقرأ الباقون : " لرؤوفٌ " مثقلاً مهموزاً مشبعاً على زنة " شكور " .

وقرأ أبو جعفر{[1840]} " لروف " من غير هَمْزٍ ، وهذا دأبه في كل همزة ساكنة أو متحركة .

و " الرأفة " : أشد الرحمة ، فهي أخص منها ، [ وقيل بينهما عموم وخصوص ، فلا ترى فيه أكمل من الرحمة بالكيفية ، والرحمة اتصال النعمة برقة يكون معها إيلام كقطع العضو المتآكل وشرب الدواء ]{[1841]} .

وفي " رءوف " لغتان أخريان لم تصل إلينا بهما قراءة وهما : " رئِف " على وزن " فَخِذ " ، و " رأف " على وزن " ضَعْف " .

وإنم قدم على " رحيم " لأجل الفواصل ، والله أعلم .

فصل فيمن استدل بالآية على أن الله تعالى لا يخلق الكفر

استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا : لأنه - تعالى- بين أنه بالنَّاس لرءوف رحيم ، فوجب أن يكون رءوفاً رحيماً بهم ، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكُفْر الذي يجرّهم إلى العقاب الدائم ، والعذاب السَّرمَدِي ، ولو لم يُكَلّفهم ما لا يُطِيقون ، فإنه - تعالى- لَوْ كان مع مثل هذا الإضرار رءوفاً رحيماً ، فعلى أيّ طريقٍ يتصور ألاَّ يكون رَءُوفاً رَحيماً .

واعلم أنَّ الكلامَ عليه قد تَقَدَّم مِرَاراً ، والله أعلمُ .


