اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

قوله : " واسمعوا " أي أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط ، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه ، ومنه قولهم : سمع الله لمن حمده ، أي قبل وأجاب ؛ قال [ الوافر ]

667- دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ *** يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أَقُولُ{[1491]}

أي يقبل .

وقال الرَّاجز : [ الرجز ]

668- وَالسَّمْعُ والطَّاعَةُ والتَّسْلِيمْ *** خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ{[1492]}

فصل في التكرار

وفي هذا التكرير وجهان :

أحدهما : أنه للتأكيد ، وإيجاب الحُجَّة على الخصم .

الثاني : كرره لزيادته على دلالة وهي قولهم : " سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " [ فرفع الجبل لا شك أنه من أعظم المعجزات ، ومع ذلك أصرُّوا على كفرهم ، وصرحوا بقولهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } [ النساء : 46 ]{[1493]} ] .

وأكثر المفسرين ذكروا أنهم قالوا هذا القول .

وقال أبو مسلم : يجوز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان ، فعبر عن ذلك بالقول ، وإن لم يقولوه كقوله تعالى : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] وكقوله : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] والأول أولى ، لأن هذا صَرْف للكلام عن ظاهره بغير حاجة .

قوله : " وأُشْربوا " يجوز أن يكون معطوفاً على قوله . " قَالُوا : سَمِعْنَا " ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل " قالوا " أي : قالوا ذلك ، وقد أشربوا . ولا بد من إضمار " قد " ليَقْرُبَ الماضي إلى الحال خلافاً للكوفيين ، حيث قالوا : لا يحتاج إليها ، ويجوز أن يكون مستأنفاً لمجرد الإخبار بذلك .

واستضعفه أبو البقاء رحمه الله تعالى قال : لأنه قال بعد ذلك : " قل بِئْسَمَا يأمركم " فهو جواب قولهم : " سمعنا وعصينا " فالأولى ألا يكون بينهما أجنبي .

و " الواو " في " أشربوا " وهي المفعول الأول قامت مقام الفاعل ، والثاني هو " العِجْل " ؛ لأن " شرب " يتعدّى بنفسه ، فأكسبته الهمزة مفعولاً آخر ، ولا بد من حذف مُضَافين قبل " العِجْل " والتقدير : وأشربوا حُبَّ عبادة العِجْل .

وحسن حَذْفُ هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تُصُوِّر إشراب ذات العِجْل ، والإشراب مُخَالطة المائع بالجامد ، ثم اتّسع فيه حتى قيل في الألوان نحو : أشرب بياضُه حُمْرةً ، والمعنى : أنهم دَاخَلَهم حُبُّ عبادته ، كما داخلَ الصّبغُ الثوبَ .

ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

669- إذَا مَا القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيْءٍ *** فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ الدَّهْرَ انْصِرَافَا{[1494]}

وعبر بالشرب دون الأكل ؛ لأن الشرب يَتَغَلْغَلُ في باطن الشيء ، بخلاف الأكل فإنه مُجَاور ؛ ومنه في المعنى : [ الطويل ]

670- جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي *** . . . {[1495]}

وقال بعضهم : [ الوافر ]

671- تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِي *** فَبَادِيهِ مَعَ الخافِي يَسِيرُ

تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ *** وَلاَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرورُ

أَكَادُ إِذَا ذكَرْتُ العَهْدَ مِنْهَا *** أَطِيرُ لَوَ أنَّ إِنْسَاناً يَطِيرُ{[1496]}

فهذا وجه الاستعارة .

وقيل : الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض ، فكذلك كانت تلك المحبة مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال .

وقيل : الإشراب هنا حقيقة ؛ لأنه يروى أن موسى عليه الصلاة والسلام برد العجل بِالمبْرد ، ثم جعل تلك البُرَادة في الماء ، وأمرهم بشربه ، فمن كان يحب العجل ظهرت البُرَادة على شَفَتَيْهِ .

روى القُشَيْري رحمه الله أنه ما شربه أحد إلا جُنّ .

قال القرطبي رحمه الله : أما تَذْرِيَتُهُ في الماء فقد دلّ عليه قوله تعالى :

{ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } [ طه : 97 ] ، وأما شرب الماء وظهور البُرَادة على الشِّفاه وهذا وإن كان قال به السّدي وابن جريج وغيرهما فردّه قوله : " في قُلُوبِهِمُ " .

فصل في فاعل الإشراب

قوله : { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ } يدلّ على أن فاعلاً غيرهم فعل بهم ذلك ، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله تعالى .

أجاب المعتزلة بوجهين :

الأول : ما أراد الله تعالى أن غيرهم فعل بهم ذلك ، لكنهم لِفَرْطِ ولوعهم وَإِلْفِهِمْ بعبادته أشربوا قلوبهم حُبّه ، فذكر ذلك على ما لم يسمّ فاعله كما يقال : فلان معجب بنفسه .

والثاني : أن المراد من " أشرب " أي : زيّنه لهم ، ودعاهم إليه كالسَّامري ، وإبليس ، وشياطين الإنس والجن .

وأجابوا : بأن هذا صرف اللَّفظ عن ظاهره ، وذلك لا يجوز المصير إليه إلاّ بدليل منفصل ، وقد أقيمت الدلائل العقلية القَطْعية على أن محدث الأشياء هو الله تعالى فلا حاجة لنا إلى ترك هذا الظاهر .

قوله : " بِكُفْرِهِم " فيه وجهان :

أظهرهما : أن " الباء " سببية متعلّقة ب " أُشْرِبُوا " أي : أشربوا بسبب كفرهم السَّابق .

والثاني : أنها بمعنى " على " يعنون بذلك أنها للحال ، وصاحبها في الحقيقة ذلك المُضَاف المحذوف أي : أشربوا حبّ عبادة العِجْلِ مختلطاً بكفرهم ، والمصدر مضاف للفاعل ، أي : بأن يكفروا .

قوله : { قُلْ : بِئْسَمَا يَأمُرُكُمْ } كقوله : " بِئْسَمَا اشْتَرَوْا " .

والمعنى : فبئسما يأمركم به إيمانكم الذي زعمتم في قولكم : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ علينا } [ البقرة :91 ] .

وقيل : إن هذا خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأمر له بأن يوبّخهم أي : قل لهم يا محمد : بئس هذه الأشياء التي فعلتم ، وأمركم بها [ إيمانكم ]{[1497]} أي : بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العِجْل وإضافة الأمر إلى إيمانهم كما قالوا لشعيب صلى الله عليه وسلم : { أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] .

قوله : { إنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يجوز فيها الوجهان السابقين من كونها نافيةً وشرطيةً ، وجوابها محذوف تقديره : فبئسما يأمركم .

وقيل : تقديره : فلا تقتلوا أنبياء الله ، وَلاَ تُكَذِّبُوا الرّسل ولا تكتموا الحق ؛ وأسند الإيمان إليهم تهكُّماً بهم ، ولا حاجة إلى حذف صفة ، أي : إيمانكم الباطل ، أو حذف مُضَاف ، أي : صاحب إيمانكم .

وقرأ الحسن : " بِهُو إيمَانُكُمْ " بضم الهاء مع الواو .

فإن قيل : الإيمان عرض ، ولا يصح الأمر والنهي .

فالجواب : أن الدَّاعي إلى الفعل قد يشبه بالأمر كقوله : { إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] .


[1491]:- ينظر اللسان: (سمع)، القرطبي: 3/31، روح المعاني: 1/325.
[1492]:- البيت لجبير بن الضحاك. ينظر الطبري: 2/ 356، القرطبي: 2/23.
[1493]:- سقط في ب.
[1494]:- ينظر روح المعاني: 1/326، البحر المحيط: 1/476، الدر المصون: 1/305.
[1495]:- صدر بيت وعجزه: فأصبح لي عن كل شغل بها شغل ينظر البحر المحيط: 1/476، الدر المصون: 1/305.
[1496]:- الأبيات لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة. ينظر الحماسة: 2/105، المحتسب: 2/144، مجالس ثعلب: 1/236، القرطبي: 2/23، اللسان (معع)، شرح ديوان الحماسة: (3/1354)، روح المعاني: 1/326، الدر المصون: (1/305).
[1497]:- سقط في ب.