اعلم أن المقصود من ضرب المِثَال أنه يؤثر في القَلْبِ ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأن الغرض من المَثَلِ تشبيه الخَفِيّ بالجَلِيّ والغائب بالشاهد ، فيتأكّد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقاً للعقل ، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة ، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بِنَسْجِ العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجرداً .
قوله : " مثلهم " مبتدأ و " كمثل " جار ومجرور خبره ، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب ، ولا مُبَالاة بخلاف من يقول : إنّ " كاف " التشبيه لا تتعلّق بشيء ، والتقدير : مثلهم مستقر كَمَثَلِ . وأجاز أبو البقاء{[703]} وابن عطية{[704]} أن تكون " الكاف " اسماً هي الخبر ، ونظيره قول الشاعر : [ البسيط ] .
أَتَنْتَهُونَ ؟ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ *** كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ{[705]}
وهذا مذهب الأخفش : يجيز أن تكون " الكاف " اسماً مطلقاً .
وأما مذهب سيبويه فلا يُجِيزُ ذلك إلا في شعر ، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال ؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسماً لكونها فاعلة ، بخلاف الآية .
والذي ينبغي أن يقال : إن " كاف " التشبيه لها ثلاثة أحوال :
حال يتعيّن فيها أن تكون اسماً ، وهي ما إذا كانت فاعلة ، أو مجرورة بحرف ، أو إضافة . مثال الفاعل : [ البسيط ]
أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[706]}
ومثال جَرِّها بحرف قول امرئ القَيْسِ : [ الطويل ]
وَرُحْنَا بكَابْنِ المَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا *** تَصَوَّبُ فِيهِ العَيْنُ طَوْراً وَتَرْتَقِي{[707]}
وَزَعْتُ بِكَالْهِرَاوَةِ أَعْوَجِيٍّ *** إذَا وَنَتِ الرِّكَابُ جَرَى وَثابَا{[708]}
ومثال جَرِّها بالإضافة قوله : [ السريع أو الرجز ]
فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ{[709]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحال يتعيّن أن تكون فيها حرفاً ، وهي الواقعة صلة ، نحو : جاء الذي كزيد ؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصِّلة ، وهذا ممتنع عند البصريين . وحال يجوز فيها الأمران ، وهي ما عدا ذلك نحو : " زيد كعمرو " .
وأبعد من جعلها زائدة في الآية الكريمة ، أي : مثلهم مثل الذي ، ونظّره بقوله : " فَصُيِّرُوا مثل كعصف " كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد ، والوجه أن المثل - هنا - بمعنى القصّة والتقدير : صفتهم وقصتهم كقصّة المستوقد ، فليست زائدةً على هذا التأويل ، وهذا جواب عن سؤال أيضاً ، وهو أن يقال : قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ } يقتضي تشبيه مثلهم مثل المستوقد ، فما مثل المنافقين ومثل المُسْتَوْقِدِ حتّى شَبّه أحدهما بالآخر ؟
فالجواب : أن يقال : استعير المثل للقصّة وللصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة ، كأنه قيل : قصّتهم العجيبةُ كقصّة الذي استوقد ناراً ، وكذا قوله : { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [ الرعد : 35 ] أي فيما قصصنا عليه من العَجَائب قصّة الجنّة العجيبة .
{ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } [ النحل : 60 ] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة .
{ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } [ الفتح : 29 ] أي : وصفهم وشأنهم المتعجّب منه ، ولكن المَثَل - بالفتح - في الأصل بمعنى مثل ومثيل نحو : شِبْه وشَبَه وشَبِيه . وقيل : بل هي في الأصل الصِّفة .
وأما المثل في قولهم : " ضرب مثلاً " فهو القول السَّائر الذي فيه غرابةٌ من بعض الوجوه ، ولذلك حوفظ في لفظه فلم يغير .
