اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا} (18)

قوله : «يَنْبَغِي » العامة على بنائه للفاعل ، وأبو عيسى الأسود القارئ{[35571]} «يُنْبَغَى » مبنيًّا للمفعول . قال ابن خالويه : زعم سيبويه أنَّ «يُنْبَغَى » لغة{[35572]} .

قوله : «أَنْ نَتَّخِذَ » فاعل «يَنْبَغِي » ، أو{[35573]} مفعول قائم مقام الفاعل في قراءة الأسود وقرأ العامة «نَتَّخِذَ » مبنيًّا للفاعل ، و «مِنْ أَوْلِيَاء » مفعوله وزيدت فيه ( مِنْ ) ويجوز أن يكون مفعولاً أوَّلَ{[35574]} على أن ( اتَّخَذَ ) متعدياً لاثنين{[35575]} .

ويجوز أن لا تكون المتعدية لاثنين بل لواحد ، فعلى هذا «مِنْ دُونِكَ » متعلق بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنه حال من «أَوْلِيَاء » .

وقرأ أبو الدرداء ، وزيد بن ثابت ، وأبو رجاء ، والحسن ، وأبو جعفر في آخرين : «نُتَّخَذَ » مبنيًّا للمفعول{[35576]} . وفيه أوجه :

أحدها : أنها المتعدية لاثنين ، فالأول : «هُمْ » ضمير الاثنين{[35577]} ، والثاني : قوله : «مِن أَوْلِيَاء » و «مِنْ » للتبعيض ، أي : ما كان ينبغي أن نتخذ بعض أولياء ، قاله الزمخشري{[35578]} .

الثاني : أنَّ{[35579]} «مِنْ أَوْلِيَاء » هو المفعول الثاني - ( أيضاً - إلاَّ أن «مِنْ » مزيدة في المفعول الثاني ) {[35580]} . وهذا مردود بأن «مِنْ » لا تزاد في المفعول الثاني إنما تزاد في الأول{[35581]} . قال ابن عطية : ويضعف هذه القراءة دخول «مِنْ » في قوله : «مِنْ أَوْلِيَاء » اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره{[35582]} . قال الزجاج : أخطأ من قرأ بفتح الخاء وضم النون ، لأنَّ «مِنْ » إنما تدخل في هذا الباب إذا كانت مفعولةً أولاً{[35583]} ولا تدخل{[35584]} على مفعول الحال ، تقول{[35585]} : ما اتخذت من أحدٍ ولياً ، ولا يجوز ما اتخذت أحداً من وليٍّ{[35586]} .

الثالث : أن يكون «مِنْ أَوْلِيَاء » في موضع الحال قاله ابن جني إلاَّ أنه قال : ودخلت «مِنْ » زيادة{[35587]} لمكان{[35588]} النفي المتقدم كقولك : ما اتخذت زيداً من وكيل{[35589]} . فظاهر هذا أنه جعل الجار والمجرور ( في موضع الحال ، وحينئذ يستحيل أن تكون «مِنْ » مزيدة ولكنه يريد أن هذا المجرور ) {[35590]} هو الحال نفسه و «مِنْ » مزيدة فيه إلاَّ أنه لا يحفظ زيادة «مِنْ » في الحال وإن كانت منفية وإنما حفظ زيادة الباء فيها على خلاف في ذلك{[35591]} . فإن قيل : هذه القراءة غير جائزة ، لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء . قلنا : المراد أنا لا نصلح لذلك ، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا{[35592]} ؟ وقرأ الحجاج : نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ [ أولياء ]{[35593]} فبلغ عاصماً فقال : مَقَّتَ المُخْدجُ{[35594]} ، أو ما علم أنَّ فيها «مِنْ »{[35595]} .

فصل

أجابوا بقولهم : «سُبْحَانَكَ » . وفيه وجوه :

أحدها : أنه تعجب منهم ، تعجبوا مما قيل لهم ؛ لأنهم ملائكة ، والأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختصٌّ بإبليس وجنوده .

وثانيها : أنهم نطقوا ب «سُبْحَانَكَ » ليدلوا على أنهم المسبحون الموسومون{[35596]} بذلك ، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده .

وثالثها : قصدوا بالتسبيح تنزيهه عن الأنداد سواء كان المسبح وثناً أو نبياً أو ملكاً .

ورابعها : قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إبراء من كان بريئاً من الجرم ، بل إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم{[35597]} .

وقولهم : { مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } .

معناه{[35598]} : إذا كنا{[35599]} لا نرى أن يتخذ من دونك ولياً ، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك ، أي ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك . وقيل : ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين . وقيل : ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء ، أي : إنا علمنا أنك لا ترضى بهذا فما فعلنا ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : قالت الملائكة : ( إنَّا وهم عبيدك ، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً فضلاً عن أن يتخذ عبداً آخر إلهاً . وقيل : قالت الأصنام ){[35600]} : إنا لا يصلح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا من المعبودين{[35601]} .

قوله : «وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ » . لمَّا تضمَّن كلامهم أنَّا لم نضلهم ولم نحملهم على الضلال حسن هذا الاستدراك ، وهو أن ذكروا سببه ، أي : أنعمت عليهم وتفضلت فجعلوا ذلك ذريعةً إلى ضلالهم عكس القضية . والمعنى متعتهم وآباءهم في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة{[35602]} . { حتى نَسُواْ الذكر } تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن{[35603]} . وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه{[35604]} .

قوله : { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } أي : هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان{[35605]} . و «بُوراً » يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه جمع بائر كعائذ و{[35606]}عوذ{[35607]} .

والثاني : أنه مصدر في الأصل كالزور ، فيستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ، وهو من البوار والهلاك{[35608]} .

وقيل من الفساد ، وهي{[35609]} لغة الأزد ، يقولون : بَارَتْ بِضَاعَتَهُ أي : فسدت ، وأمرنا بائر ، أي : فاسد ، {[35610]} وهذا معنى قولهم : كسدت البضاعة .

وقال الحسن : هو من قولهم : أرض بورٌ ، أي : لا نبات بها{[35611]} . وهذا يرجع إلى معنى الهلاك والفساد .


[35571]:لم أقف له على ترجمة.
[35572]:المختصر (104)، البحر المحيط 6/488.
[35573]:في ب: و.
[35574]:في ب: أولا.
[35575]:انظر التبيان 2/982.
[35576]:المختصر (104)، المحتسب 2/119، البحر المحيط 6/489، الإتحاف (328).
[35577]:انظر الكشاف 3/92، التبيان 2/982.
[35578]:قال الزمخشري: (فالأول ما بني له الفعل، والثاني "من أولياء" و "من" للتبعيض، أي: لا تتخذ بعض أولياء) الكشاف 3/92.
[35579]:أن: سقط من الأصل.
[35580]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35581]:انظر التبيان 2/982.
[35582]:تفسير ابن عطية 11/18.
[35583]:في ب: أم لا. وهو تحريف.
[35584]:في ب: ولا بدخول. وهو تحريف.
[35585]:في ب: كقولك.
[35586]:انظر معاني القرآن وإعرابه 4/60.
[35587]:لزيادة: سقط من ب.
[35588]:في ب: مكان.
[35589]:قال ابن جني: (أما إذا ضمت النون فإن قوله "من أولياء" في موضع الحال، أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء، ودخلت "من" زائدة لمكان النفي، كقولك: اتخذت زيدا وكيلا، فإن نفيت قلت: ما اتخذت زيدا من وكيل، وكذلك أعطيته درهما، وما أعطيته من درهم، وهذا في المفعول) المحتسب 2/120.
[35590]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35591]:ذهب ابن مالك إلى جواز زيادة الباء في الحال المنفي عاملها، كقوله: فما رجعت بخائبة ركاب *** حكيم بن المسيب منتهاها. وقوله: كائن دعيت إلى بأساء داهمة *** فما انبعثت بمزؤود ولا وكل وخالفه أبو حيان، وخرج البيتين على أن التقدير بحاجة خائبة وبشخص مزؤود أي مذعور، ويريد المزؤود نفسه. انظر شرح الكافية الشافية 2/728، المغني 1/110.
[35592]:انظر الفخر الرازي 24/63.
[35593]:زيادة يقتضيها السياق ويؤيدها نص البحر 6/489.
[35594]:المقت: أشد الإبغاض. اللسان (مقت) دعاء عليه لنقصانه القراءة. خدجت الناقة وكل ذات ظلف وحافر، تخدج وتخدج خداجا وهي خدوج وخادج وخدجت وخدّجت كلاهما: ألقت ولدها قبل أوانه لغير تمام الأيام وإن كان تام الخلق. اللسان (خدج).
[35595]:المختصر (104). البحر المحيط 6/489.
[35596]:في ب: الموسون.
[35597]:انظر الفخر الرازي 24/62.
[35598]:في ب: عبادة. وهو تحريف.
[35599]:في النسختين: كان.
[35600]:ما بين القوسين مكرر في الأصل.
[35601]:انظر الفخر الرازي 24/63.
[35602]:انظر البحر المحيط 6/489.
[35603]:انظر البغوي 6/164.
[35604]:انظر البغوي 6/164.
[35605]:انظر البغوي 6/164
[35606]:و: سقط من ب.
[35607]:العوذ: الحديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل، واحدتها عائذ مثل حائل وحول. اللسان (عوذ).
[35608]:ذكر الوجهين الزمخشري. الكشاف 3/92.
[35609]:في ب: وهو.
[35610]:انظر البحر المحيط 6/489.
[35611]:المرجع السابق.