[1793]:- سقط في ب.
[1794]:- ينظر ديوانه: (192)، الكشاف: 1/317، الدر المصون: 1/392.
[1795]:- البيت ليس في ديوان زهير. ينظر البحر المحيط: 1/591، الطبري: 3/142، القرطبي: 2/104، الدر المصون: 1/393.
[1796]:-ينظر القرطبي: 2/104، البحر المحيط: 1/ 591، والدر المصون: 1/ 393.
[1797]:-سقط في ب.
[1798]:- أخرجه البخاري (3339) باب قول الله عز وجل: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه)، وفي "الاعتصام" (7349) باب (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، وأحمد (3/32، 58) والترمذي (2965) وابن ماجه (4284) والطبري في "التفسير" (3/143) وابن حبان (1719-موارد) وأبو يعلى (2/397) رقم (397) والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 216.
[1799]:- أخرجه البيهقي (3/ 273) وانظر كشف الخفا للعجلوني (1/469).
[1800]:- ذكره الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (1/ 81) وقال: أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" موقوفا على علي بن أبي طالب ولم أجده مرفوعا.
[1801]:- سقط من ب.
[1802]:- سقط من أ.
[1803]:سقط من ب.
[1804]:- ينظر خزانة الأدب: 3/92، 96، ولسان العرب (وسط) (جلم)، والخصائص: 2/369، والدرر: 3/ 288، ونوادر أبي زيد: ص 163، وهمع الهوامع: 1/201، والدر المصون: 1/293.
[1805]:- إن إثبات حجية الإجماع يرتكز على دعائم ثلاث: إمكانه في نفسه؛ وإمكان العلم به، وإمكان نقله إلى من يحتج به، ولقد أراد منكرو حجيته أن يأتوا البنيان من قواعده فأنكروها، قالوا على وجه الإجمال: يمتنع ثبوت الإجماع، ولو ثبت، يمتنع العلم به، ولو علم يمتنع نقله إلى المجتهد، فقد أسندوا كلامهم إلى ثلاث جهات، فلا بد لهذا من مقامات: الأول: في بيان إمكان الإجماع ذهب جمهور العلماء إلى أنه ممكن، وادعى بعض النظامية والروافض استحالته، وتحرير محل النزاع: أنه لا خلاف لأحد في إمكان الإجماع عقلا؛ لأن العقل لا يمنع من تصور اتفاق المجتهدين في عصر على حكم من الأحكام؛ ولأن أدلتهم الآتية إنما تنتج استحالته في حكم العادة، لا في جوازه في ضروريات الأحكام، وإنما النزاع في إمكانه عادة في الأحكام التي لا تكون معلومة بالضرورة، ونسب "ابن الحاجب" هذا القول إلى "النظام" ووافقه الكمال، وذكر "السبكي" أن هذا قول بعض أصحابه، وأما رأي "النظام" نفسه مع بعض أصحابه: فهو أنه يتصور، ولكن لا حجية فيه، كذا نقله القاضي، وأبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني وهي طريقة الإمام الرازي وأتباعه في النقل عنه. شبه المخالفين في إمكان الإجماع. في هذا الصدد لم يلجأ معظم المصنفين إلى أدلة لإثبات دعوى الجمهور وهي إمكان الإجماع، بل اكتفوا بإيراد شبه الخصوم ثم هدمها، وفي ذلك إشعار بأن دعواهم بلغت من البداهة إلى حد لا تحتاج فيه إلى دليل أو تنبيه، ورُبّ سكوت أفضح من كلام. قالوا: أولا لو أمكن اتفاقهم، لأمكن نقل الحكم إليهم جميعا؛ لأن اتفاقهم فرع تساؤلهم من نقل الحكم إليهم، فلا يتحقق إلا بعد تحققه، ونقل الحكم إليهم جميعا باطل؛ لأن انتشارهم في الأقطار يمنع منه عادة، فبطل المقدم وثبت نقيضه، وهو عدم إمكانه. والجواب: قولكم "انتشارهم في الأقطار" يمنع من نقل الحكم إليهم ممنوع؛ فإنه لا منع في المتواتر؛ كالكتاب فهو لشهرته لا يخفى على أحد، ولا في أوائل الإسلام؛ لأن المجتهدين كانوا قليلين، فيتيسر نقل الحكم إليهم، و لا بعد جدهم في الطلب والبحث، فإن المطلوب لا يخفى على الطالب الجاد وجدّهم في طلب العلم لا ينكره أحد، فمنهم من رحل من أصفهان ببلاد الفرس إلى "معرة النعمان" بـ "الشام" على بعد ما بين البلدين، ولم يكن له من غرض سوى تحقيق بعض مسائل العلم، وأمثال هذا من طُلاّب العلم من المسلمين كثير، تقرأ تاريخ حياتهم فتجدهم تحملوا المشاقّ، واقتحموا العقبات، وساحوا في أرجاء الدنيا من "الفرس"، و"العراق" و"الشام"، "ومصر"، و"الأندلس"؛ ليدرسوا على مشاهير العلماء، وليطفئوا نيران ظمئهم إلى العلوم بالري من مناهله؛ وبالجملة؛ لم نجد أمة بذلت في هذا المضمار مثل ما بذلت هذه الأمة. قالوا: ثانيا: لو أمكن اتفاقهم، فإما أن يكون عن قاطع، أو ظني؛ إذ لا بد للإجماع من مستند، وليس وراءهما مستند يستند إليه، والتالي بشقيه باطل، أما القاطع: فلأن العادة تحيل عدم الاطلاع عليه؛ لتوفر الدواعي على نقله، ولو اطلع عليه لنقل، لكنه لم ينقل، فلم يطلع عليه، فليس الإجماع عن قطعي، والظني تحيل العادة الاتفاق عليه؛ لاختلاف القرائح، وتباين الأنظار. والجواب بالمنع فيهما، أما القاطع: فلأنه لا يجب نقله عادة؛ إذ قد يستغنى عن نقله بحصول الإجماع الذي هو أقوى منه؛ لعدم احتمال النسخ، بخلاف القاطع، وأما الظني: فلأنه قد يكون جليا فتقبله القرائح فتتفق عليه، واختلاف القرائح والأنظار إنما يمنع الاتفاق في الظن الخفي، دون الجلي.
[1806]:- سقط في أ.
[1807]:- في أ: القوم.
[1808]:- سقط في أ.
[1809]:- سقط في أ.
[1810]:- سقط في أ.
[1811]:- سقط في أ.
[1812]:-في أ: يوم القيامة.
[1813]:- سقط في أ.
[1814]:- أخرجه مسلم "كتاب الإيمان" باب 70 رقم (240) وأبو عوانة (1/104) وأحمد (2/317) وأبو نعيم في "الحلية" (4/308).
[1815]:- سقط في ب.
[1816]:- سقط في أ.
[1817]:- سقط في أ.
[1818]:- سقط في أ.
[1819]:- في أ: المحق من المبطل.
[1820]:- سقط في ب.
[1821]:- سقط في ب.
[1822]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/158) عن ابن جريج، والأثر ذكره السيوطي في "الدرر المنثور" (1/268).
[1823]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/157) عن السدي، وانظر "الدر المنثور" (1/262).
[1824]:- سقط في ب.
[1825]:- قال أبو حيان في "ارتشاف الضرب": مذهب سيبويه، والأخفشين أبوي الحسن، وأكثر نحاة بغداد: أن هذه اللام لام الابتداء التي كانت مع المشددة، لزمت للفرق بين (إنّ) التي هي لتأكيد النسبة وبين (إنْ) النافية، وهو اختيار أبي الحسن بن الأخضر من أئمة بلادنا، وابن عصفور، وابن مالك. ومذهب الفارسي: أنها ليست لام الابتداء، بل لام أخرى اجتلبت للفرق، وهو اختيار أبي عبد الله بن أبي العافية، والأستاذ أبي علي، وأبي الحسين بن أبي الربيع. وقيل: إن دخلت على الجملة الاسمية، كانت لام ابتداء لزمت للفرق، أو على الفعلية، كانت غيرها فارقة، وثمرة الخلاف بين القولين الأولين: أنها إن كانت لام الابتداء، وجب كسر همزة "إنْ" في مثل: قد علمنا إن كنت لمؤمنا، وإن كانت غيرها جاءت للفرق، وجب فتح همزة "إن"، والجملة الفعلية هي الفعل الناسخ، والمثبت من باب "كان" غير ليس، ولا الواقع صلة، فلا يدخل على "ليس" ولا على ما أوله حرف نفي، ولا على "دام":، ومن باب "ظن" غير الذي لا يتصرف، فلا تدخل على (هب) ونحوها، وتلزم اللام ما وقع في اللفظ ثانيا من معمول "كان"، و "معمولي ظن" وأخواتها، ولا تدخل على ما خبره منفي في باب "كان"، ولا على ما ثانيه منفي في باب "ظن"، وسواء في ذلك الفعل المضارع والماضي؛ قال تعالى: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين}، {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}، {وإن نظنك لمن الكاذبين} {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك} ودعوى ابن مالك: أنه إذا كان بلفظ المضارع، يحفظ ولا يقاس عليه، ليست بشيء.
[1826]:- سقط في ب.
[1827]:- انظر الشواذ 10، والبحر المحيط: 1/598، والدر المصون: 1/395.
[1828]:- البيت للفرزدق ينظر ديوانه: 2/290، وتخليص الشواهد: ص 252، وخزانة الأدب: 9/217، 221، 222، وشرح التصريح: 1/192، وشرح شواهد المغني: 2/693، والكتاب: 2/153، والمقاصد النحوية: 2/42، والمقتضب: 4/116، والأزهية: ص 188، وشرح الأشموني: 1/117، وأسرار العربية: ص 136، وأوضح المسالك: 1/258، وشرح ابن عقيل: ص 146، والأشباه والنظائر: 1/165، والصاحبي في فقه اللغة: ص 161، ولسان العرب (كون)، ومغني اللبيب: 1/287، والدر المصون: 1/395.
[1829]:- سقط في ب.
[1830]:- سقط في أ.
[1831]:- سقط في ب.
[1832]:- سقط في أ.
[1833]:- ينظر الجنى الداني: (119)، ارتشاف الضرب: 2/ 400، الهمع: 2/8، والدر المصون: 1/396، البحر: 1/ 600.
[1834]:- انظر الشواذ: 10، والمحرر الوجيز: 1/221، والبحر المحيط: 1/600، والدر المصون: 1/396.
[1835]:- أخرج أحمد (1/347) والترمذي (2968) وأبو داود (4680) والدارمي (1/281) والطبراني (11/278) والحاكم (2/269) والطيالسي (1924) وابن حبان (1718-زوائده) والطبري في "التفسير" (20/17) من طرق عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[1836]:- سقط في أ.
[1837]:- انظر الكشف: 1/266، والسبعة: 171، والشواذ 10، والحجة: 2/229، وحجة القراءات: 116، والعنوان: 72، وشرح الطيبة: 4/71-73، وشرح شعلة: 278، وإتحاف فضلاء البشر: 1/421، 422.
[1838]:- البيت للوليد بن عقبة. ينظر الطبري: 3/171، والمحرر الوجيز: 1/442، والبحر المحيط: 1/ 601، القرطبي: 2/107، والدر المصون: 1/397.
[1839]:- البيت لجرير. ينظر ديوانه: (382)، البحر المحيط: 1/601، والدر المصون: 1/397.
[1840]:- ينظر القراءة السابقة.
[1841]:- سقط في ب.