هذا هو النعمة الثانية التي عَمّت المكلفين بأسرهم .
" هو " مبتدأ ، وهو ضمير مرفوع منفصل للغائب المذكر ، والمشهور تخفيفُ واوه وفتحها ، وقد تشدد ؛ كقوله : [ الطويل ]
وَإِنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا *** وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ{[1011]}
وقد تسكن ، وقد تحذف كقوله : [ الطويل ]
فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[1012]}
والموصول بعده خبر عنه . و " لكم " متعلّق ب " خلق " ، ومعناها السَّببية ، أي : لأجلكم ، وقيل : للملك والإباحة ، فيكون تمليكاً خاصاً بما ينتفع به .
وقيل : للاختصاص ، و " ما " موصولة ، و " في الأرض " صلتها ، وهي في محلّ نصب مفعول به ، و " جميعاً " حال من المفعول بمعنى " كلّ " ، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزَّمَان ، وهذا هو الفَارِقُ بين قولك : جَاءُوا جميعاً و " جاءوا معاً " فإنّ " مع " تقتضى المُصَاحبة في الزمان ، بخلاف " جميع " قيل : وهي - هُنَا - حال مؤكدة ، لأن قوله : { مَّا فِي الأَرْضِ } عام .
فصل في بيان أن الأصل في المنافع الإباحة
استدلّ الفُقَهَاء بهذه الآيةِ على أنّ الأصل في المَنَافع الإباحة .
وقيل : إنها تدلُّ على حرمة أكل الطِّين ، لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض ، وفيه نظر ؛ لأن تخصيص الشيء بالذِّكر لا يدلّ على نفي الحكم عما عَدَاه ، وأيضاً فالمعادن داخلة في ذلك ، وكذلك عروق الأرض ، وما يجري مجرى البعض لها .
وقد تقدّم تفسير الخلق ، وتقدير الآية كأنه - سُبْحانه وتعالى - قال : كيف تكفرون بالله ، وكنتم أمواتاً فأحياكم ؟ وكيف تكفرون بالله ، وقد خلق لكم ما في الأرض جميعاً ؟
أو يقال : كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة ، وقد أحياكم بعد موتكم ، وقد خلق لكم كل ما في الأرض ، فكيف يعجز عن إعادتكم ؟ .
قوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } .
أصل " ثم " أن تقتضي تراخياً زمانياً ، ولا زمان هنا ، فقيل : إشارة إلى التراخي بين رُتْبَتَيْ خلق الأرض والسماء .
وقيل : لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال أُخَر من جعل الجِبَال والبَرَكة ، وتقدير الأقوات ، كما أشار إليه في الآية الأخرى عطف ب " ثم " ؛ إذ بين خلق الأرض والاستواء إلى السماء تراخ .
و " استوى " : معناه لغة : استقام واعتدل ، من استوى العُودُ .
وقيل : علا وارتفع ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
فَأوْرَدْتُهُمْ مَاءً بِفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ *** وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى{[1013]}
وقال تعالى : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } [ المؤمنون : 28 ] .
ومعناه هنا : قصد وعمل . وفاعل " اسْتَوَى " ضمير يعود على الله .
وقيل : يعود على الدُّخَان نقله ابن عطية .
والثاني : أنه يرده قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ }
و " إلى " حرف انتهاء على بَابها .
وقيل : هي بمعنى " عَلَى " ؛ فتكون في المَعْنَى كقول الشاعر : [ الرجز ]
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ *** مَنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ{[1014]}
فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ *** تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ{[1015]}
وقيل : ثَمَّ مضاف محذوفٌ ضميره هو الفاعل ، أي : استوى أمره ، و " إلَى السَّمَاءِ " متعلّق ب " اسْتَوَى " ، والضمير في " فَسَوَّاهُنّ " يعود على السَّمَاء ، إما لأنها جمع " سماوة " كما تقدم ، وإما لأنها اسم جنس يطلق على الجمع .
