العامل في " إذ " محذوف دلّ عليه قوله : " فَسَجَدُوا " تقديره : أطاعوا وانقادوا ، فسجدوا ؛ لأن السجود ناشئ عن الانقياد .
وقيل : العامل " اذكر " مقدراً .
وقيل : زائدة وقد تقدّم ضعف هذين القولين .
وقال " ابن عطية " : " وإذ قلنا " معطوف على " إذ " المتقدمة ، ولا يصحّ هذا لاختلاف الوقتين .
وقيل : " إذ " بدل من " إذ " الأولى ، ولا يصحّ لما تقدّم ، ولتوسّط حرف العَطْف ، وجملة " قلنا " في محل خَفْضٍ بالظرف ، ومنه التفات من الغيبة إلى التكلُّم للعظمة ، و " اللام " للتَّبْليغ كنظائرها .
والمشهور جَرّ تاء " الملائكة " بالحَرْف ، وقرأ{[1096]} " أبو جعفر " بالضم إتباعاً لضمة " الجيم " ولم يعتد بالسَّاكن ، وغلّطه الزَّجاج وخطأه الفارسي{[1097]} ، وشبهه بعضهم بقوله تعالى : { وَقَالَتُ اخْرُج } [ يوسف : 31 ] بضم تاء التأنيث ، وليس بصحيح ، لأن تلك حركة التقاء السَّاكنين ، وهذه حركة إعراب ، فلا يتلاعب بها ، والمقصود هناك يحصل بأي حركة كانت .
وقال الزمخشري : لا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية إلاّ في لغة ضعيفة كقراءة{[1098]} { الْحَمْدِ لِلَّهِ } [ الفاتحة : 2 ] يعني بكسر الدال .
قال الشيخ " شهاب الدين " : وهذا أكثر شذوذاً ، وأضعف من ذاك مع ما في ذاك من الضَّعف المتقدم ؛ لأن - هناك - فاصلاً ، وإن كان ساكناً .
وقال " أبو البقاء " : وهي قراءة ضعيفة جدًّا ، وأحسن ما تحمل عليه أن يكون الرَّاوي لم يضبط عن [ القارئ ] وذلك أن [ القارئ ]{[1099]} أشار إلَى الضَّم تنبيهاً على أنّ الهمزة المحذوفة مضمومةٌ في الابتداء ، فلم يدرك الراوي هذه الإشارة ، وقيل : إنه نَوَى الوَقْفَ على " التَّاء " ساكنة ، ثم حركها بالضم إتباعاً لحركة الجيم ، وهذا من إجراء الوصل مجرى الوَقْفِ .
ومثله ما روي عن امرأة رأت رجلاً مع نساء ، فقالت : " أفي السَّوَتَنْتُنَّهْ " - نوت الوقف على " سوءة " ، فسكنت التاء ، ثم ألقت عليها حركة همزة " أنتن " فعلى هذا تكون هذه حركة السَّاكنين ، وحينئذ تكون كقوله : " قَالَتُ : أخْرُجْ " وبابه ، وإنما أكثر الناس توجيه هذه القراءة لجلالة قارئها أبي جعفر يزيد بن القَعْقَاع شيخ نافع شيخ أهل " المدينة " وترجمتهما مشهورة .
و " اسجدوا " في محل نصب بالقول ، و " اللام " في " لآدم " الظَّاهر أنها متعلّقة ب " اسجدوا " ، ومعناها التعليل ، أي : لأجله .
وقيل : بمعنى " إلى " أي : إلى [ جهته له ]{[1100]} جعله قبلة لهم ، والسجود لله .
وقيل : بمعنى مع ، لأنه كان إمامهم كذا نقل .
وقيل : اللاَّم للبيان فتتعلّق بمحذوف ، ولا حاجة إلى ذلك .
و " فسجدوا " الفاء للتعقيب ، والتقدير : فسجدوا له ، فحذف الجار للعلم به ، والسُّجود لغة : التذلُّل والخضوع ، وغايته وضع الجَبْهَةِ على الأرض ، وقال " ابن السكيت " : " هو الميل " ، قال : " زيد الخيل " : [ الطويل ]
بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ *** تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ{[1101]}
يريد : أن الحوافر تطأ الأرض ، فجعل بأثر الأُكْمِ للحوافر سجوداً ؛ وقال آخر : [ المتقارب ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِهَا{[1102]}
وفرق بعضهم بين " سجد " ، و " أسجد " ف " سجد " : وضع جبهته ، وأسجد : أَمَال رأسه وَطأْطَأَ ؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسْجَدَتْ *** سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِها{[1103]}
وَقُلْنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[1104]}
يعني أن البعير طَأْطَأَ رأسَه لأجلها .
ودَرَاهِمُ الأسجاد : دَرَاهِمُ عليها صُوَرٌ كانوا يسجدون لها ، قال : [ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَافَى بِهَا كَدَرَاهِمِ الأَسْجَادِ{[1105]}
فصل في تعداد النعم العامة على بني آدم
اعلم أن هذا هو النعمة الرّابعة من النعم العامة على جميع البشر ، وهو أنه خصص آدم بالخلافة أولاً ، ثم خصصه بالعلم ثانياً ، ثم بلوغه في العلم إِلَى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم ، ثم ذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة .
فإن قيل : الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله - تعالى - خلقه آدم بدليل قوله : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص : 71- 72 ] ، فظاهر هذه الآية يدلّ على أنه - عليه الصلاة والسلام - لما صار حيًّا صار مسجود الملائكة ؛ لأن " الفاء " في قوله : { فَقَعُوا } للتعقيب ، وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ، ومناظرته مع الملائكة في ذلك الوَقْتِ حصل بعد أن صار مسجود الملائكة .
فالجَوَابُ : أجمع المسلمون على أن ذلك السُّجود ليس سُجُودَ عِبَادَةٍ ، ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال :
الأول : أن ذلك السجود كان لله - تعالى - وآدم - عليه الصلاة والسلام - كان كالقِبْلَةِ ، وطعنوا في هذا القول من وجهين :
الأول : أنه لا يقال : صلّيت للقبلة ، بل يقال : صليت إِلَى القبلة ، فلو كان - عليه الصّلاة والسلام - قبلة لقيل : اسْجُدوا إلى آدم .
الثاني : أن " إبليس " قال : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } [ الإسراء : 62 ] أي : أن كونه مسجوداً يدلّ على أنه أعظم حالاً من السّاجد ، ولو كان قِبْلَةً لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمداً - عليه الصلاة والسلام - كان يصلّي إلى الكعبة ، ولم تَكُنِ الكعبة أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام .
والجواب عن الأول : أنه كما يجوز أن يقال : صَلَّيْتُ إِلَى القبلة ، جاز أن يقال : صَلَّيْتُ للقبلة ؛ قال تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] والصّلاة لله لا للِدُّلُوك ؛ وقال حسان : [ البسيط ]
مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الأَمْرَ مُنْصَرِفٌ *** عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَن أَبِي حَسَنِ
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ *** وَأَعْرَفَ النَّاسِ بالْقٌرْآنِ وَالسُّنَنِ{[1106]}
والجواب عن الثاني : لا نسلم أن التكرُّم حصل بمجرد ذلك السُّجود ، بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر .
والقول الثاني : أن السجدة كان لآدم تعظيماً له وتحيَّةً له كالسَّلام منهم عليه ، وقد كانت الأمم السَّالفة تفعل ذلك .
قال قتادة : قوله : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً } [ يوسف : 100 ] كانت تحيّة الناس يومئذ .
الثَّالث : أنَّ السجود في أَصْلِ اللُّغة ، هو الانقياد والخضوع ، ومنه قوله تعالى : { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [ الرحمان : 6 ] .
واعلم أن القول الأوّل ضعيف ، لأن المقصود تعظيم آدم عليه الصلاة والسلام ، وجعله مجرّد القِبْلَةِ لا يفيد تعظيم حاله .
والقول الثالث : ضعيف أيضاً ؛ لأن السجود في عرف الشرع عبارة عن وضع الجَبْهَةِ على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك ؛ لأن الأصل عدم التغيير .
فإن قيل : السجود عِبَادَةٌ ، والعبادة لغير الله لا تجوز .
فالجواب : لا نسلم أنه عِبَادَةٌ ؛ لأن الفعل قد يصير بالمُواضعة مفيداً كالقول ، كقيام أحدنا للغير يُفِيْدُ من الإعظام ما يفيده القول ، وما ذاك إلا للعادة ، وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأَرْضِ وإلصاقه الجَبينَ بها مفيداً ضرباً من التعظيم ، وإن لم يكن ذلك عِبَادَة ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبّد الله الملائكة بذلك إظهاراً لرفعته وكرامته .
فصل في بيان أن الأنبياء أفضل من الملائكة
قال أكثر أهل السُّنة : الأنبياء أفضل من الملائكة .
وقالت المعتزلة : الملائكة أَفْضَلُ من الأنبياء ، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقِلاني [ وأبي عبد الله الحليميّ ]{[1107]} .
أحدها : قوله تعالى : { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [ الأنبياء : 19 ] والمراد من هذه العِنْدِيَّة القرب ، والشرف ، وهذا حاصل لهم لا لغيرهم .
ولقائل أن يقول : إنه - تعالى - أثبت هذه الصّفة في الآخرة لآحاد المؤمنين في قوله : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 55 ] .
وأما في الدنيا فقال عليه الصَّلاة والسلام يقول الله سبحانه : " أَنا مَعَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لأَجْلِي " .
وهذا أكثر إشعاراً بالتعظيم ؛ لأن كون الله - تعالى - عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله .
وثانيها : قالوا : عبادات الملائكة أشَقّ من عبادات البشر ، فيكونون أكثر ثواباً من عبادات البشر ، فإن الملائكة سُكّان السماوات ، وهي جَنَّات ، وهم آمنون من المَرضِ والفقر ، ثم إنهم مع استكمال أسباب النّعم لهم خاشعون وَجِلُونَ كأنهم مَسْجُونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنات ، بل يقبلون على الطَّاعة الشاقة ، ولا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً فضلاً عن تلك الأعصار المُتَطَاولة ، ويؤيّده قصّة آدم - عليه الصّلاة والسلام - فإنه أطلق له الأكل في جميع مواضع الجنة ، ثم إنه منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه .
وثالثها : أن انتقال المكلّف من نوع عِبَادَةٍ إلى نوع آخر كالانتقال من بُسْتَان إلى بستان ، أما الإقامة على نَوْعٍ واحدٍ ، فإنها تورث المَشَقّة والمَلاَلَة ، والملائكة كلّ واحد منهم مُوَاظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره ، فكانت عبادتهم أَشَقّ ، فيكون أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام : " أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا " {[1108]} أي : أَشَقُّهَا ، وقوله لعائشة : " إنِّمَا أَجْرُكِ على قَدْرِ نَصبِكِ " {[1109]} .
ولقائل : أن يقول : في الوَجْه الأول لا نسلّم أن عبادة الملائكة أشقّ .
قلنا : نسلم ، ولم قلتم بأن العبادة في المَوَاضع الطّيبة أشقّ من العبادة في المواضع الرَّديئة ؟ أكثر ما في الباب أنه تهيّأ لهم أسباب النعم ، فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق ، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعةٌ على البشر ، ومع هذا يرضون بقضاء الله ، ولا تغيرهم تلك المِحَنُ عن المُوَاظبة على عبوديته ، وهذا أعظم في العبودية .
وأما قولهم : المُوَاظبة على نَوْعٍ واحدٍ من العبادة أشقّ .
قلنا : لما اعتادوا نوعاً واحداً صاروا كالمَجْبُورين الذين لا يقدرون على خِلافِهِ ؛ لأنَّ العادة طبيعة خامسة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ كان يصوم يوماً ويُفْطر يوماً " {[1110]} .
ورابعها : قالوا : عبادات المَلاَئكة أَدْوَم ؛ لأن أَعمارهم أطول ، فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام : " أَفْضَلُ العُبَّاد من طال عمره ، وحَسُنَ عمله " {[1111]} .
ولقائل أن يقول : إن نوحاً ولقمان والخَضِر - عليهم الصَّلاة والسلام - كانوا أطول عمراً من محمد - عليه الصلاة والسلام - فوجب أن يكونوا أفضل منه ، وذلك باطل بالاتفاق .
وخامسها : أنهم أسبق في كل العِبَادَاتِ فيكونون أفضل لقوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 10 ، 11 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : " من سَنَّ سُنّةً حَسَنَة فله أَجْرُهَا وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " {[1112]} .
ولقائل أن يقول : فهذا يقتضي أن يكون آدم - عليه الصلاة والسلام - أفضل من محمد عليه الصلاة والسّلام ؛ لأنه أوّل من سَنّ عبادة الله من البشر وأسبق ، وذلك باطل .
وسادسها : أن الملائكة رُسُل إلى الأنبياء ، والرسول أفضل من الأمة .
فإن قيل : إن السلطان إذا أرسل واحداً إلى جمع عظيم ليكون حاكماً فيهم ، فإنه يكون أشرف منهم ، أمّا إذا أرسل واحداً إلى واحد ، فقد لا يكون الرسول أشرف ، كما إذا أرسل السلطان مَمْلُوكَهُ إلى وزيره في مُهِمَّة [ فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير ]{[1113]} . قلنا : لكن جبريل - عليه السلام - مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر ، فعلى هذا يكون جبريل أفضل منهم .
وأيضاً أن الملك قد يكون رسولاً إلى ملك آخر أو إلى أحد من الأنبياء ، وعلى التقديرين الملك رسول ، وأمته رسل ، والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي ليس كذلك ، ولأن إبراهيم - عليه الصّلاة والسلام - كان رسولاً إلى لُوطٍ - عليه السّلام - فكان أفضل منه ، وموسى كان رسولاً إلى الأنبياء الذين كانوا في عَصْرِهِ ، فكان أفضل منهم .
ولقائل أن يقول : الملك إذا أرسل رسولاً إلى بعض النواحي ، فقد يكون ذلك الرسول حاكماً ومتولياً أمورهم ، وقد يكون ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكماً عليهم ، فالقسم الأوّل هم الأنبياء المبعوثون إلى أممهم ، فلا جرم كانوا أفضل من أممهم .
فإن قلتم : إن بِعْْثَةَ الملائكة إلى الأنبياء من القسم الأوّل حتى يلزم أن يكونوا أفضل من الأنبياء .
وسابعها : قوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } [ النساء : 172 ] فقوله : " ولا الملائكة " خرج مخرج التأكيد للأول ، وهذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال : هذه الخَشَبة لا يقدر على حملها العَشْرة ، ولا المائة ، ولا يقال : لا يقدر على حملها العشرة ولا الواحد ، ويقال : هذا العالم لا يَسْتَنْكِفُ عن خدمته الوزير ولا الملك ، ولا يقال : لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب .
ولقائل أن يقول : هذه الآية إن دلّت ، فإنما تدلّ على فضل الملائكة المقرّبين على المسيح ، لكن لا يلزم منه فَضْلُ الملائكة المقربين على مَنْ هُوَ أفضل من المسيح ، وهو محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - وموسى وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - بإجماع المسلمين .
ثم نقول قوله : " ولا المَلاَئكَة " ليس فيه إلا " واو " العطف ، و " الواو " للجمع المُطْلق ، فيدلّ على أنّ المسيح لا يستنكف ، والملائكة لا يستنكفون ، فأما أن يدلّ على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا .
قال تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ } [ المائدة : 2 ] أو نقول : سلمنا أن عيسى دون مَجْمُوعِ الملائكة في الفَضْلِ ، فلم قلتم : دون كل واحد من الملائكة في الفضل ؟ فإن قيل : وصف الملائكة بكونهم مقربين يوجب ألاَّ يكون المسيح كذلك .
قلنا : تخصيص الشّيء بالذكر لا يدلُّ على نفيه عما عداه .
وثامنها : قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [ الأعراف : 20 ] ولو لم يكن متقرراً عند آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - أن الملك أفضل من البَشَرِ لم يقدر " إبليس " على غرورهما بذلك .
ولقائل أن يقول : هذا قول " إبليس " فلا يكون حُجّة ، ولا يقال : إن آدم اعتقد صحة ذلك ، واعتقاد آدم حُجّة ، لأنا نقول : لعلّ آدم - عليه الصَّلاة والسّلام - ما كان نبياً في ذلك الوقت ، فلم يلزم من فَضْلِ الملك عليه في ذلك الوَقْتِ فضل الملك عليه حال ما صار نبيًّا ، ولأن الزَّلَّة جائزة على الأنبياء .
وأيضاً فهب أن الآية تدلّ على أن الملك أفضل من البَشَرِ في بعض الأمور المرغوبة .
فلم قلتم : إنها تدلّ على فضل الملك على البَشَرِ في باب القدرة والقوة ، والحسن والجمال ، والصفاء والنقاء عن الكُدُورات الحاصلة بسبب التركيبات ؟ فإن الملائكة خلقوا من الأنوار وآدم خلق{[1114]} من التراب ، فلعل آدم وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلاّ أنه رغب في أن يكون مساوياً لهم في تلك الأمور المعدودة .
وتاسعها : قوله تعالى : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [ الأنعام : 50 ] .
ولقائل أن يقول : يحتمل أن يكون المراد : ولا أقول لكم إني مَلَكٌ في كثرة العلوم ، وشدة القوة ، ويؤيده أن الكفار طالبوه بأمور عظيمة نحو : صعود السَّماء ، ونقل الجِبَالِ ، وإحضار الأموال العظيمة ، وأيضاً قوله : " قل : لا أقول لكم عِنْدِي خَزَائِنُ الله " يدلّ على اعترافه بأنه لا يعلم كلّ المعلومات ، فلذلك لا أدّعي قُدْرَةً مِثْلَ قُدْرَةِ الملك ، ولا علماً مثل علمه .
وعاشرها : قوله تعالى : { مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد التشبيه في الجمال ؟
قلنا : الأَوْلَى أن يكون هذا التشبيه في السِّيرة لا في الصّورة ، لأن الملك إنما تكون سِيْرَتُهُ المرضية لا بمجرد الصورة .
ولقائل : أن يقول : قول المرأة : { فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [ يوسف : 32 ] كالصريح في أن مراد النِّسَاء بقولهن : { إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } [ يوسف : 31 ] تعظيم لحسن يُوسف وجماله لا في السَِّيرة ؛ لأن ظهور عُذْرِهَا في شدّة عشقها ، إنما حصل بسبب فرط يوسف في الجَمَال لا بسبب فرط زُهْده وورعه ، فإن ذلك لا يُنَاسب شدّة عشقها .
سلمنا أن المراد تشبيه يوسف - عليه الصلاة والسلام - بالمَلَكِ في حسن السِّيرة ، فلم قلتم : يجب أن يكون أقل ثواباً من الملائكة ؟
الحادي عشر : قوله تعالى : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] ، ومخلوقات الله - تعالى - إما المكلفون ، أو من عداهم ، ولا شك أن المكلفين أفضلُ من غيرهم ، فالمكلّفون أربعة أنواع : الملائكة ، والإنس ، والجنّ ، والشياطين ، ولا شَكّ أن الإنس أفضل من الجنّ والشياطين ، فلو كان البشر أفضل من الملائكة لزم أن يكون البشر أفضل من كُلّ المخلوقات ، وحينئذ لا يبقى لقوله : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } فائدة .
بل كان ينبغي أن يقال : " وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى جَمِيْعِ مَنْ خَلَقْنَا " ، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر .
ولقائل أن يقول : هذا تمسُّك بدليل الخطاب ؛ لأن التصريح بأنهم أفضل من كثيرٍ من المَخْلُوقات لا يدلّ على أنه ليس أَفْضل من الباقي ألا بواسطة دليل الخطاب .
وأيضاً فهب أن جنس الملائكة أفضل من [ جنس بني آدم ، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من ]{[1115]} المجموع الثاني [ أن يكون كُلّ واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني ]{[1116]} ، فإنا إذا قدرنا عشرة من العَبيدِ كلّ واحد منهم يساوي مائة دينار ، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية كل واحد منهم ديناراً ، فالمجموع الأول أفضل من المجموع الثاني ، إلا أنه حصل في المجموع الثَّاني واحد هو أفضل من كلّ واحد من آحاد المجموع الأول فكذا ها هنا .
الثاني عشر : قوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10 ، 11 ] فيدخل فيه الأنبياء وغيرهم ، وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين :
الأوّل : أنه - تعالى - جعلهم حَفَظَةً ، والحافظ للمكلّف عن المعصية يكون أبعد عن الخطأ من المحفوظ ، وذلك يقتضي كونهم أبعد عن المعاصي ، وأقرب إلى الطَّاعات من البشر ، وذلك يقتضي مزيد الفضل .
والثاني : أنه - سبحانه - جَعَلَ كتابتهم حُجّة للبشر في الطّاعات ، وعليهم في المَعَاصي ، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقَبُولِ من قول البشر ، ولو كان البشر أعظم حالاً منهم لكان الأمر بالعكس .
ولقائل أن يقول : أما كون الحافظ أكرم من المحفوظ ، فهذا بعيد ، فإن المَلكَ قد يوكّل بعض عبيده على ولده .
وأما الثاني فقد يكون الشاهد أدون حالاً من المشهود عليه .
الثالث عشر : قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمان } [ النبأ : 38 ] .
والمقصود من ذكر أحوالهم المُبَالغة في شَرْحِ عظمة الله وجلاله ، ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى في الإنباء عن عَظَمةِ الله وجلاله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى .
ولقائل أن يقول : ذلك يدلّ على أنهم أزيد حالاً من البَشَرِ في بعض الأمور ، فلم لا يجوز أن تكون تلك الحالة هي قوتهم وشدّتهم وبطشهم ؟ وهذا كما يقال : إن السُّلطان لما جلس وقف حَوْلَ سريره ملوك أطراف العالم خاضعين فإن عظمة السُّلطان إنما تشرح بذلك ، ثم إنَّ هذا لا يدلُّ على أنهم أكرم عند السلطان من ولده ، فكذا ها هنا .
الرابع عشر : قوله : { وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] فبيّن تعالى أنه لا بُدّ في صحّة الإيمان من الإيمان بهذه الأشياء ، فبدأ بنفسه ، وثَنّى بالملائكة ، وثلّث بالكتب ، وربّع بالرسل ، وكذا في قوله : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ } [ آل عمران : 18 ] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } [ الأحزاب : 56 ] ، والتقديم في الذِّكر يدلّ على التقديم في الدرجة ؛ لأن تقديم الأدْوَنِ على الأشرف في الذكر قبيح عرفاً ، فوجب أن يكون قبيحاً شرعاً .
ولقائل أن يقول : هذه الحجّة ضعيفة ؛ لأن الاعتماد إن كان على " الواو " ف " الواو " لا تفيد الترتيب ، وَإِنْ كان على التقديم في الذِّكْرِ فينتقض بتقديم سورة " تَبّت " على سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] .
الخامس عشر : قوله تعالى : { إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } ، فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك يدلّ على كون الملائكة أشرف من النبي . ولقائل أن يقول : هذا ينتقض بقوله : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ، ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي ، فكذا في الملائكة .
واحتجّ من قال بتفضيل الأَنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - على الملائكة بأمور :
أحدها : أن الله - تعالى - أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وثبت أن آدم لم يكن كالقِبْلَةِ ، فوجب أن يكون آدم أفضل منهم ؛ لأن السجود نهايَةُ التواضُعِ ، وتكليف الأشرف بنهاية التواضُعِ للأَدْوَنِ مُسْتَقْبَحٌ في العقول .
وثانيها : أن آدم - عليه الصلاة والسلام - خليفةٌ له ، والمراد منه خلافة الولاية لقوله : { يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } [ ص : 26 ] .
ومعلوم أن أعلى الناس منصباً عند الملك من كان قائماً مَقَامَهُ في الولاية والتصرف ، فهذا يدل على أن آدم - عليه الصلاة والسلام - كان أشرف الخلائق .
فالدنيا خلقت متعةً لبقائه ، والآخرة مملكة لجزائه ، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبُّر عليه ، والجن رعيته ، والملائكة في طاعته وسجوده ، والتواضع له ، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته ، وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاَّته .
وثالثها : أن آدم - عليه الصلاة والسلام - كان أعلم ، والأعلم أفضل ، أما أنه أعلم فلأنه - تعالى - لما طلب منهم علم الأسماء
{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة : 32 ] فعند ذلك قال الله : { يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ } [ البقرة : 33 ] وذلك يدلّ على أن آدم - عليه الصلاة والسلام - كان عالماً بما لم يكونوا عالمين به ، والعالم أَفْضَلُ لقوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] .
ورابعها : قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 33 ] والعَالَم عبارة عن كل ما سوى الله - تعالى - فمعناه أن الله - تعالى - اصطفاهم على المخلوقات .
فإن قيل : يُشْكل بقوله تعالى : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 47 ] .
قلنا : الإشكال مدفوع ؛ لأن قوله : { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود ، وحينما كانوا موجودين لم يكن محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - موجوداً في ذلك الزمان ، والمعدوم لا يكون من العالمين ؛ لأن اشتقاق العالم من العَلَمِ فكل ما كان عَلَماً على الله ودليلاً عليه فهو عالم ، وإذا كان كذلك لم يلزم اصْطِفاء الله إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد - عليه الصلاة والسلام - والملائكة كانوا موجودين ، فيلزم أن يكون الله - تعالى - قد اصطفى هؤلاء على الملائكة ، وأيضاً فهب أن تلك الآية دَخَلَهَا التخصيص لقيام الدليل ، وها هنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر ، فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم .
وخامسها : قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] والملائكة من جملة العالمين ، فكان محمد - عليه الصلاة والسَّلام - رحمة لهم ، فوجب أن يكون أفضل منهم .
وسادسها : أنَّ الآدمي له شهوةٌ داعية إلى المَعْصِيَةِ والملك ليست له هذه الشهوة ، والفعل مع المعارض القوي أشدّ منه بدون المعارض .
فإن فيل : الملائكة لهم شهوةٌ تدعوهم إلى المعصية ، وهي شهوة الرئاسة .
قلنا : هَبْ أن الأمر كذلك ، لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البَطْنِ والفَرْجِ ، وشهوة الرئاسة والملك ليس إلا شهوة واحدة ، وهي شهوة الرئاسة ، والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشقّ من المبتلى بشهوة واحدة . وأيضاً الملائكة لا يعملون إلاَّ بالنَّص لقوله : { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة : 32 ] وقوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] والبشر لهم قوّة الاسْتنباط والقياس ، والعمل بالاسْتِنْبَاط أشقَ من العمل النص ، وأيضاً فإنّ الشبهات للبشر أكثر منها للملائكة ؛ لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السَّيَّارة أسباباً لحوادث هذا العالم ، فالبَشَرُ احتاجوا إلى دفع هذه الشُّبهة ، والملائكة لا يحتاجون إليها ، لأنهم ساكنون في عالم السَّمَاوات ، فيشاهدون كيفية افتقارها إِلَى المدبّر الصَّانع ، وأيضاً فإن الشيطان لا سَبِيْلَ له إلى وسوسة الملائكة ، وهو مسلّط على البشر في الوَسْوَسَةِ ، وذلك تفاوت عظيم . إذا ثبت أن طاعتهم أشقّ ، فوجب أن يكونوا أكثر ثواباً للنص والقياس .
فأما النص قوله عليه الصلاة والسلام : " أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا " أي : أشقُّها ، وأما القياس فإن الشيخ الذي ليس له مَيْلٌ إلى النِّسَاء إذا امتنع عن الزِّنَا ليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنه مع المَيْلِ الشّديد ، والشَّوق العظيم .
وسابعها : أن الله - تعالى - خلق للملائكة عقولاً بلا شهوة ، وخلق للبهائم شهوةً بلا عَقْلٍ ، وخلق الآدمي وجمع فيه الأمرين ، فصار الآدمي بسبب العَقْل فوق البهيمة بدرجة ، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون المَلاَئكة ، ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هَوَاهُ عقله ، فإنه يصير دون البَهِيْمَةِ على ما قال : { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } فيجب أن يقال : إذا غلب عقله هواه أن يكون فوق الملائكة اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر .
وثامنها : أن الملائكة حَفَظَةٌ ، وبنو آدم محفوظون ، والمحفوظ أشرف من الحافظ ، أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الأول ، فقالوا : قد سبق بيان أنّ من الناس من قال : المراد من السُّجود التَّواضع لا وضْع الجَبْهَةِ على الأرض ، وإن سلم أنه وضع الجبهة لكنه قال : السُّجود لله وآدم قبله ، فزال الإِشْكَال ، وإن سلم أن السجود كان لآدم ، فلم قلتم : إن ذلك لا يجوز من الأشرف ؟ وذلك لأن الحكمة قد تقتضي إظهار نهاية الانقياد ، والطاعة ، فإن للسلطان أن يجلس عَبْداً من عبيده ، ويأمر الأكابر بخدمته ، ويكون غرضه إظهار كونهم مُطِيْعين مُنْقَادين له في كُلّيات الأمور ، وأيضاً فإن الله - تعالى - يفعل ما يَشَاءُ ، ويحكم ما يريد ، فإن أفعاله غير معلّلة ، ولذلك قلنا : إنه لا اعتراض عليه في خلق الكُفْرِ في الإنسان ، ثم يعذبه عليه أبد الآباد ، وإذا كان كذلك ، فكيف يعترض عليه في أن أمر الأعلى بالسجود لمن هو دونه .
وأما الحجّة الثانية فجوابها أن كون آدم خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم - عليه السلام - كان أَشْرَفَ من كل من في الأرض ولا يدلّ على كونه أشرف من ملائكة السماء .
فإن قيل : فَلِمَ لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض ؟
قلت : لوجوه : منها أن البشر لا يطيقون رُؤْيَةَ الملائكة ، ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل .
وأما الحجّة الثالثة : فلا نسلّم أنّ آدم كان أعلم منهم ، وأكثر ما في الباب أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان عالماً بتلك اللُّغات ، وهم ما علموها ، لكنهم لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء ، مع أن آدم - عليه السلام - ما كان عالماً بها ويحقق هذا أن محمداً - عليه أفضل الصلاة والسلام - أفضل من آدم - عليه السلام - مع أن محمداً ما كان عالماً بهذه اللُّغات بأسرها ، وأيضاً فإن " إبليس " كان عالماً بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم من الجَنّة ، وأن آدم - عليه السلام - ليس كذلك ، والهُدْهُد قال لسليمان صلوات الله وسلامه عليه : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } [ النمل : 22 ] ولم يكن أفضل من سُلَيْمَانَ ، سلمنا أنه كان أعلم منهم ، ولكن لِمَ لَمْ يجز أن يقال : إن طاعاتهم أكثر إخلاصاً من طاعة آدم عليه الصلاة والسلام ؟ .
وأما الحجة الرابعة : فهي قويّة .
وأما الخامسة : فلا يلزم من كون محمّد - عليه الصّلاة والسلام - رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله تعالى : { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَة اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الروم : 50 ] ولا يمتنع أن يكون - عليه الصلاة والسلام - رحمةً لهم من وجه ، وهم يكونون رحمة له من وجه آخر .
وأما الحجّة السادسة : وهي أن عبادة البشر أشقّ فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصُّوفية يتحمّل في طريق المُجَاهدة من المَشَاقّ والمتاعب ما يقطع بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يتحمّل مثلها مع أنا نعلم أن محمداً عليه الصلاة والسلام أفضل من الكل .
أما الحُجّة السَّابعة : فهي جمع بين الطَّرفين من غير جامع .
فإن قيل : فإذا لم يكن أفضل منهم ، فما الحكمة بالأمر بالسجود له ؟
قيل له : إنَّ الملائكة لما استعظموا تَسْبِيْحَهُمْ ، وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريه استغناءه عنهم ، وعن عبادتهم .
وقال بعضهم : عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به ، فأمروا بالسجود له تكريماً ، ويحتمل أن يكون إنما أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] .
فإن قيل : فقد استدلّ ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - على فضل البشر بأن الله - تعالى - أقسم بحياة مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام فقال : { لَعَمْرُكَ } [ الحجر : 72 ] وأمنه من العذاب لقوله :
{ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ، وقال للملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ }
قيل له : إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بِحَيَاةِ نفسه سبحانه فلم يقل : " لَعَمْري " وأقسم بالسماء والأرض ، ولم يدلّ على أنها أرفع قدراً من العرش ، وأقسم ب " التِّين والزَّيْتُون " .
وأما قوله سبحانه : " وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ " فهو نظير قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } [ الزمر : 65 ] وهذا آخر الكلام في هذه المسألة .
قوله : " إلاَّ إِبْلِيسَ " " إِلاَّ " حرف استثناء ، و " إبليس " نصب على الاستثناء ، وهل نصبه ب " إلا " وحدها أو بالفعل وحده أو به بوساطة " إلاّ " أو بفعل محذوف أو ب " أن " أقوال ؟
وهل هو استثناء متّصل أو منقطع ؟ خلاف مشهور .
والأصح أنه متّصل - وأما قوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ }
[ الكهف : 50 ] ، فلا يرد ؛ لأن الملائكة قد يسمون جنًّا لاجْتِنَانِهِمْ ، قال الشاعر في سليمان : [ الطويل ]
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً *** قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ{[1117]}
وقال تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] يعني : الملائكة .
واعلم أن المستثنى على أربعة أقسام :
قسم واجب النَّصْب ، وقسم واجب الجَرّ ، وقسم جائز فيه النصب والجر ، وقسم جائز فيه النَّصْب والبَدَل مِمَّا قبله ، والأرجح البدل .
الأول : المُسْتَثْنَى من الموجب والمقدَّم ، والمكرر والمنقطع عند " الحجاز " مطلقاً ، والواقع بعد " لا يَكُون " و " لَيْسَ " و " ما خَلاَ " و " ما عَدَا " عند غير الجَرْمِيّ{[1118]} ؛ نحو : " قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً " ، و " مَا قَامَ إِلاَّ زَيْداً القَوْمُ " ، و " ما قَامَ أحدٌ إلاّ زَيْداً إلا عَمْراً " ، و " قاموا إلاّ حِمَاراً " و " قَامُوا لا يكونُ زيداً " أو " لَيْسَ زيداً " و " مَا خَلاَ زيداً " و " مَا عَدَا زيداً " .
الثاني : المستثنى ب " غَيْر " و " سِوًى " و " سُوًى " و " سَوَاء " .
الثالث : المستثنى ب " عَدَا " و " حَاشَا " و " خَلاَ " .
الرابع : المستثنى من غير الموجب ؛ نحو : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }
و " إبليس " اختلف فيه ، فقيل : إنه اسم أعجمي منح من الصّرف للعلمية والعُجْمة ، وهذا هو الصّحيح ، قاله " الزَّجاج " وغيره ؛ وقيل : أنه مشتقٌّ من " الإبْلاَس " وهو اليأس من رحمة الله - تعالى - والبعدُ عنها ؛ قال : [ السريع أو الرجز ]
………………… . . *** وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإِبْلاسْ{[1119]}
ووزنه عند هؤلاء : " إِفْعِيل " ؛ واعترض عليهم بأنه كان ينبغي أن يكون منصرفاً ، وأجابوا بأنه أشبه الأسماء الأعجميّة لعدم نظيره في الأسماء العربية ؛ ورد عليهم بأن مثله في العربية كثير ؛ نحو : " إزْمِيل " و " إكْلِيل " و " إغْريض " و " إخْرِيط " .
وقيل : لما لم يقسم به أحدٌ من العرب ، صار كأنه دَخِيلٌ في لسانهم ، فأشبه الأعجمية ، وفيه بُعْدٌ .
فقال أكثر المتكلمين والمعتزلة : إنه لم يكن من المَلاَئكة ، وهو مرويّ عن ابن عَبّاس ، وابن زيد ، والحسن ، وقتادة - رضي الله عنهم - قالوا : " إبليس أبو الجِنّ كما أن آدم أبو البَشَرِ ، ولم يكن ملكاً فأشبه الحرف " .
وقال شهر بن حَوْشَبٍ ، وبعض الأصوليين : " كان من الجن الذين كانوا في الأرض ، وقاتلهم الملائكة فَسَبَوْهُ وتعبّد مع الملائكة وخوطب " .
وحكاه الطبري ، وابن مسعود ، وابن جريح ، وابن المسيب ، وقتادة وغيرهم ، وهو اختيار الشيخ أبي الحَسَنِ ، ورجّحه الطبري ، وهو ظاهر الآية أنه من الملائكة .
قال ابن عباس : " وكان اسمه عزَازِيل ، وكان من أشراف الملائكة ، وكان من أُولِي الأَجْنِحَةِ الأَرْبَعَةِ ثم أبلس بعد " {[1120]} .
روى سليمان بن حَرْب عن عكرمة عن ابن عَبّاس قال : كان إبْلِيْسُ من الملائكة ، فلما عَصَى الله غضب عليه فَلَعَنَهُ ، فصار شيطاناً .
وحكى المَاوَرْدِيّ عن قتادة : أنه كان من أَفْضَلِ صنف من الملائكة يقال لهم الجنّة .
وقال سعيد بن جبير : إن الجنّ سِبْطٌ من الملائكة خُلقوا من نار ، وإبليس منهم ، وخلق معاشر الملائكة من نور{[1121]} .
حجّة القول الأول ، وهو أنه لم يكن من الملائكة وجوه :
أحدها : قوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } وإذا كان من الجنّ وجب أن ألاّ يكون من الملائكة لقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } [ سبأ : 40 ، 41 ] ، وهذا صريح في الفرق بين الجنّ والمَلَكِ .
فإن قيل : لا نسلّم أنه كان من الجنّ ، لأن قوله : { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } يجوز أن يكون المراد كان من الجنّة على ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان من الجنّ كان خازن الجنة .
سلمنا ذلك ، لكن لِمَ لاَ يجوز أن يكون قوله : " من الجن " أي : صار من الجن كقوله : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } .
سلّمنا ما ذكرتم ، فَلِمَ قلتم : إن كونه من الجنّ ينافي كونه من الملائكة ؛ لأن الجن مأخوذ من الاجتنان ، وهو الستر ، ولهذا سمي الجَنِين جنيناً لاجتِنَانِهِ ، ومنه الجُنّة لكونها ساترة ، والجِنّة لكونها مستترة بالأَغْصَان ، ومنه الجُنُون لاستتار العَقْل به ، والملائكة مستترون عن الأعين ، فوجب جواز إطلاق لفظ الجِنّ عليهم بحسب اللُّغة ، يؤيد هذا التأويل قوله تعالى في الآية الأخرى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] ، وذلك لأن قريشاً قالت : الملائكة بنات الله ، فهذه الآية تدلّ على أن الملائكة تسمى جنًّا .
والجواب : لا يجوز أن يكون المُرَاد من قوله : " كان من الجن " أنه كان خازن الجنّة ؛ لأن قوله : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } [ الكهف : 50 ] يشعر بتعليل تركه السُّجود بكونه جنياً ، ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازن الجنّة ، فبطل ذلك .
{ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } قلنا : يحتمل أن بعض الكُفّار أثبت ذلك النسب في الجنّ ، كما أثبته في الملائكة ، وأيضاً فقد بينا أن الملك يسمى جنّاً بحسب أصل اللُّغة ، لكن لفظ الجنّ بحسب العرف اختصّ بالغير ، كما أن لفظ الدَّابة يتناول كل ما دَبّ بحسب اللُّغة الأصلية ، كلغة بحسب العرف اختص ببعض ما يدبّ ، فيحتمل أن تكون هذه الآية على اللغة الأصلية والآية التي ذكرناها على العرف الحادث .
وثانيها : أن " إبليس " له ذريّة لقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ } [ الكهف : 50 ] والملائكة لا ذريّة لها ؛ لأن الذريّة إنما تحصل من الذَّكَرِ والأُنْثَى ، والملائكة لا أنثى فيها لقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرحمان إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ } [ الزخرف : 19 ] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة .
وثالثها : أنّ الملائكة معصومون ، و " إبليس " لم يكن كذلك فوجب ألا يكون من الملائكة .
ورابعها : أن " إبليس " مخلوق من نار لقوله تعالى حكاية عن " إبليس " : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [ الأعراف : 12 ] .
قال : { وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ } [ الحجر : 27 ] والملائكة مخلوقون من النّور ، لما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلقت المَلاَئِكَةُ من نُورٍ وخُلِقَ الجَانّ من مَارِجٍ من نَارٍ " {[1122]} .
حجّة القول الثاني ، وهو أن " إبليس " كان من الملائكة أمران :
الأول : أن الله - تعالى - استثناه من الملائكة ، والاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب ، قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } [ الزخرف : 26 ، 27 ] وقال : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً }
[ الواقعة : 25 ، 26 ] وقال : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً } [ مريم : 62 ] ، وقال : { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ } [ النساء : 29 ] ، وقال : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] وأيضاً فلأنه كان جنيًّا واحداً بين الألوف من الملائكة ، فغلبوا عليه في قوله : فسجدوا ، ثم استثني هو منهم استثناء واحد منهم ؛ لأنا نقول : كل واحد من هَذَيْنِ الوجهين على خلاف الأصل ، وذلك إنما يُصَار إليه عند الضرورة ، والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من المَلاَئكة ليس فيها إلاّ الاعتماد على العُمُومَاتِ ، فلو جعلناه من الملائكة لزم تَخْصِيصُ ما عَوَّلْتُمْ عليه من العُمُومَاتِ .
ولو قلنا : إنه ليس من الملائكة لزمنا جعل الاستثناء منقطعاً ، فكان قولنا أولى ، وأيضاً فالاستثناء إنما يتحقّق من الشيء والصرف ، ومعنى الصرف إنما يتحقّق حَيْثُ لولا الصّرف لدخل ، والشيء لا يدخل في غير جنسه ، فيمتنع تحقق معنى الاستثناء منه .
وأما قوله : إنه جني واحد من الملائكة فنقول : إنما يجوز إجراؤكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقطُ العِبْرَةِ غير ملتفت إليه ، أما إذا كان معظم الحديث لا يكون إلاَّ عن ذلك الواحد لم يجز إجراؤكم غيره عليه .
الثاني : قالوا : لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان قوله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ } متناولاً ، ولا استحال أن يكون تركه السجود إباءً واستكباراً ومعصية ، ولما استحقّ الذم والعقاب ، ولما حصلت هذه الأمور ، علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ، ولن يتناوله ذلك الخطاب إلاّ إذا كان من الملائكة . لا يقال : إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه لمّا نشأ منهم ، وطالت خُلْطته بهم والتصق بهم علا ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله :
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] لأنا نقول : أما الأول فجوابه : أن المُخَالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قيل في أصول الفقه : خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدّة المخالطة بين الصنفين ، وأيضاً فشدّة المُخَالطة بين الملائكة ، وبين " إبليس " لما لم يمنع اقتصار اللَّعن على إبليس ، فكيف يمنع اقتصار ذلك التَّكليف على المَلاَئِكَةِ ، ولنا كونه أمر بأمر آخر غير محكي في القرآن ، فإن ترتيب الحكم على الوَصْفِ يشعر بالغَلَبَةِ ، فلما ذكر قوله : " أَبَى واسْتَكْبَرَ " عقيب قوله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ : اسْجُدُوا لآدَمَ } ، أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مُخَالفة هذا الأمر ، لا بسبب مُخَالطة أمر آخر ، وطريق الجمع بين الدليلين ما ذكرنا عن ابن عباس أن " إبليس " كان من الملائكة ، فلما عَصَى الله غضب عليه ، فَصَار شيطاناً .
وقول سعيد بن جبير إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نَارٍ ، وإبليس منهم وليس في خلقه من نَارٍ ، ولا في تركيب الشَّهْوَةِ حين غضب عليه ما يدفع أنه من المَلاَئِكَةِ ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس : " أنّ إبْلِيسَ كان من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم : الحِنّ خلقوا من نارِ السَّمُومِ ، وخلقت الملائكة من نُورٍ ، وكان اسمه بالسّريانية عَزَازيل ، وبالعربية الحَارِث ، وكان من خزّان الجنّة ، وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا ، وكان من سُلْطَانها ، وسلطان الأرض ، وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً ، وأكثرهم علماً ، وكان يَسُوسُ ما بين السَّماء والأرض ، فرأى لنفسه بذلك شرفاً وعظمةً ، فذلك الذي دعاه إلى الكُفْرِ ، فعصى الله ، فمسخه شيطاناً رجيماً " .
قوله تعالى : " أَبَى واسْتَكْبَرَ " .
الظاهر أن هاتين الجملتين استئنافيتان جواباً لمن قال : فما فعل ؟
والوقف على قوله : " إلاَّ إِبْلِيسَ " تام .
وقال أبو البقاء : " في موضع نصب على الحال من " إبليس " تقديره : ترك السجود كارهاً له ومستكبراً عنه " .
فالوقف عنده على " واستكبر " ، وجوز في قوله : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً أيضاً ، و " الإباء " : الامتناع ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
وَإِمَّا أنْ يَقُولُوا قَدْ أَبَيْنَا *** وَشَرُّ مَوَاطِنِ الحَسَبِ الإبَاءُ{[1123]}
وهو من الأفعال المفيدة للنفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء المفرّغ قال تعالى : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } [ التوبة : 32 ] .
والمشهور " أَبِيَ - يَأْبَى " بكسرها في الماضي ، وفتحها في المضارع ، وهذا قياس ، فيحتمل أن يكون من قال : " أَبَى - يَأْبَى " بالفتح فيهما استغنى بمُضَارع من قال " أَبِيَ " بالكسر ويكون من التداخل نحو : " رَكَن - يَرْكَنُ " وبابه .
واستكبر بمعنى : تَكَبَّرَ ، وإنما قدم الإباء عليه ، وإن كان متأخراً عنه في الترتيب ؛ لأنه من الأفعال الظَّاهرة ؛ بخلاف الاستكبار ؛ فإنه من أفعال القلوب .
قوله : " وَكَانَ " بل : هي هنا بمعنى " صَارَ " ؛ كقوله : [ الطويل ]
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كَأَنَّهَا *** قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا{[1124]}
أي : قد صارت . ورد هذا ابن فورك وقال : " تردّه الأصول ، والأظهر أنها على بابها والمعنى : كان من القوم الكافرين الَّذين كانوا في الأَرْضِ قبل خَلْقِ آدم على ما روي ، وكان في علم الله " .
فصل في بيان بطلان قول أهل الجبر
قال القاضي : هذه الآية تدلُّ على بطلان قول أهل الجبر من وجوه :
أحدها : أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السُّجودِ ؛ لأن عندهم القُدْرة على الفعل شرط ، فإن من لا يقدر على الشيء لا يقال : إنه أباه .
وثانيها : أن من لا يَقْدِرُ على الفعل لا يقال : استكبر بأن لم يفعل ، فإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع أنه لو أراد الفعل لأمكنه .
وثالثها : قال : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ولا يجوز أن يكون كافراً بأن لم يفعل ما لا يقدر عليه .
ورابعها : أن استكباره ، وامتناعه خلق من الله فيه ، فهو بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون مذموماً قال : ومن اعتقد مذهباً يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصَّفقة .
والجواب : يقال له : صدور ذلك عن " إبليس " لا يخلو ، إما أن يكون عن قَصْدٍ ودَاعٍ أو لا .
فإن وقع لا عن فاعل ، فكيف يثبت الصّانع ، وإن وقع العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل .
وإن كان لا عن قَصْدٍ فقد وقع الفعل لا عن قَصْد .
[ أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد ]{[1125]} وداعٍ ، قد ترجّح الممكن من غير مرجّح ، وهو يسد باب إثبات الصانع ، وأيضاً فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقياً ، والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره ، فكيف يؤمر به وينهى عنه ، وإن وقع عن فاعل هو الله ، فحينئذ يلزمك كل ما أوردته علينا .
فإن قيل : هذا{[1126]} منقوض بأفعال الله - سبحانه وتعالى - فإن التقسيم وارد فيها ليست اتفاقية ولا خبراً ؟
قلنا : الله - تعالى - واجب الوجود لذاته ، وإذا كان كذلك كان واجب الوجود أيضاً في صفاته ، وإذا كان كذلك فهو مُسْتَغْنٍ في فاعليته عن المؤثرات والمرجّحات ، إذ لو افتقر لكان محتاجاً .
قال قوم : كان " إبليس " منافقاً منذ كان .
وقال آخرون : كان كافراً ، واستدلوا بقوله : { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ؛ لأن كلمة " من " للتبعيض ، والحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكفار حتى يكون هو بعضاً منهم ، ويؤكده ما روي عن أبي هُرَيْرَةَ قال : إن الله خلق خلقاً من الملائكة ، ثم قال لهم : إني خالق بشراً من طين ؛ فإذا سوّيته ، ونفخت فيه من روحي فَقَعُوا له سَاجِدِينَ . فقال : لا تفعل ذلك ، فبعث الله عليهم ناراً ، فأحرقتهم ، وكان " إبليس " من أولئك الذين أَبْوا .
وقال آخرون : إنّ " كان " ها هنا بمعنى " صار " فيكون معنى الآية صار من الذين وقعوا في الكُفْرِ بعد ذلك ، وأنه كان قبل ذلك مؤمناً ، وهذا قول " الأصَمّ " ، وذكر في مثاله قوله تعالى : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب المُوَافقة في الدين ، وأيضاً فإن هذه إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية ، وصحّة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك المَاهِيّة ، كما أن الحيوان الذي خلقه الله تَعَالَى أولاً يصح أن يقال : إنه فرد من أفراد الحيوان ، لا بمعنى أنه وَاحِدٌ من الحيوانات الموجودة خارج الذهن ، بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية . واعلم أنه يتفرع على هَذَا أن " إبليس " هل كان أول من كفر بالله ؟ والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله .
فصل في بيان أن الأمر كان للملائكة كلهم
قال الأكثرون : إن جميع الملائكة كانوا مأمورين بالسُّجُودِ لآدم ، واحتجوا عليه بوجهين :
الأول : أن لفظ المَلاَئكة صيغة جمع ، وهي تفيد العموم ، لاسيما وقد أكدت بأكمل وجوه التوكيد في قوله : " كلّهم أَجْمَعُونَ " .
الثاني : أن استثناء " إبليس " منهم ، واستثناء الشخص الواحد منهم يدلّ على أن من عدا ذلك الشخص يكون داخلاً في ذلك الحكم ، ومن الناس من أنكر ذلك ، وقال : المأمور بهذا السُّجود هم ملائكة الأرض ، واستعظم أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك .
وأما الحُكَمَاء فإنهم يحملون المَلاَئكة على الجَوَاهر الرُّوْحَانية ، وقالوا : يستحيل أن تكون الأرواح السَّمَاوية مُنْقَادة للنفوس الناطقة ، إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى البشرية المُطِيعة للنفس الناطقة ، والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات .