اعلم أنَّه - تعالى - لَمَّا بَيَّنَ كون القرآن مُعْجزاً ، أورد الكُفَّار هنا شبهةً قدحاً في ذلك ، وهي أنَّهُ جاء في القرآن ذِكْرُ النَّحلِ ، والعنكبوت ، والنَّملِ ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفُصَحَاء ، فاشتمالُ القرآن عليها يقدحُ في فصاحته ، فَضْلاً عن كونه مُعْجزاً ، وأجاب الله - تعالى - عنه بأنَّ صِغَر هذه الأَشْيَاء لا يقدح في فصاحةٍ ، إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة ، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تَعَلُّق هذه الآية بما قبلها .
روي عن ابن عبّاس - رضي اللهُ تعالى عنه - أنَّه لما قال :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ } [ الحج : 73 ] فطعن في أصنامهم ، ثُمَّ شَبَّه عبادتها ببيت العَنْكَبُوت .
قالت اليهود : أي قدر للذُّبَاب والعنكبوت حتَّى يَضْربَ اللهُ المَثَلَ بهما ؟ ! فنزلت هذه الآية{[932]} .
وقيل : إنَّ المُنَافقين طَعَنوا في ضرب الأمثالِ بالنَّار ، والظلمات ، والرَّعد ، والبَرْق في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً } [ البقرة : 17 ] وقوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ } . قالوا : اللهُ أَجَلُّ وأعلى من أن يضرِبَ الأمثالَ ، فأنزل اللهُ هذه الآية{[933]} ، وهذه رواية أبي صالح عن ابن عبّاس .
وروى عطاء عن ابن عبّاس أيضاً أنَّ هذا الطعن كان من المشركين{[934]} .
فقال القَفَّالُ رحمه الله : الكُلُّ محتملٌ هاهنا . أمَّا اليهود ، فلأنه قيل في آخر الآية : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وهذا صفة اليهود ؛ لأنَّ الخطاب بالوفاءِ بالعهدِ إنَّمَا هو لبني إسرائيل ، وأمَّّا الكفَّارُ والمنافقون فقد ذكروا في سورة " المدثر " : { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً } [ المدثر : 31 ] ، فالذين في قلوبهم مرض هم الكافرون المُنَافقون ، والذين كفروا يحتمل المشركين ، لأنَّ السورة مَكِّيَةٌ ، فقد جُمِعَ الفريقان هاهنا .
إذا ثبت هذا ، فنقول : احتمال الكُلِّ هاهنا قائمٌ ؛ لأنَّ الكافرين والمُنافقين واليهود كانوا مُتَوَافقين في إيذاء الرَّسول ، وقد مضى من أوّلِ السُّورةِ إلى هذا الموضع ذكر المنافقين ، واليهود ، والمشركين ، وكُلُّهم من الَّذين كفروا .
ثُمَّ قال القَفَّالُ : " وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب ؛ لأنَّ معناه مفيدٌ في نفسه " .
فَصْلٌ في معنى الحياء واشتقاقه
الحياء : تَغَيُّرٌ وانكسارٌ يعتري الإنسانَ من خوفِ ما يُعَابُ بِهِ ويُذَم{[935]} ، واشتقاقه من الحياة ، ومعناه على ما قال الزمخشري : نقصت حياته ، واعتلت مجازاً ، كما يُقَالُ : نَسِيَ وخَشِيَ ، وشظي القوسُ : إذَا اعتلت هذه الأعضاء ، جُعِلَ الحييُّ لما يعتريه من الانكسار ، والتَّغَيُّرِ منتكس{[936]} القوة منتقص الحياة كما قالوا : فلان هلك من كذا حياءً ، ومات حياءً ، وذاب حياءً ، يعني بقوله : " نَسِيَ وخَشِيَ وشظي " أي : أصيبَ نَسَاهُ ، وهو " عرق " وحَشَاه ، وهو ما احتوى عليه البَطْنُ ، وشظاهُ وهو عَظْم في الوَرِك ، واستعماله هُنَا في حَقِّ الله - تعالى - مَجَازٌ عن التَّرْكِ .
وقيل : مجاز عن الخِشْيَةِ ؛ لأنَّها أيْضاً من ثمراته ، وَرَجَّحَهُ الطَّبريُّ ، وجعله الزمخشريُّ من باب المُقَابلةِ ، يعني أنَّ الكُفَّارَ لَمَّا قالوا : أَمَا يَسْتَحي رَبُّ محمد أن يضرب المثَلَ بالمُحَقّرات ، " قُوبِلَ " قولهم ذلك بقوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } ؛ [ ونظيره قول ]{[937]} أبي تمَّام : [ الكامل ]
مَنْ مُبْلِغٌ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّهَا *** أَنِّي بَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ المَنْزِلِ{[938]}
لو لم يذكر بناء الدَّارِ لم يصحّ بناء الجار .
وقيل : معنى لا يستحيي ، لا يمتنع ، وأصْلُ الاستحياء الانقباضُ عن الشَّيء ، والامتناعُ منه ؛ خوفاً من مُوَاقعة{[939]} القبيح ، وهذا محالٌ على الله تعالى ، وفي " صحيح مسلم " عن أم سلمة قالت : " جاءت أم سليم إلى النِّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسولَ الله إنَّ اللهَ لا يَسْتَحي من الحَقِّ " {[940]} المعنى لا يأمر بالحَيَاءِ فيه ، ولا يمتنع من ذكره .
قال ابن الخطيب : " القانون في أمثال هذه الأشياء ، أنَّ كُلَّ صفةٍ ثبتت للعبدِ مما يختص{[941]} بالأجسام ، فإذا وصف الله بذلك ، فذلك محمولٌ على نهايات الأعراض ، لا على بدايات الأعراض ، مثاله : أن الحياء حالةٌ تَحْصُلُ للإنسان ، ولكن لها مبدأ ومنتهى ، أمَّا المبدأ فهو التغيُّر الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن يُنْسبَ إليه القبيح ، وأمَّا النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل ، فإذا ورد الحياءُ في حقِّ الله تعالى ، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته ، بل تركُ الفعلِ الذي هو منتهاه وغايته ، وكذلك الغضبُ [ له مقدّمةٌ ]{[942]} وهو غليان دم القَلْبِ وشهوة الانتقام{[943]} وله{[944]} غاية ، وهي إنزال العقاب بالمغضوب عليه ، فإذا وصفنا الله - تعالى - بالغَضَبِ ، فليس المراد ذلك المبدأ ، يعني شهوة الانتقام ، وغليان دم القَلْبِ ، بل المرادُ تلك النّهاية ، وهي إنزال العقاب{[945]} ، فهذا هو القانون الكُلِّ في هذا الباب " .
قال القاضي : ما لا يجوز على الله - تعالى - من هذا الجنس إثباتاً ، فيجب أَلاَّ يطلق على طريقة النفي عليه ، وإنَّما يقال : إنَّهُ - تعالى - لا يوصفُ به ، فأمَّا أن يقال : " لا يستحي " ويطلقُ عليه فمحالٌ ؛ لأنَّهُ يوهم نفي ما يجوز عليه ، وما ذكره الله - تعالى - في كتابه من قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] ، { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [ الإخلاص : 3 ] فهو بصورة النفي ، وليس بنفي على الحقيقة ، وكذلك قوله تعالى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ } [ المؤمنون : 91 ] ، وكذلك قوله تعالى : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائز أن يُطْلقَ في المخاطبة ، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلاَّ مع بيان أنَّ ذلك مُحَالٌ .
ولقائلٍ أن يقولَ : لاَ شَكَّ أنَّ هذه الصِّفَات منتفيةٌ عن الله تعالى ، فكان الإخبار عن انتفائها يدلُّ على صحّتها عليه .
فنقول : هذه الدلالة ممنوعة ، وذلك أن تخصيص هذا النفي بالذكر ، لا يَدُلُّ على ثبوته لغيره ، لو قرنَ اللَّفظ بما يَدُلُّ على انتفاء الصِّحّة كان ذلك أحسن ، من حيث إنه يكون مبالغة في البيان ، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً .
قوله : " لا يستَحْيي " جملة في محلِّ الرفع خبراً ل " أن " ، واستفعل هنا للإغناء عن الثُّلاثي المجرّد .
وقال الزمخشري : " إنَّهُ مُوَافق له أي : قد ورد " حَيي " ، و " استَحْيى " بمعنى واحد ، والمشهور : اسْتَحْيَى يَسْتَحْيي فهو مستحيٍ ومُسْتَحْيًى منه من غير حَذْف " .
قال القرطبي{[946]} : و " يستحيي " أصله يَسْتَحْييُ عينه ولامه حرفا علة أعلّت " اللام " منه بأن استثقلت الضمةُ على " الياء " فسكنت ، والجمعُ مستحيون ومستحيين ، وقد جاء استحى يستحي فهو مستح مثل : اسْتَقَى يَسْتَقِي .
وقرأ{[947]} به ابن محيصن .
ويروى عن ابن كثير ، وهي لغة " تميم " و " بكر بن وائل " ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى " الحاء " فسكنت ، ثم استثقلت الضَّمة على الثانية ، فسكنت ، فحذف إحداهما للالتقاء ، والجمعُ مستحون ومستحين ، قاله الجوهري .
ونقل بعضهم أن المحذوف هنا مختلفٌ فيه ؛ فقيل : عينُ الكلمة ، فوزنُه يَسْتَفِل .
وقيل : لامُه ، فوزنه يَسْتَفِع ، ثُمَّ نُقِلت حركةُ اللاَّم على القول الأوّل ، وحركةُ العَيْن على القول الثاني إلى الفاء ، وهي الحاء ؛ ومن الحذف قولُه : [ الطويل ]
ألا تَسْتَحِي مِنَّا المُلُوكُ وَتَتَّقِي *** مَحَارِمَنا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ{[948]}
إذا ما اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ *** كَرَعْنَ بِسبْتٍ في إِنَاءٍ مِنَ الوَرْدِ{[949]}
و " استحيي " يتعدَّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جرٍّ تقول : استحييتُه وعليه :
فيحتمل أن يكون قد تعدَّى في هذه الآية إلى أن يضرب بنفسه ، فيكون في محل نصب قولاً واحداً ، ويحتمل أن يكون تَعَدَّى إليه بحرف الجر المحذوف ، وحينئذٍ يجري الخلافُ المتقدّم في قوله : " أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ " .
و " يَضْرِب " معناه : يُبَيِّن فيتعدَّى لواحدٍ .
وقيل : معناه التصييرُ ، فيتعدَّى لاثنين نحو : " ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِناً " .
وقال بعضهم : " لا يتعدَّى لاثنين إلاَّ مع المثل خاصة " ، فعلى القول الأوّلِ يكونُ " مَثَلاً " مفعولاً و " ما " زائدة .
وقال أبو مسلم الأصفهاني : " معاذ الله أنْ يكون في القرآن زيادة " .