وقال الزمخشري : " هُنَّ " ضمير مبهم ، و " سَبْعَ سَمَاوَاتٍ " تفسيره ، كقولهم : " رُبَّهُ رَجُلاً " ، وقد رد عليه بأنه ليس من [ المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده ؛ لأن النحويين حصروا ذلك في سبع مواضع ]{[1016]} :
ضمير الشأن ، والمجرور ب " رب " ، والمرفوع ب " نعم وبئس " ، وما جرى مجراهما ، وبأول المتنازعين ، والمفسر بخبره ، وبالمُبْدَل منه .
ثم قال هذا المعترض : إلا أن يتخيل فيه أن يكون " سَبْعَ سَمَاواتٍ " بدلاً ، وهو الذي يقتضيه تشبيهه ب " رُبَّهُ رَجَلاً " فإنه ضمير مبهم ليس عائداً على شيء قبله ، لكن هذا يضعف بكون التقدير يجعله غير مرتبطٍ بما قبله ارتباطاً كلياً ، فيكون أخبرنا بإخبارين :
أحدهما : أنه استوى إلى السماء .
والثاني : أنه سوى سبع سماوات .
وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو المستوي بعينه .
ومعنى تسويتهنّ : تعديل خلقهن ، وإخلاؤه من العِوَجِ ، والفُطُور وإتمام خَلْقهن .
قوله : " سَبْعَ سَمَواتٍ " في نصبه خمسة أوجه :
أحسنها : أنه بدلٌ من الضمير في " فَسَوَّاهُنَّ " العائد على " السَّمَاءِ " كقولك ، أخوك مررت به زيد .
الثاني : أنه بدل من الضمير أيضاً ، ولكن هذا الضمير يفسره ما بعده ، وهذا يضعف بما ضعف به قول الزمخشري المتقدّم .
الثالث : أنه مفعول به ، والأصل ، فسوَّى منهن سَبْعَ سموات ، وشبهوه بقوله تعالى : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا }
[ الأعراف : 155 ] أي : من قومه قاله أبو البقاء وغيره ، وهذا ضعيف لوجهين :
والثاني : بالنسبة إلى المعنى .
أما الأول فلأنه ليس من الأفعال المتعدية لاثنين .
أحدهما : بإسقاط الخافض ؛ لأنها محصورة في " أمر " و " اختار " وأخواتها .
الثاني : أنه يقتضي أن يكون ثَمَّ سماوات كثيرة ، سوى من جملتها سبعاً ، وليس كذلك .
الرابع : أن " سوى " بمعنى " صَيَّر " فيتعدّى لاثنين ، فيكون " سَبْعَ " مفعولاً ثانياً ، وهذا لم يثبت أيضاً ، أعني جعل " سَوَّى " مثل " صَيَّر " .
اعلم أن القرآن - هاهنا - قد دلّ على سبع سماوات .
وقال أصحاب الهيئة : أقربها إلينا كرة القمر ، وفوقها كرة عطارد ، ثم كرة الزّهرة ، ثم كرة الشَّمس ، ثم كرة المرّيخ ، ثم كرة المشتري ، ثم كرة زُحَل ، قالوا : لأن الكوكب الأسفل إذا مَرَّ بين أبصارنا ، وبين الكوكب الأعلى ، فإنهما يصيران ككوكب واحدٍ ، ويتميز السَّاتر عن المَسْتُور بلونه الغَالب كَحُمْرَةِ المريخ ، وصُفْرَة عطارد ، وبَيَاض الزهرة ، وزُرْقَة المُشْتري ، وكدرة زُحَل ، وكلّ كوكب فإنه يكسف الكوكب الذي فوقه .
فصل في الاستدلال على سبق خلق السماوات على الأرض
قال [ بعض المَلاَحدة ]{[1017]} : هذه الآية تدلّ على أن خلق الأرض قبل خلق السَّماء ، وكذا قوله : { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] إلى قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } وقال في سورة " النازعات " : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا }
[ النازعات :27 ] إلى أن قال : { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء ، وذكروا في الجواب وجوهاً :
أحدها : يجوز أن يكون خلق الأرض قبل السماء إلاّ أنه ما دَحَاهَا حتى خلق السماء ؛ لأن التدحية هي البَسْط .
ولقائل أن يقول : هذا مُشْكل من وجهين :
الأول : أن الأرض جسم عظيم ، فامتنع انفكاك خلقها عن التَّدْحية ، وإذا كانت التَّدْحية متأخّرة عن خلق السماء كان خلقها لا مَحَالَةَ متأخراً عن خلق السماء .
الثاني : أن قوله : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ } يدلّ على أن خلق الأرض ، وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء ، وخلق هذه الأشياء في الأرض لا يمكن إِلاَّ إذا كانت مدحوةً ، فهذه الآية تدلُّ على كونها مدحوة قبل خلق السّماء ، فيعود التَّنَاقض .
والجواب الثاني : أن قوله : { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدّمة على خَلْقِ الأرض ، وعلى هذا التَّقْدِير يزول التناقض .
ولقائل أن يقول : قوله : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } يقتضي أن يكون خلق السماء ، وتسويتها مقدماً على تدحية الأرض ، ولكن تَدْحِيَةَ الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض ، وحينئذ يعود السؤال .
والجواب الثالث وهو الصحيح أن قوله : " ثُمّ " ليس للترتيب هاهنا ، وإنما هو على جِهَةِ تعديد النعم ، على مثل قول الرَّجل لغيره : أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ، ثم وقعت الخُصُوم عنك ، ولعلّ بعض ما أخره في الذكر قد تقدّم فكذا هاهنا ، والله أعلم .
فإن قيل : هل يَدُلّ التنصيص على سَبْعِ سماوات على نَفْي العدد الزائد ؟
قال ابن الخطيب{[1018]} : الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يَدُلّ على نفي الزائد .
ورد في التنزيل أن السماوات سبع ، ولم يأت في التنزيل أن الأرضين سبع إلاَّ قوله { وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] وهو محتمل للتأويل ، لكنه وردت في أحاديث كثيرة صحيحة تدلّ على أن الأرضين سبع كما روي في " الصحيحين " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من ظَلَمَ قِيْد شِبْرٍ مِنَ الأَرض طُوِّقَهُ من سبع أرضين " {[1019]} إلى غير ذلك .
وروى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " الله الذي خَلَقَ سبع سَمَاواتٍ ومن الأرضِ مِثْلَهُنّ قال : سبع أرضين في كل أرض نَبِيّ كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم وعِيْسَى كعيسى " قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عَبَّاسٍ صحيح{[1020]} وهو شاذّ لا أعلم لأبي الضّحى عليه دليلاً{[1021]} .
و " السماء " تكون جمعاً ل " سماوة " في قول الأخفش ، و " سماءة " في قول الزّجاج ، وجمع الجمع " سَمَاوات " و " سماءات " ، فجاء " سِوَاهن " إما على أن " السّماء " جمع ، وإما على أنها مفرد اسم جنس ، وقد تقدّم الكلام على " السَّماء " في قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ } [ البقرة : 19 ] .
قوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } هو : مبتدأ ، و " عليم " خبره ، والجار قبله يتعلّق به .
واعلم انه يجوز تسكين هاء " هُو " و " هي " بَعْدَ " الواو " و " الفاء " و " لام " الابتداء و " ثُمّ " ؛ نحو : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } [ البقرة : 74 ] { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ القصص : 61 ] { لَهُوَ الْغَنِيُّ } [ الحج : 64 ] { لَهِيَ الْحَيَوَانُ }
[ العنكبوت : 64 ] وقرأ بها الكسائي وقالون عن نافع ، تشبيهاً ل " هُو " ب " عَضُد " ول " هِي " ب " كَتِف " ، فكما يجوز تسكين عين " عَضُد " و " كَتِف " يجوز تسكين هاء " هُو " ، و " هِي " بعد الأحرف المذكورة ؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل ، لكثرة دورها معها ، وقد تسكن بعد كاف الجر ؛ كقوله : [ الطويل ]
فَقُلْتُ لَهُمْ : مَا هُنَّ كَهْيَ فَكَيْفَ لِي *** سُلُوٌّ وَلاَ أَنْفَكُّ صَبًّا مُتَيَّمَا{[1022]}
وبعد همزة الاستفهام ؛ كقوله : [ البسيط ]
فَقُمْتُ للطَّيْفِ مُرْتَاعاً فَأَرَّقَنِي *** فَقُلْتُ : أَهْيَ سَرَتْ أَمْ عَادَنِي حُلُمُ{[1023]}
وبعد " لكن " في قراءة ابن{[1024]} حَمْدُون{[1025]} : { لكنَّ هْوَ اللَّه } [ الكهف : 38 ] وكذا في قوله : { يُمِلَّ هُوَ } [ البقرة : 282 ] . فإن قيل عليم " فعيل " من " علم " ، و " علم " متعدّ بنفسه ، فكيف تعدّى ب " الباء " ، وكان من حقه إذا تقدم مفعوله أن يتعدّى إليه بنفسه أو ب " اللام " المقوية ، وإذا تأخر أن يتعدى إليه بنفسه فقط ؟
فالجواب : أن أمثله المُبالغة خالفت أفعالها ، وأسماء فاعليها لمعنى وهو شبهها ب " أفعل " التفضيل بجامع ما فيها من مَعْنَى المبالغة ، و " أفعل " التفضيل له حكم في التعدّي ، فأعطيت أمثلة المُبَالغة ذلك الحكم ، وهو أنها لا تَخْلُو من أن تكون من فعل متعدٍّ بنفسه أو لا .
فإن كان الأول فإما أن يفهم علماً أو جهلاً أو لا .
فإن كان الأول تعدت بالباء نحو : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } [ النجم : 32 ]
{ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ الحديد : 6 ] و " زيد جهول بك " و " أنت أجهل به " وإن كان الثَّاني تعدّت ب " اللام " نحو : " أنا أضرب لزيد منك " و " أنا ضراب له " ، ومنه : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، وإن كانت من متعدٍّ بحرف جَرّ تعدّت هي بذلك الحرف نحو : " أنا أصبر على كذا " و " أنا صبور عليه " ، و " أزهد فيه منك " ، و " زهيد فيه " .
فصل في إثبات العلم لله سبحانه بخلقه
هذه الآية تدلّ على أنه لا يمكن أن يكون خالقاً للأرض وما فيها ، وللسماوات وما فيها من العَجَائب والغرائب إلا إذا كان عالماً بها محيطاً بجزئياتها وكلّياتها ، وذلك يدلّ على أمور :
أحدها : أن يفسد قول الفَلاَسفة الذَّين قالوا : إنه لا يعلم الجُزئيات ، ويدلّ على صحّة قول المتكلمين فإنهم قالوا : إنه - تعالى - فاعل لهذه الأجسام على سبيل الإِحْكام والإِتْقَان ، وكل فاعل على هذا الوجه ، فإنه لا بد وأن يكون عالماً بما فعله كما ذكر في هذه الآية .
وثانيها : يدل على فساد قول المعتزلة ، وذلك لأنه - سبحانه وتعالى - بين أن الخالق للشَّيء على سبيل التقدير والتحديد ، لا بد أن يكون عالماً به وبتفاصيله ، لأن خالقه قد خصّه بقدر دون قدر ، والتخصيص بقدر معين لا بُدّ وأن يكون بإرادة ، وإلا فقد حصل الرُّجْحَان من غير مرجّح ، والإرادة مشروطة بالعلم ، فثبت أن خالق الشَّيء لا بد وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل .
فلو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بها ، وبتفاصيلها في العَدَدِ والكميّة والكيفية ، فلمَّا لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجدٍ لأفعال نفسه .
وثالثها : قالت المعتزلة : إذا جمع بين هذه الآية وبين قوله : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] ظهر أنه - تعالى - عالم بذاته .
والجَوَاب : قوله تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } عام ، وقوله :
{ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] خاصّ والخاص مقدّم على العام .