و " الذي " : في محلّ خفض بالإضافة ، وهو موصول للمفرد المذكّر ، ولكن المراد به - هنا - جمع ولذلك روعي مَعْنَاه في قوله : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ } فأعاد الضمير عليه جمعاً ، والأولى أن يقال : إنَّ " الذي " وقع وصفاً لشيء يفهم الجمع ، ثم حذف ذلك الموصوف للدّلالة عليه .
والتقدير : ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد ، أو الجمع الذي اسْتَوْقَدَ ؛ ويكون قد روعي الوصف{[710]} مرة ، فعاد الضمير عليه مفرداً في قوله : { اسْتَوْقَدَ نَاراً } و " حوله " ، والموصوف أخرى فعاد الضمير عليه مجموعاً في قوله : " بنورهم " ، و " تركهم " .
وقيل : إنَّ المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المُسْتوقد ، وإنما شبهت قصّتهم بقصّة المستوقد ، ومثله قوله : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ } [ الجمعة : 5 ] ، وقوله : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ محمد : 20 ] .
وقيل : المعنى : ومثل كل واحد منهم كقوله : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً }
[ غافر : 67 ] أي : يخرج كلّ واحد منكم . ووهم أبو البقاء ، فجعل هذه الآية من باب ما حذفت منه النُّون تخفيفاً ، وأنّ الأصْل : " الذين " ثم خففت بالحذف ، وكأنه مثل قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] ، وقول الشاعر : [ الطويل ]
وَإِنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ *** هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ{[711]}
والأصل : " كالذين خَاضُوا " " وإنَّ الذين حانت " . وهذا وَهْم ؛ لأنه لو كان من باب ما حذفت النون منه لوجب مُطَابقة الضمير جمعاً كما في قوله تعالى : { كَالَّذِي خَاضُواْ } و " دِمَاؤُهُمْ " ، فلما قال تعالى : { اسْتَوْقَدَ } بلفظ الإفراد تبيّن أحد الأمرين المتقدّمين : إمّا بصلة من باب وقوع المفرد موقع الجمع ؛ لأن المراد به الجنس ، أو أنه من باب ما وقع فيه من صفة لموصوف يفهم الجمع .
وقال الزمخشري ما معناه : إنَّ هذه الآية مثل قوله تعالى : { كَالَّذِي خَاضُواْ } ، واعتل لتسويغ ذلك بأمرين .
أحدهما : أن " الذي " لما كان وصلةً لوصف المعارف ناسب حذف بعضه لاستطالته ، قال : " ولذلك نهكوه بالحذف ، فحذفوا ياءه ثم كسرته ، ثم اقتصروا منه على اللاَّم في أسماء الفاعلين والمفعولين " .
والأمر الثاني : أنّ جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون ، إنما ذلك علامةٌ لزيادة الدّلالة ، ألا ترى أنَّ سائر المَوْصُولاَتِ لَفْظُ الجَمْعِ والمفرد فيهن سواء ؟
أحدهما : أن قوله ظاهر في جَعْلِ هذه الآية من باب حذف نون " الذين " ، وفيه ما تقدّم من أنه كان ينبغي أن يُطَابق الضمير جمعاً كما في الآية الأخرى التي نظر بها .
والوجه الثاني : أنه اعتقد كون الموصول بقيته " الذي " ، وليس كذلك ، بل " أل " الموصولة اسم موصول مستقلّ ، أي : غير مأخوذ من شيء ، على أنَّ الراجح من جهة الدَّليل كون " أل " الموصولة حرفاً لا اسماً كما سيأتي .
وليس لمرجّح أن يرجّح قول الزمخشري بأنهم قالوا : إنَّ الميم في قولهم : " مُ الله " بقية " أيمن " ، فإذا انتهكوا " أيمن " بالحذف حتى صار على حرف واحد ، فأولى أن يقال بذلك فيما بقي على حرفين ، لأن " أل " زائدة على ماهية " الذي " ، فيكونون قد حذفوا جميع الاسم ، وتركوا ذلك الزائد عليه ، بخلاف " ميم " " أيمن " ، وأيضاً فإن القول بأن " الميم " بقية " أيمن " قول ضعيف مردود يأباه قول الجُمْهُور .
وفي " الَّذي " لُغَاتٌ ، أشهرها ثبوت الياء ساكنةً وقد تُشَدَّد مكسورة مطلقاً ، أو جاريةً بوجوه الإعراب ، كقوله : [ الوافر ]
وَلَيْسَ المَالُ فَاعْلَمْهُ بِمَالٍ *** وَإِنْ أَرْضَاكَ إلاَّ لِلَّذِيِّ
يَنَالُ بِهِ العَلاَءَ وَيَصْطَفِيهِ *** لأَقْرَبِ أَقْرَبَيْهِ وَلِلْقَصِيِّ{[712]}
فهذا يحتمل أن يكون مبنيًّا ، وأن يكون معرباً . وقد تُحْذَفُ ساكناً ما قبلها ؛ كقول الآخر : [ الطويل ]
فَلَمْ أَرَ بَيْتاً كَانَ أَحْسَنَ بَهْجَةً *** مِنَ اللَّذْ بِهِ مِنْ آلِ عَزَّةَ عَامِرُ{[713]}
أو مكسوراً ؛ كقوله : [ الرجز ]
واللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكَانَتْ بَرَّا *** أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشْمَخِرَّا{[714]}
ومثل هذه اللغات في " التي " أيضاً .
قال بعضهم : " وقولهم : هذه لغات ليس بجيِّد ؛ لأن هذه لم ترد إلاّ ضرورةً ، فلا ينبغي أن تسمى لغاتٍ " .
و " استوقد " : " استفعل " بمعنى " أَفْعَل " ، نحو : " استجاب " بمعنى " أَجَابَ " ، وهو رأي الأخفش وعليه قول الشاعر : [ الطويل ]
وَدَاعٍ دَعَا : يَا مَنْ يُجِيبُ إلى الهُدَى *** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ{[715]}
وقيل : بل السّين للطلب ، ورجّح قول الأخفش بأن كونه للطَّلب يستدعي حذف جملة ، ألا ترى أن المعنى : استدعوا ناراً فأوقدوها ، فلما أضاءت ؛ لأن الإضاءة لا تنشأ عن الطلب إنما تنشأ عن الإيقاد .
والفاء في قوله : " فَلَمَّا " للسبب .
وقرأ ابن السَّميفع : " كمثل الذين " بلفظ الجمع ، واستوقد بالإقراد ، وهي مُشْكلة ، وقد خرجوها على أوجه أضعف منها وهي التوهّم ، أي : كأنه نطق ب " مَنْ " ؛ إذ أعاد ضمير المفرد على الجمع كقولهم ، " ضربني وضربت قومك " أي : ضربني من ، أو يعود على اسم فاعل مفهوم من " استوقد " ، والعائد على الموصول مَحْذوف ، وإن لم يكمل شرط الحذف ، والتقدير : استوقدها مستوقدٌ لهم .
وهذه القراءة تقوّي قول من يقول : إنّ أصل " الذي " : " الذين " ، فحذفت النون .
و " لَمَّا " حرف وجوب لوجوب هذا مذهب سيبويه .
وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء ، أنها ظرف بمعنى " حين " ، وأن العامل فيها جوابها ، وقد ردّ عليه بأنها أجيبت ب " ما " النافية ، و " إذا " الفُجَائية ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً }
وقال تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] ، و " ما " النافية ، و " إذا " الفُجَائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما ، فانتفى أن تكون ظرفاً .
وتكون " لما " أيضاً جازمة لفعل واحدٍ ، معناها نَفْي الماضي المتّصل بزمن الحال ، ويجوز حذف مجزومها ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولَمَّا *** فَنَادَيْتُ القُبُورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ{[716]}
وتكون بمعنى " إلاّ " قال تعالى : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [ الزخرف : 35 ] في قراءة من قرأ بالتَّشديد{[717]} .
و " أضاء " : يكون لازماً ومتعدياً ، فإن كان متعدياً ، ف " ما " مفعول به ، وهي موصولة ، و " حوله " ظرف مكان مخفوض به ، صِلةٌ لها ، ولا يتصرّف ، وبمعناه : حَوَال ؛ قال الشاعر : [ الرجز ] .
وأَنَا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوَالَكَا{[718]} *** . . . . . . . . . . . . . . . .
ويُثَنَّيان ؛ قال عليه الصلاة والسلام : " اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا " {[719]} .
ويجوز أن تكون " ما " نكرة موصوفة ، و " حوله " صفتها ، وإن كان لازماً ، فالفاعل ضمير " النار " أيضاً ، و " ما " زائدة ، و " حوله " منصوب على الظرف العامل فيه " أضاء " .
وأجاز الزمخشري أن تكون " ما " فاعلة موصولة ، أو نكرة موصولة ، وأُنِّثَ الفعل على المعنى ، والتقدير : فلما أضاءت الجهةُ التي حوله أو جهةٌ حوله .
وأجاز أبو البقاء فيها أيضاً أن تكون منصوبة على الظرف ، وهي حينئذ : إما بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، والتقدير : فلما أضاءت النَّار المكان الذي حوله ، أو مكاناً حوله ، فإنه قال : يقال : ضاءت النّار ، وأضاءت بمعنى ، فعلى هذا تكون " ما " ظرفاً .
والثاني : هي نكرة موصوفة ، أي : مكاناً حوله .
وفي عبارته بعض مُنَاقشة ، فإنه بعد حكمه على " ما " بأنها ظرفية كيف يُجَوِّزُ فيها - والحالة هذه - أن تكون زائدة ، وإنما أراد في " ما " هذه من حيث الجملة ثلاثة أوجه .
أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ *** دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الجَزْعَ ثَاقِبُهْ{[720]}
يحتمل التعدّي واللزوم كالآية الكريمة .
وقرأ ابن السَّمَيْفع : " ضاءت " ثلاثياً .
قوله : " ذهب الله بنورهم " هذه الجملة الظاهر أنها جواب ل " ما " .
وقال الزمخشري : " جوابها محذوف ، تقديره : فلما أضاءت خَمَدَتْ " وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب ، وجعل جملة قوله : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل .
وقد رد عليه بعضهم هذا بوجهين :
أحدهما : أن هذا التقدير مع وجود ما يغني عنه ، فلا حاجة إليه ؛ إذ التقديرات إنما تكون عند الضَّرورات .
والثَّاني : أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية .
و " بنورهم " متعلّق ب " ذهب " ، والباء فيه للتَّعدية وهي مُرَادفة للهمزة في التَّعدية ، هذا مذهب الجمهور .
وزعم أبو العباس أنَّ بينهما فرقاً ، وهو أن الباء يلزم معها مُصَاحبة الفاعل للمفعول في ذلك الفِعْلِ الذي قبله ، والهزة لا يلزم فيها ذلك .
فإذا قلت : " ذهبت بزيد " فلا بُدَّ أن تكون قد صاحبته في الذَّهَاب فذهبت معه .
وإذا قلت : أذهبته جاز أن يكون قد صحبته وألاَّ يكون .
وقد رد الجمهور على المُبَرّد بهذه الآية ؛ لأن مصاحبته - تعالى - لهم في الذهاب مستحيلة .
ولكن قد أجاب [ أبو الحسن ] ابن عُصْفور عن هذا بأنه يجوز أن يكون - تعالى - قد أسند إلى نفسه ذهاباً يليق به ، كما أسند إلى نفسه - تعالى - المجيء والإتيان على معنى يليق به ، وإنما يُرَد عليه بقول الشاعر : [ الطويل ] .
دِيارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنَى *** تَحُلُّ بِنَا لَوْلاَ نَجَاءُ الرَّكائِبِ{[721]}
أي : تجعلنا جلالاً بعد أن كُنَّا مُحْرِمِين بالحج ، ولم تكن هي مُحْرِمَة حتى تصاحبهم في الحِلِّ ؛ وكذا قول امرئ القيس : [ الطويل ]
كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ *** كَمَا زَلَّتِ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ{[722]}
" الصفواء " الصخرة ، وهي لم تصاحب الذي تزله .
والضمير في " بنورهم " عائد على مَعْنَى الذي كما تقدم .
وقال بعضهم : هو عائد على مُضَاف محذوف تقديره : كمثل أصحاب الذي استوقد ، واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير ، قال : حتى يتطابق المشبه والمشبه به ؛ لأنّ المشبه جمع ، فلو لم يقدر هذا المُضَاف ، وهو " أصحاب " لزم أن يشبه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد . ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على مَنْعِ تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما ، وأيضاً فإنَّ المشبّه والمشبه به إنما هو القصّتان ، فلم يقع التشبيه إلاَّ بين قصَّتين إحداهما مُضافة إلى جمع ، والأخرى إلى مُفْرد .
قوله : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ههذه جملة معطوفة .
فإن قيل : لم قيل : ذهب بنورهم ، ولم يقل : أذهب الله نورهم ؟
فالجواب : أن معنى أذهبه : أزاله ، وجعله ذاهباً ، ومعنى ذهب به : إذا أخذه ، ومضى به معه ، ومنه : ذهب السُّلطان بماله : أخذه ، قال تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [ يوسف : 15 ] فالمعنى : أخذ الله نوره ، وأمسكه ، فهو أبلغ من الإذهاب ، وقرأ اليماني : " أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ " .
فإن قيل : هلاّ قيل : ذهب الله بضوئهم [ لقوله : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ } ؟
الجواب : ذكر النور أبلغ ؛ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة ]{[723]} .
فلو قيل : ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب [ الكمال ، وبقاء ] ما يسمى نوراً والغرض إزالة النُّور عنهم بالكلية{[724]} ، أَلاَ ترى كيف ذكر عقيبه : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } والظلمة عبارة عن عدم النور .
وقوله : [ { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } ]{[725]} هذه جملة معطوفة على قوله : " ذهب الله " ، وأصل الترك : التخلية ، ويراد به التّصيير ، فيتعدّى لاثنين على الصَّحيح ؛ كقول الشَّاعر : [ البسيط ]
أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ *** فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ{[726]} {[727]}
فإن قلنا : هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير ، والمفعول الثاني : " في ظلمات " و " لا يبصرون " حال ، وهي حال مؤكدة ؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ .
وصاحب الحال : إما الضمير المنصوب ، أو المرفوع المُسْتَكِنّ في الجار والمجرور .
ولا يجوز أن يكون " في ظلمات " حالاً و " لا يبصرون " هو المفعول الثاني ؛ لأن المفعول الثاني خبر في الأصل ، والخبر لا يؤتى به للتأكيد ، فإذا جعلت " في ظلمات " حالاً فهم من عدم الإبصار ، فلو يفد قولك بعد ذلك : " لا يبصرون " إلا التَّأكيد ، لكن التأكيد ليس من شَأْنِ الأخبار ، بل من شأن الأحوال ؛ لأنها فضلات .
ويؤيّد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرئ القيس : [ الطويل ]
إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ *** بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ{[728]}
أعربوا : " شقّ " مبتدأ و " عندنا " خبره ، و " لم يُحَوَّلِ " جملة حالية مؤكدة ؛ قالوا : وجاز الابتداء بالنكرة ، لأنه موضع تفصيل ، وأبوا أن يجعلوا " لم يُحَوَّلِ " خبراً ، و " عندنا " صفة ل " شق " مُسَوِّغاً للابتداء به قالوا : لأنه فهم معناه من قوله : " عندنا " ؛ لأنه إذا كان عنده عُلِمَ منه أنه لم يُحَوَّل .
وقد أعربه أبو البَقَاءِ كذلك ، وهو مردود بما ذكرت .
ويجوز إذا جعلنا " لا يبصرون " هو المفعول الثّاني أن يتعلّق " في ظُلُمَاتٍ " به ، أو ب " تركهم " ، التقدير : " وتركهم لا يبصرون في ظلمات " . وإن كان " ترك " متعدياً لواحد كان " في ظُلُمَاتٍ " متعلّقاً ب " تركهم " ، و " لا يبصرون " حال مؤكّدة ، ويجوز أن يكون " في ظُلُمَاتٍ " حالاً من الضَّمير المنصوب في " تركهم " ، فيتعلّق بمحذوف ، و " لا يبصرون " حال أيضاً ، إما من الضمير في تركهم ، فيكون له حالان ، ويجري فيه الخلاف المتقدّم ، وإما من الضمير المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور قبله ، فتكون حالين متداخلتين .
فإن قيل : لم حذف المفعول من " يبصرون " ؟
فالجواب : أنه من قبيل المَتْرُوك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بِالبَالِ ، لا من قبيل المقدّر المَنْوِيّ كأنّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً .
قال ابن الخطيب{[729]} : ما وجه التمثيل في أعطي نوراً ، ثم سلب ذلك النور ، مع أنّ المنافق ليس هو نور ، وأيضاً أن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً ، فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم ، والمنافقون لا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان ، وأيضاً مستوقد النَّار قد اكتسب لنفسه النور ، والله - تعالى - ذهب بنوره ، وتركه في الظُّلمات ، والمنافق لم يكتسب خيراً ، وما حصل له من الحيرة ، فقد أتي فيه من قبل نفسه ، فما وجه التَّشبيه ؟
والجواب : أنَّ العلماء ذكروا في كيفية التَّشبيه وجوهاً :
أحدها : قال السّدي : إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله - عليه الصلاة والسلام - إلى " المدينة " ثم إنهم نافقوا ، والتشبيه - هاهنا - في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً ، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور ، ووقعوا في حيرة من الدنيا ، وأما المتحيّر في الدِّين ، فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبَد الآبدين{[730]} .
وثانيها : إن لم يصحّ ما قاله السّدي بل كانوا مُنَافقين من أول الأمر ، فهاهنا تأويل آخر .
قال ابن عباس : وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي ، والحسن : نزلت في المُنَافقين يقول : مَثَلُهُمْ في نفاقهم كَمَثَلِ رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مَغَارَةٍ ، فاستدفأ ، ورأى ما حوله فاتَّقَى مما يخاف ، فَبَيْنَا هو كذلك إذْ طُفِئَتْ ناره ، فبقي في ظلمة خائفاً متحيراً ، فكذلك المنافقون بإظهارهم كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم ، وأولادهم ، وناكحوا المؤمنين ، وأورثوهم ، وقاسموهم الغَنَائم ، وسائر أحكام المسلمين ، فذلك نورهم ، فإذَا ماتوا عادوا إلى الظُّلْمَة والخوف{[731]} ، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدَّائم مثل الذّرة ، شبههم بمستوقد النَّار الذي انتفع بضوئها قليلاً ، ثم سلب ذلك ، فدامت حسرته وحيرته للظُّلمة العَظِيمةِ التي جاءته عقيب النُّور اليسير .
وثالثها : أن نقول ليس التَّشبيه في أنَّ للمنافق نوراً ، بل وجه التَّشْبيه بالمستوقد أنه لما زال النُّور عنه تحيَّروا تحيُّرَ من كان في نور ثم زال عنه أشَدّ من تحيّر سالك الطريق في ظلمة مستمرة ، لكنه - تعالى - ذكر النور في مستوقد النَّار لكي يصحّ أن يوصف بهذه الظُّلمة الشديدة ، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة .
ورابعها : قال مُجَاهد : إنَّ الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به ، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنِّفَاق ، ومن قال بهذا قال : إن المثل إنما عطف على قوله :
{ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : 14 ] فالنار مثل لقولهم : " آمنا " وذهابه مثل لقولهم للكُفّار " إنا معكم " .
فإن قيل : كيف صار ما يُظْهره المنافق من كلمة الإيمان ممثلاً بالنور ، وهو حين تكلّم بها أبطن خلافها ؟
قلنا : لو ضم إلى القول اعتقاداً له وعملاً به لأتم النور لنفسه ، لكنه لمَّا لم يفعل لم يتم نُوره ، وإنما سمى مجرّد ذلك القول نوراً ؛ لأنه قول حقّ في نفسه .
وخامسها : يجوز أن يكون استيقاد النار عبارةً عن إظهار المُنَافق كلمة الإيمان ، وإنما سمى نوراً ؛ لأنه يتزين به ظاهراً فيهم ، ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم ، ثم إنّ الله يذهب ذلك النور بِهَتْكِ ستر المُنَافق بتعريف نبيّه والمؤمنين حقيقة أمره ، فيظهر له اسم النِّفَاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان ، فيبقى في ظُلُمَاتٍ لا يبصر ؛ إذ النُّور الذي كان له قبل كَشْفِ الله أمره قد زال .
وسادسها : أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضَّلاَلة بالهُدَى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هُدَاهم الذي باعوه بالنار المُضِيئة ما حول المستوقد ، والضَّلاَلة التي اشتروها ، وطبع بها على قُلُوبِهِمْ بذهاب الله بنورهم ، وتركه إيّاهم في ظلمات .
وسابعها : يجوز أن يكون المستوقد - هاهنا - مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى ، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار ، فإنَّ الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] .
وثامنها : قال سعيد بن جبير : نزلت في اليهود ، وانتظارهم لخروج النبي - عليه الصلاة والسلام - لإيقاد النَّار ، وكفرهم به بعد ظهوره ، كزوال ذلك النور ؛ قاله محمد بن كَعْبٍ ، وعطاء .
والموقود - هنا - هو سطوع النَّار وارتفاع لهبها .
والنَّار : جوهر لطيف مضيء حامٍ محرق ، واشتقاقها من نَارَ يَنُورُ إذا نفر ؛ لأن فيها حركةً واضطراباً ، والنور مشتق منها ، وهو ضوءها ، والمنار العلامة ، والمَنَارة هي الشَّيء الذي يؤذن عليها ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع عليه السّراج منارة ، ومنه النُّورَة لأنها تطهر البدن ، والإضاءة فرط الإنارة ، ويؤيده قوله تعالى :
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً } [ يونس : 5 ] .
وما حول الشيء فهو الذي يتّصل به تقول : دار حوله وحواليه .
والحَوْل : السَّنة ؛ لأنها تحول ، وحال عن العَهْدِ أي : تغير ، ومنه حال لونه .
والحوالة : انقلاب الحَقّ من شخص إلى شخص ، والمُحَاولة : طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له ، والحَوَل : انقلاب العَيْنِ ، وَالحِوَل : الانقلاب قال تعالى : { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [ الكهف : 108 ] .
والظّلمة : عدم النُّور عما من شأنه أنْ يَسْتَنِيرَ ، والظّلم في الأصل عِبَارَةٌ عن النُّقصان قال تعالى : { ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً }
[ الكهف : 33 ] أي : لم تَنْقُص .
والظّلم : الثلج ، لأنه ينقص سريعاً . والظَّلَمُ : ماء آسنٌ وطلاوته وبياضه تشبيهاً له بالثلج .