وقال ابن الخطيب{[950]} : والأصح قول أبي مُسْلِمٍ ؛ لأن الله - تعالى - وصف القرآن بكونه : هدى وبَيَاناً ، وكونه لَغْواً ينافي ذلك ، فعلى هذا يكون " ما " صفة للنكرة قبلها ، لتزداد النكرة اتساعاً . ونظيره قولهم : " لأَمْرٍ مَّا جَدَعَ قَصيرٌ أَنْفَهُ " وقولُ امرىء القيس : [ المديد ]
وَحَدِيثُ الرَّكبِ يَوْمَ هُنَا *** وَحَدِيثٌ مَّا عَلَى قِصَرِهْ{[951]}
وقال أبو البَقَاءِ : وقيل : " ما " نَكِرَةٌ موصوفةٌ ، ولم يجعل بعوضة صفتها ، بل جعلها بدلاً منها ، وفيه نظرٌ ؛ إذ يحتاج أن يُقدِّر صفةً محذوفة ولا ضرورة إلى ذلك ، فكان الأولى أن يجعل بعوضةً صفتها بمعنى أنَّهُ وصفها بالجنس المُنكَّرِ لإبهامِه ، فهي في معنى " قليل " ، وإليه ذهب الفرّاء والزَّجَّاجُ وثَعْلَبٌ ، وتكون " ما " وصفتها حينئذٍ بدلاً من " مَثَلاً " و " بعوضة " بدلاً من " ما " ، أو عطف بيان لها ، إن قيل : " ما " صفة ل " مثلاً " ، أو نعتٌ ل " ما " إن قيل : إنَّها بدلٌ من " مثلاً " كما تقدَّم في قول الفَرَّاء ، وبدلٌ من " مثلاً " أو عطف بيان له إن قيل : إن " ما " زائدة .
وقيل : " بعوضة " هو المفعول ، و " مثلاً " نُصِبَ على الحالِ قُدِّمَ على النكرةِ .
وقيل : نُصِبَ على إسقاط الخافض ، التقدير : ما بين بعوضةٍ ، فلمَّا حُذِفَتْ " بين " أعربت " بعوضة " بإعرابها ، وتكون الفاء في قوله : " فما فوقها " بمعنى إلى ، أي : إلى ما فوقها ، ويعزى هذا للكسائي والفرّاء وغيرهم من الكوفيين ؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
يَا أَحْسَنَ النَّاسِ مَا قَرْناً إلَى قَدَمٍ *** وَلاَ حِبَالَ مُحِبٍّ وَاصِلٍ تَصِلُ{[952]}
وحَكَوْا : " له عشرون ما ناقةً فَجَمَلاً " ، وعلى القول الثَّاني يكونُ " مثلاً " مفعولاً أوَّلَ ، و " ما " تحتمل الوجهين المتقدمين ، و " بعوضةً " مفعولٌ ثانٍ .
وقيل : بعوضةً هي المفعولُ الأولُ ، و " مَثَلاً " هو الثَّاني ، ولَكِنَّهُ قُدِّم .
وتلخَّص مما تقدَّم أنَّ في " ما " ثلاثة أوجه :
زائدة ، صفة لما قبلَها ، نكِرةٌ موصوفةٌ ، وأنَّ في " مثلاً " ثلاثة أيضاً :
مفعول أوّل ، أو مفعول ثان ، أو حالٌ مقدّمة{[953]} ، وأنَّ في " بعوضة " تسعة أوجه ، والصوابُ من ذلك كُلِّه أن يكون " ضَرَبَ " متعدِّياً لواحدٍ بمعنى بَيَّنَ ، و " مثلاً " مفعولٌ به ، بدليل قوله : " ضُرِبَ مَثَلٌ " ، و " ما " صفةٌ للنَّكِرة ، و " بعوضةً " بدلٌ لا عطف بيان ، لأن عطف البيان ممنوع عند جمهور البصريين في النكرات .
وقرأ{[954]} إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ والضَّحَّاكُ ورؤبة بن العجاج برفع " بعوضةٌ " واتفقوا على أنَّها خبرٌ لمبتدأ ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ ، فقيل : هو " ما " على أنَّها استفهاميةٌ أي : أيُّ شيء بعوضةٌ ، وإليه ذهب الزمخشري ورَجَّحَهُ .
وقيل : المبتدأ مضمرٌ تقديرُه : هو بعوضةٌ ، وفي ذلك وجهان :
أحدهما : أن تُجْعَلَ هذه الجملة صلة ل " ما " لكونها بمعنى الذي ، ولكنَّهُ حذف العائد ، وإن لم تَطُل الصِّلةُ ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلاَّ في " أيّ " خاصّة لطولها بالإضافة ، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ ، أو ضرورة كقراءة{[955]} : { تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ } [ الأنعام : 154 ] وقوله : [ البسيط ]
مَنْ يُعَنْ يِالحَقِّ لاَ يَنْطِقْ بِمَا سَفَهٌ *** وَلاَ يَحِدْ عَنْ سَبِيلِ الحَمْدِ وَالكَرَمِ{[956]}
أي : الذي هو أحسنُ ، وبما هو سَفَهٌ ، وتكونُ " ما " على هذا بدلاً من " مثلاً " كأنَّهُ قيل : مثلاً الذي هو بعوضةٌ .
قال النَّحَّاسُ{[957]} : " والحذفُ في " ما " أقبحُ منه في " الذي " لأن " الذي " إنّما له وجه واحد ، والاسم معه أطول " .
والثاني : أن تُجْعَلَ " ما " زائدة ، أو صفةً ، وتكون " هو بعوضةٌ " جملة كالمفسِّرة لما انطوى عليه الكلامُ .
ويقال : إنَّ معنى : " ضربتُ له مثلاً " مَثَّلْتُ له مَثَلاً ، وهذه الأبنية على ضربٍ واحدٍ ، وعلى مثال [ واحد ]{[958]} ونوعٍ واحد .
والضربُ : النوعُ ، والبعوضةُُ : واحِدةُ البعوض ، وهو معروف ، وهو في الأَصْلِ وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع ، مأخوذ من البَعْض ، وهو القَطْع ، وكذلك البَضْع والعَضْب ؛ قال : [ الوافر ]
لَنِعْمَ البَيْتُ بَيْتُ أَبِي دِثَارٍ *** إِذَا مَا خَافَ بَعْضُ القَوْمِ بَعْضَا{[959]}
وقال الجوهري : البعوض : البَقُّ ، الواحدة بعوضة ، سُميت بذلك لصغرها .
اعلم أنّ ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ، وقد اشتهر العربُ في التمثيل بأحقر الأشياء ، فقالوا في التمثيل بالذَّرَّةِ : " أجمع من ذَرَّةٍ " ، و " أضبط من ذرَّة " ، " وأخفى من ذَرَّةٍ " ، وفي التمثيل بالذُّباب : " أجرأ من الذُّبَاب " ، " وأخطأ من الذُّبَاب " ، " وأطيش من الذباب " ، و " أشبه من الذبابِ بالذباب " ، " وألخّ من الذُّبَاب " .
وفي التمثيل بالقراد : " أسمع من قراد " ، وأضعف من قرادة ، وأعلق من قرادة ، وأغم من قرادة ، وأدبّ من قرادة .
وقالوا في الجراد : أَطْيَرُ من جَرَادة ، وأحْطَم من جَرَادة ، وأَفْسد من جرادة ، وأصفى من لعاب الجرادة .
وفي الفراشة : " أضعف من فراشة " ، " وأجمل من فراشة " ، و " أطيش من فراشة " .
وفي البعوضةِ : " كلفني مخّ البعوضة " ، مثلٌ في تكليف ما لا يُطَاق . فقولهم : ضرب الأمثال لهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى .
قلنا : هذا جَهْلٌ ، لأنَّهُ - تعالى - هو الذي خلق الكبير والصغير ، وحكمه في كُلِّ ما خلق وبرأ عام ؛ لأنَّه قد أحكم جميعه ، وليس الصغير أخفّ عليه من العظيم ، ولا العظيم أصعب عليه من الصَّغير ، وإذا كان الكُلُّ بمنزلةٍ واحدةٍ لم يكن الكبير أَوْلَى من أن يضربه مثلاً لعباده من الصغير ، بل المعتبر فيه ما يليقُ بالقضيَّةِ ، وإذا كان الأليق بها الذُّباب والعنكبوت ، ضرب المثل بهما ، لا بالفيل والجمل ، فإذا أراد أن يُقَبِّحَ عبادتهم للأصنام ، ويُقَبِّحَ عدولهم عن عبادة الرحمان ، صَلحَ أن يضرب المثل بالذُّبَاب ، لِيُبَيِّنَ أن قدر مَضَرَّتها لا تندفع بهذه الأصنام ، ويضرب المثل ببيت العَنْكَبُوت ؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ عبادتها أَوْهَى وأضعف من ذلك كُلَّما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح ، وضرب المَثَلِ بالبعوضة ؛ لأَنَّهُ من عجائب خلق الله تعالى ؛ فإنه صغير جِدًّا ، وخرطومه في غاية الصغر ، ثُمَّ إنَّهُ من ذلك مجوّف ، ثمَّ ذلك الخرطوم مع فرط صغره ، وكونه مجوّفاً يغوص في جلد الفِيل والجَامُوس على ثَخَانَتِهِ ، كما يضرب الرجل أصابعه في الخبيص ، وذلك لما رَكَّبَ الله في رأس خرطومه من السم .
قوله : { فَمَا فَوْقَهَا } قد تقدَّم أنَّ " الفاء " بمعنى " إلى " ، وهو قولٌ مرجوحٌ جَدًّا ، و " ما " في " فَمَا فَوْقَهَا " إن نصبنا " بعوضة " كانت معطوفةً عليها موصولةً بمعنى " الذي " ، وصلتُهَا الظَّرفُ ، أو موصوفةً وصفتها الظرفُ أيضاً ، وإن رفعنا " بعوضةٌ " ، وجَعَلْنَا " ما " الأولى موصولة أو استفهامية ، فالثانية معطوفة عليها ، لكن في جَعْلِنَا " ما " موصولةً يكون ذلك من عَطْفِ المفردات ، وفي جعلنا إيَّاها استفهامية يكون من عَطْفِ الجمل ، وإن جعلنا " ما " زائدة ، أو صفة لنكرةٍ ، و " بعوضةٌ " خبراً ل " هو " مضمراً كانت " ما " معطوفة على بعوضة .
فَصْلٌ في معنى قوله : " فما فوقها "
قال الكسَائِيّ وأبو عُبَيْدَةَ ، وغيرهما : معنى " فما فوقها " والله أعلمُ : ما دونها في الصِّغَرِ ، والمحقّقون مالوا إلى هذا القول ؛ لأنَّ المقصود من هذا التمثيل تحقير الأوثان ، وكُلَّمَا كان المشبَّهُ به أشدَّ حقارةً كان المقصود أكمل حصولاً في هذا الباب .
وقال قتادة ، وابن جريج : " المعنى في الكبر كالذُّباب ، والعنكبوت ، والكلبِ ، والحمار ؛ لأنَّ القوم أنكروا تمثيل اللهِ بتلك الأشياء " .
قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ } .
" أمَّا " حرفٌ ضُمِّن معنى اسم شرط وفعله ، كذا قَدَّره سيبويه قال : " أمَّا " بمنزلةِ مَهْمَا يَكُ مِنْ شَيءٍ .
وقال الزَّمَخْشَرِيّ{[960]} : وفائدته في الكلام أن يعطيه فَضْلَ توكيد ، تقولُ : زيدٌ ذاهبٌ ، فإذا قصدت توكيد ذلك ، وأنَّهُ لا محالة ذاهبٌ ، قلت : أمَّا زيدٌ فذاهبٌ .
وقال بعضهم : " أمَّا " حرف تفصيل لما أجمله المتكلم ، أو ادَّعَاه المخاطبُ ، ولا يليها إلاَّ المبتدأ ، وتلزم الفاءُ في جوابها ، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ ومقدَّرٍ كقوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : فيقال لهم : أكَفَرْتُمْ ، وقد تحذفُ حيث لا قَوْلَ ؛ كقوله : [ الطويل ]
فَأَمَّا القِتَالُ لاَ قِتَالَ لَدَيْكُمُ *** وَلَكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ المَوَاكِبِ{[961]}
ولا يجوز أن تليها " الفاء " مباشرة ، ولا أن تتأخّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ ، لو قلت : " أَمَّا زَيدٌ منطلقٌ ففي الدَّارِ " لم يجز ، ويجوز أنْ يَتَقَدَّمَ معمولُ ما بعد " الفاءِ " عليها متليٌّ أمَّا كقوله : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] .
ولا يجوز الفصلُ بَيْن أَمَّا والفاءِ بمعمول خبر " إنَّ " خلافاً للمبرد ، ولا بمعمول خبر " ليت " و " لَعَلَّ " خلافاً للفرّاء ، وإن وقع بعدها مصدرٌ نحو : " أمَّا عِلْماً فعالمٌ " فإن كان نكرةً جاز نصبه عند التميميين برُجْحَان ، وضَعُفَ رَفْعُهُ ، وإن كان معرفةً التزموا فيه الرَّفْع ، وأجاز الحجازيون فيه الرفع والنصب نحو : " أَمَّا العِلْمُ فَعَالِمٌ " ، ونصب المنكَّر عند سيبويه على الحال ، والمعرَّف مفعول له .
وأمَّا الأخفشُ فنصبهما عنده على المفعول المطلق ، والنصب بفعلِ الشرط المقدَّر ، أو بما بعد الفاء ، ما لم يمنع مانعٌ ، فيتعَيَّن فِعلُ الشرط نحو : أمَّا عِلْماً فلا عِلْمَ له أو : فإنَّ زيداً عالمٌ ؛ لأن " لا " و " إنَّ " لا يعْمَلُ ما بعدهما فيما قبلهما .
وأمَّا الرفعُ فالظاهِرُ أنه بفعل الشرط المقدَّرِ ، أي : مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ ، أو : العلم فزيدٌ عالمٌ ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وعالمٌ خبر مبتدأ محذوف ، والجملةُ خبرهُ ، والتقديرُ : أمَّا علمٌ - أو العلمُ - فزيدٌ عالمٌ به ، وجاز الابتداء بالنكرة ، لأنَّهُ موضعُ تفصيل ، وفيها كلام طويل .
و " الَّذِينَ آمَنُوا " في مَحَلِّ رفع بالابتداء ، و " فيعلمون " خبره .
قوله : { فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } .
الفاءُ جواب " أَمَّا " لما تضمنته من معنى الشَّرط ، و " أَنَّهُ الْحَقُّ " سَادٌّ مَسَدَّ المفعولين عند الجمهور ، [ وساد ]{[962]} مسدّ المفعول الأوّل فقط ، والثاني محذوف ، عند الأخفش ، أي : فيعلمون حَقِيْقَتَهُ ثَابِتَةً .
وقال الجمهور : لا حَاجَةَ إلى ذلك ؛ لأنَّ وجود النسبة فيها بعد " أَنَّ " كافٍ في تَعَلُّق العلمِ ، أو الظَّنِّ به ، والضمير في " أَنَّهُ " عائدٌ على المَثَل .
وقيل : على ضرب المثل المفهوم من الفِعْل .
و " الحقُّ " : هو الثابت ، ومنه حَقَّ الأمْرُ أي : ثبت ، ويقابله الباطل .
و " الحق " واحدُ الحقوق ، و " الحَقَّة " بفتح الحاء أخص منه ، يقال : هذه حَقَّتِي ، أي : حَقِّي .
و " من رَبِّهِم " في محل نصب على الحالِ من الحقِّ أي : كائناً وصادِراً من رَبِّهِمْ ، و " مِنْ " لابتداء الغاية المَجَازية .
وقال أَبُو البَقَاءِ{[963]} : والعامل فيه معنى الحقِّ وصاحِبُ الحالِ الضمير المستترُ فيه أي من الحقِّ ؛ لأنَّهُ مشتقٌّ ، فيتحمَّلُ ضميراً .
قوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ } لغة " بني تميم " ، و " بني عامر " في " أَمَّا " " أَيْمَا " يبدلون من أحد الميمَيْن ياءً ؛ كراهيةً للتضعيف ؛ وأنشد عمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ : [ الطويل ]
رَأَتْ رَجُلاً أَيْمَا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ *** فَيَضْحَى وَأَيْمَا بِالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ{[964]}
قوله : { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ } .
اعلم أَنَّ " ما " له في كلام العرب ستة استعمالات :
أحدها : أن تكون " ما " اسم استفهام في محل رفع بالابتداء ، و " ذا " اسمُ إشارةٍ خبرهُ .
والثاني : أن تكون " ما " استفهاميةً و " ذا " بمعنى الَّذِي ، والجملةُ بعدها صلةٌ ، وعائدها محذوفٌ ، والأجودُ حينئذٍ أن يرفع ما أجيبَ به أو أُبْدِلَ منه ؛ كقوله : [ الطويل ]
لاَ تَسْأَلاَنِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ *** أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلاَلٌ وَبَاطِلُ{[965]}
ف " ذا " هنا بمعنى الذي ؛ لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ ، وهو " أَنحْبٌ " ، وكذا { مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوُ } [ البقرة : 219 ] في قراءة أبي عمرو{[966]} .
والثالث : أن يُغَلَّبَ حكم " ما " على " ذا " فَيُتْرَكَا ، ويصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ ، فيكون في محلِّ نصبٍ بالفِعْلِ بَعْدَهُ ، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصبَ جوابُه والمبدلُ منه كقوله : { مَاذَا يُنْفِقُونَ قلِ : الْعَفْوَ } في قراءة غير أبي عمرو{[967]} ، و{ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } [ النحل : 30 ] عند الجميع . ومنه قوله : [ البسيط ]
يَا خُزْرَ تَغْلِبَ مَاذَا بَالُ نِسْوَتِكُمْ *** لاَ يَسْتَفِقْنَ إِلَى الدَّيْدَيْنِ تَحْنَانَا{[968]}
ف " ماذا " مبتدأ ، و " بالُ نسوتكم " خبرهُ .
الرابع : أن يُجْعَلَ " ماذا " بمنزلةِ الموصول تغليباً ل " ذا " على " ما " عكس الصورة التي قبله ، وهو قليلٌ جدًّا ؛ ومنه قوله : [ الوافر ]
دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ سَأَتَّقِيهِ *** وَلَكِنْ بِالْمُغَيَّبِ حَدِّثِينِي{[969]}
ف " ماذا " بمعنى الذي ؛ لأنَّ ما قبله لا تعلّق له بهِ .
الخامس : زعم الفَارِسِيُّ أَنَّ " ماذا " كله تكون نكرة موصوفة ، وأنشدَ : " دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ " أي : دَعِي شيئاً معلوماً ، وقد تقدَّم تأويله .
السَّادس : وهو أضعفها أَنْ تكون " ما " استفهاماً ، و " ذا " زائدة ، وجميع ما تقدَّم يُصْلُحُ أن يكون مثالاً له ، ولكنَّ زيادة الأسماء ممنوعة أو قليلة جِداً .
إذا عُرِفَ ذلك فقوله { مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ } يجوز فيه وجهان دون الأربعة الباقية :
أحدهما : أن تكون " ما " استفهامية في محلِّ دفعٍ بالابتداء ، و " ذا " بمعنى " الذي " ، و " أراد اللهُ " صِلَة ، والعائِدُ محذوف لاستكمال شروطه ، تقديره : " أراده اللهُ " والموصول خَبَرُ " ما " الاستفهامية .
والثاني : أن تكون " مَاذَا " بمنزلةِ اسم واحدٍ في مَحَلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعده ، تقديره : أيَّ شيء أراد اللهُ . قال ابن كَيْسَان : وهو الجيد ومحل هذه الجملة النصب بالقول ، و " مثلاً " نصب على التمييز ، قيل : وجاء على معنى التوكيد ؛ لأنه من حيث أشُير إليه بهذا عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ ، فجاء التمييز بعده مؤكّداً للاسم الذي أُشيرَ إليه .
وقيل : نصب على الحالِ ، واختلف في صاحبها ، فقيل : اسم الإشارة ، والعاملُ فيها معنى الإشارة .
وقيل : اسم اللهِ - تعالى - أي : مُتَمَثِّلاً بذلك .
وقيل : على القطعِ وهو رأي الكوفيين ، ومَعْنَاه عندهم : أنَّهُ كان أصله أن يتبع ما قبله ، والأصلُ : بهذا المثلِ ، فلمَّا قُطِعَ عن التَّبعيَّةِ انتصب ؛ وعلى ذلك قول امرئ القيس : [ الطويل ]
سَوَامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فُرُوعُهُ *** وَعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ الْبُسْرِ أَحْمَرَا{[970]}
أصله : من البُسْرِ الأَحْمَرِ .
فَصْلٌ في معنى الإرادة واشتقاقها
و " الإرادةُ " لغةٌ طلبُ الشيءً مع المَيْلِ إليه ، وقد تتجرّد للطلب ، وهي التي تنسبُ إلى اللهِ - تعالى - وعَيْنُها واوٌ من رادَ يرودُ ، أي : طَلَب ، فأصلُ " أراد " " أَرْوَدَ " مثل : أقام ، والمصدرُ الإرادةُ مثلُ الإقامةِ ، وأصلُها : إرْوَاد فأُعِلَّتْ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث .
و " الإرادةُ " ماهية يجدها العاقل من نفسه ، ويُدْركُ بالتفرقةِ البديهية بينها وبين علمه{[971]} وقدرته وألمه ولذّته ، وإذا كان كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف .
وقال المتكلمون : إنها صفة تقتضي رُجْحَانَ أحد طرفي الجائز على الآخر ، لا في الوقوع ، بل في الإيقاع ، واحترزنا بهذا القَيْدِ الأخير عن القدرةِ .
قوله : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } الياء فيه للسَّببيَّة ، وكذلك في " يهدي به " ، وهاتان الجملتان لا محلَّ لهما ؛ لأنَّهما كالبيان للجملتين المُصَدَّرَتِيْنِ ب " أَمَّا " ، وهما من كلام الله تعالى . وقيل : في محلِّ نَصْبٍ ؛ لأنهما صفتان ل " مَثَلاً " أي : مَثَلاً يُفَرِّقُ النَّاس به إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتَدِين ، وهما على هذا من كلام الكفَّار .
وأجاز أبو البقاء{[972]} أن تكون حالاً من اسم اللهِ ، أي : مُضِلاًّ به كثيراً ، وهادياً به [ كثيراً ]{[973]} .
وجَوَّزَ ابن عطية{[974]} أن يكون جملة قوله : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } من كلام الكُفَّارِ ، وجملةُ قوله : " وَيَهْدِي بِهِ كَثيراً " من كلام الباري تعالى . وهذا ليس بظاهرٍ لأنَّهُ إلباسٌ في التركيب .
والضميرُ في " به " عائدٌ على " ضَرْب " المضاف تقديراً إلى المَثَل ، أي يضرب المثل ، وقيل : الضميرُ الأوّل للتكذيب ، والثاني للتصديق ، ودَلَّ على ذلك قوة الكلام .
[ وقرئ{[975]} : " يُضَلُّ به كثيرٌ ، ويُهْدَى به كثيرٌ ، وما يُضَلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقُونَ " بالبناء للمفعول ]{[976]} .
وقرئ أيضاً{[977]} : " يَضِلُّ كَثِيرٌ ويَهْدِي به كثيرٌ ، وما يَضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقون " بالبناء للفاعل .
قال بعضهم : " وهي قراءة القَدَرِيَّة ، وقد نَقَلَ ابن عطية عن أبي عمرو الدَّاني أنَّهَا قراءة المعتزلة " {[978]} . ثم قال : " وابن أبي عبلةَ من ثِقَات الشاميين " يعني قارئها ، وفي الجملةِ فهي مخالفة لسواد المصحفِ .
فإنْ قيل : كيف وصف المهتدين هنا بالكثرة وهم قليلون ؛ لقوله :
{ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] ، و{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] فالجوابُ أَنّهم ، وإن كانوا قليلينَ في الصُّورة ، فهم كثيرون في الحقيقةِ ؛ كقوله : [ البسيط ]
إِنَّ الكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلاَدِ وَإِنْ *** قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلَّ وَإِنْ كَثُرُوا{[979]}
قال ابن الخطيب : " الهمزةُ تجيءُ تارةً لتنقل الفِعْلَ من غير التعدِّي إلى التعدّي كقولك : " خَرَجَ " فَإِنَّهُ غير متعدٍّ ، فإذّا قلت " أَخْرج " فقد جعلته متعدّياً ، وقد تجيء لتنقل الفعل من التعدِّي إلى غير التعدِّي كقوله " كَبَبْتُهُ فأكب " {[980]} وقد تجيء لمجرّد الوجدان " .
حُكِيَ عن عمرو بن معديكرب{[981]} أَنَّهُ قال لبني سليم : " قَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجْبَنّاكُم ، وَهَاجَيْنَاكم فما أفْحَمْنَاكم ، وسألناكم فما أبخلناكم " ، أي : ما وجدناكم جبناء ولا مفحمين ، ولا بخلاء . ويقال : أتيت أرضَ فُلاَن فأعمرتها ، أي : وجدتها عامرةً .
ولقائل أن يقولَ : لم لا يجوز أن يقال : الهمزة لا تفيد إلاَّ نقل الفعل من غير التعدّي إلى التعدِّي ، وأمَّا قوله : كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ ، فلعلَّ المراد كببته فأكبَّ نفسه على نفسه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين ، وهذا ليس بعرف ؟ !
وأما قوله : " قاتلناكم فما أجبناكم " فالمراد ما أثّر قتالنا في صيرورتكم جبناء ، وكذا القول في البواقي وهذا الذي قلناه أولى دفعاً للاشتراك .
إذا ثبت هذا فنقول قولنا : " أَضَلَّهُ الله " لا يمكن حمله إلاّ على وجهين :
أحدهما : أنه صَيَّرَهُ ضَالاًّ عن الدِّين .
واعلم أن معنى الإضلالِ عن الدين في اللُّغة : هو الدعاء إلى ترك الدِّيْنِ ، وتقبيحه في عَيْنِهِ ، وهذا هو الإضلال الذي أضافه اللهُ - تعالى - إلى " إبليس " فقال : { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } [ القصص : 15 ] وقال : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } [ النساء : 119 ] .
وقوله : { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } [ فصلت : 29 ] ، وأيضاً أضاف هذا الإضلال إلى فرعون ، فقال : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [ طه : 79 ] .
واعلم أنَّ الأُمَّةَ مجمعة على أن الإضلال بهذا المَعنى لا يجوز على اللهِ تعالى ؛ فإنَّه ما دعا إلى الكفر ، وما رَغَّبَ فيه ، بل نهى عنه ، وزَجَرَ وتَوَعَّدَ بالعقاب عليه ، وإذا كان المعنى الأصلي في الإضلال في اللُّغَةِ هذا ، وهذا المعنى منفي بالإجماع ، ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللَّفظ على ظاهره ، وعند هذا افتقر أهل الْجَبْرِ والقدر إلى التأويل .
أمَّا أهل الجَبْرِ فقد حملوه على أَنَّهُ - تعالى - خالق الضلال والكفر فيهم وصدّهم عن الإيمان ، وحال بينهم وبينهُ ، ورُبَّمَا قالوا : هذا هو حقيقةُ اللفظ في أصل اللغةِ ؛ لأنَّ الإضلال عبارة عن جَعْلِ الشَّيء ضالاًّ كما أنَّ الإخراج والإدخال عبارةٌ عن جَعْلِ الشيء خارجاً وداخلاً . وأما المعتزلة فقالوا : التأويل من وجوه :
أحدها : قالوا : إِنَّ الرَّجُلَ إذا ضَلَّ باختياره عن حضور شيء من غير أن يكون لذلك الشَّيء أثر في ضلالة فيقال لذلك الشيء : إِنَّهُ أَضَلَّهُ قال تعالى في حق الأصنام : { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً } [ إبراهيم : 36 ] أي : ضَلُّوا بِهِنَّ وقال : { وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } [ نوح : 23- 24 ] أي : ضَلَّ كثيرٌ من النَّاسِ بهم .
وقال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً }
[ المائدة : 64 ] . وقوله : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] أي : لم يزدهم الدُّعاءُ إِلاَّ فِراراً .
وقال : { فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } [ المؤمنون : 110 ] وهم لم ينسوهم في الحقيقة ، وكانوا يُذَكِّرونهم الله .
وقال : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124- 125 ] .
فأخبر تعالى أَنَّ نزول السورة المشتملة على الشَّرَائعِ يُعَرِّفُ أحوالهم .
فمنهم من يصلح عليها ؛ فيزداد بها إيماناً ؛ ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كُفْراً ، فأضيفت الزيادةُ في الإيمان ، والزيادة في الكُفْرِ إلى السُّورة ؛ إذ كانوا إنَّمَا صلحوا عند نزولها وفسدوا ، فهكذا أُضِيفَ الضَّلالُ والهُدَى إلى الله تعالى ؛ إذ كان حدوثهما عند ضربه - تعالى - الأمثال لهم .
وثانيها : أنَّ الإضلال هو التسمية بالضلالة ، فيقال : أَضَلَّهُ إذا سماه ضالاً ، وأكفر فلان فلاناً إذا سمَّاه كافراً ، وذهب إليه قطرب ، وكثير من المعتزلةِ .
ومن أهل اللغةِ من أنكره ، وقال : إِنَّمَا يقال : ضللته تضليلاً ، إذا سمَّيْتُهُ ضالاًّ ، وكذلك فَسّقته وفَجَّرته ، أي : سَمَّيْتُه : فاسقاً وفاجراً .
وأجيب عنه بأنَّه حتى صَيَّرَهُ في نَفْسِهِ ضالاَّ لَزِمه أي يُصَيِّره محكوماً عليه بالضَّلال فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير وإطلاق اسم الملزوم على اللازمِ مجاز مشهورٌ .
وثالثها : أن يكون الإضلال هو التَّخلية ، وترك المنع بالقهر ، والجبر ، فيقال : أَضَلَّهُ أي : خَلاَّه وضلاله .
قالوا : ومجازه من قولهم : " أَفْسَدَ فُلانٌ ابْنَهُ ، وأهلكه " إذا لم يتعهدّه بالتأديب ؛ ومنه قوله : [ الوافر ] .
أَضَاعُونَي وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[982]}
ويقال لمن ترك{[983]} سيفه في الأرضِ النَّدِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ وصدئ : أفسدت سيفك وأصدأته .
ورابعها : الضلال ، والإضلال هو العذاب والتعذيب لقوله { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ }
[ القمر : 48 ] ، فوصفهم بأنَّهُمْ يوم القيامةِ في ضلال ، وذلك هو عذابه .
وخامسها : أن تحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال ، كقوله :
{ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 1 ] قيل : أهلكها ، وأبطلها ، ومجازه من قولهم : " ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ " إذا صار مستهلكاً فيه .
ويقال : أضَلَّ القَوْمُ مَيِّتَهُمْ ، أي : واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يُرَى .
وقالوا : { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ } [ السجدة : 10 ] فيتحمل أن يضل الله إنساناً أي : يهلكه ويعدمه .
وسادسها : أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنَّةِ .
قالت المعتزلة : وهذا في الحقيقة ليْسَ تأويلاً ، بل حَمْلٌ للَّفظ على ظاهره فإن الآية تَدُلُّ على أَنَّهُ يضلّهم ، وليس فيها دلالة على أنه عن ماذا يُضلهم ؟ فنحن نحملها على أنَّهُ - تعالى - يُضِلُّهم عن طريق الْجَنَّةِ ، ثُمَّ حملوا كُلَّ ما في القرآنِ من هذا الجنس على هذا المحمل ، وهو اختيار الجُبَّائي .
قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } [ الحج : 4 ] أي : يُضِلُّه عن الجنَّةِ وثوابها هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية .
وسابعها : أن تحمل الهمزة لا على التعدية ، بل على الوجدان على ما تقدَّم ، فيقال : أَضَلَّ فلانٌ بَعِيرَهُ أي : ضَلَّ عنه ، فمعنى إضلال الله - تعالى - لهم أَنَّهُ وجدهم ضَالِّين .
وثامنها : أن يكون قوله : { يُضِلُّ به كَثِيراً ، ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً } من تمام قول الكُفَّار كأَنَّهم قالوا : ماذا أراد اللهُ بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ؟
ثُمَّ قالوا : يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ، ذكروه على سبيل التَّهَكُّم ، فهذا من قول الكُفَّارِ ، ثُمَّ قال تعالى جواباً لهم : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } أي ما أضَلَّ إِلاَّ الفاسقين .
قالت الجبرية{[984]} : وهذا معارضٌ بمسألة الدّاعي ، وهي أن القادِرَ على العلم والْجَهْلِ والإهداء والضلالِ لم فعل أحدهما دون الآخر ؟
ومعارضٌ أيضاً بمسألة العلم على ما سبق تقريرها في قوله تعالى : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [ البقرة : 7 ] .
والجَوَابُ عن الآيات يأتي في مواضعه .
قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } " الفاسقين " مفعول ل " يضل " وهو استثناء مُفَرّغ ، وقد تقدَّم معناه ، ويجوز عند القرّاء أن يكون منصوباً على الاستثناء والمستثنى منه محذوف تقديره : " وما يُضِلُّ به أحداً إِلاَّ الفاسقين " ؛ كقوله : [ الطويل ]
نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ *** وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنَ سَيْفٍ ومئزَرَا{[985]}
أي : لم ينجُ بشيء ، ومنع أبو البقاء نصبه على الاستثناء ، كأنَّهُ اعتبر مذهب جمهور البَصْريين .
و " الفِسْقُ " لغةً : الخروجُ ، يقالُ : فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرهَا ، أي : خَرَجَتْ ، والفأرة من جُحْرِها .
و " الفاسقُ " : خارج عن طاعةِ الله ، يقال : فَسَقَ يَفْسُقُ ويَفْسِقُ بالضم والكسر في المضارح فِسْقاً وفُسُوقاً ، عن الأخفش فهو فَاسِقٌ .
وزعم ابن الأعرابي ، أنَّه لم يسمع في كلام الجاهلية ، ولا في شعرهم " فاسق " ، وهذا عجيبٌ ، وهو كلامٌ عربيٌّ حكاه عنه ابن فارس والجَوْهَرِيُّ ، وقد ذكر ابنُ الأَنْبَارِيِّ في كتاب " الزّاهِر " لمّا تَكَلَّمَ على معنى " الفِسْقِ " قَوْلَ رُؤْبَة : [ الرجز ]
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْراً غَائِراً *** فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا{[986]}
و " الفسيق " : الدائم الفسق ، ويقال في النداء : يا فَاسِق ويا خبيث ، يريد يا أيُّها الفاسق ويا أيها الخبيث . والفسقُ في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعةِ اللهِ عز وجل ، فقد يقع على من خرج بعصيان . واختلف أهل القبلة في أنَّهُ مؤمنٌ أو كافر .
فعند بعضهم أنَّهُ مؤمن ، وعند الخوارج : أَنَّه كافرٌ ، وعند المعتزلة : أنَّه لا مؤمن ولا كافر .
واحْتَجَّ الخَوَارجُ{[987]} بقوله تعالى : { بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ }
وقال : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ التوبة : 67 ] . وقال : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ }