اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَقَدۡ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسۡتَطِيعُونَ صَرۡفٗا وَلَا نَصۡرٗاۚ وَمَن يَظۡلِم مِّنكُمۡ نُذِقۡهُ عَذَابٗا كَبِيرٗا} (19)

قوله تعالى{[35612]} : «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ » هذا خطاب مع المشركين ، أي : كَذَّبَكُمُ المعبودون في قولكم إنهم{[35613]} آلهة وإنهم أضلوكم . وقيل{[35614]} : خطاب للمؤمنين في الدنيا ، أي : فقد كذبوكم أيها المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدُّنيا ، وهو معنى قوله «بِما تَقُولُونَ »{[35615]} . وهذه{[35616]} الجملة من كلام الله تعالى اتفاقاً ، فهي على إضمار القول والالتفات . قال الزمخشري : هذه المفاجأة بالاحتجاج{[35617]} والإلزام{[35618]} حسنةٌ رائعةٌ وخاصة إذا انضمَّ إليها الالتفات وحذف القول ، ونحوها قوله{[35619]} : { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ [ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ] {[35620]} } [ المائدة : 19 ] ، وقول القائل :

قالوا خُراسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا *** ثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا{[35621]}

انتهى{[35622]} .

يريد أنَّ الأصل في الآية الكريمة فقلنا فقد{[35623]} كذبوكم ، وفي البيت : فقلنا قد جئنا . وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت{[35624]} عنه بالياء من تحت{[35625]} ، أي : «فَقَدْ كَذبَكُم{[35626]} الآلِهَةُ بِمَا يَقُولُونَ ( سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ » إلى آخره وقيل : المعنى : فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار بما يقولون ){[35627]} من الافتراء عليكم{[35628]} .

قوله : «فَمَا يَسْتَطِيعُونَ » . قرأ حفص بتاء الخطاب{[35629]} ، والمراد عبَّادها ، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم . وقيل : الصرف : التوبة ، وقيل : الحيلة{[35630]} . وقرأ{[35631]} الباقون باء الغيبة{[35632]} ، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره ، ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير ، والمعنى : فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم .

قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ } . قرأ العامة «نُذِقْهُ » بنون العظمة ، وقرئ بالياء{[35633]} ، وفي الفاعل وجهان :

أظهرهما : أنه الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك .

والثاني : أنه ضمير الظلم المفهوم من الفعل{[35634]} ، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم ، والمعنى : ومن يشرك منكم نذقه عذاباً كبيراً .

فصل

تمسك المعتزلة بهذه الآية ( في القطع بوعيد أهل الكبائر ، قالوا : ثبت أن كلمة «مَنْ » في معرض الشرط للعموم ، وثبت أن الكافر ظالم لقوله { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والفاسق ظالم لقوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } [ الحجرات : 11 ] فثبت بهذه الآية ){[35635]} أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة .

والجواب : أنا لا نسلم أن كلمة «مَنْ » في معرض الشرط للعموم ، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، سلمنا أنه للعموم لكن قطعاً أم ظاهراً ؟ ودعوى القطع ممنوعة ، فإنا نرى في العرف العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون ويدل عليه قوله تعالى { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع{[35636]} أن يقال : قولنا «الَّذِينَ كَفَرُوا » كان يفيد العموم ، لكن المراد منه{[35637]} إمَّا الغالب أو{[35638]} المراد منه أقوام مخصصون .

وعلى التقديرين ثبت أن استعمال{[35639]} ألفاظ العموم في الأغلب عرف{[35640]} ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة ، وذلك لا ينفي تجويز العفو .

سلمنا دلالته ، لكن أجمعنا على أن قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من ذلك الظلم ، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله : «يَظْلِمْ مِنْكُمْ » مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول : هذا مسلم ، لكن لم قلتم : إنه لم يوجد ما يزيله ؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي تزيله ، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] .

فإن قيل : آيات{[35641]} الوعيد أولى ، لأن السارق يُقْطع على سبيل التنكيل ، وإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال . قلنا : لا نسلم أنَّ السارق يقطع على سبيل التنكيل ، ألا ترى أنه لو تاب فإنه ( لا ){[35642]} يقطع على سبيل التنكيل ( بل على سبيل المحنة ){[35643]} .

نزلنا عن هذه المقامات ، ولكن قوله تعالى : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } خطاب مع قوم مخصوصين معينين ، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم{[35644]} .


[35612]:تعالى: سقط من ب.
[35613]:في الأصل: إنه.
[35614]:في ب: وهذا.
[35615]:انظر القرطبي 13/12، البحر المحيط 6/489.
[35616]:في ب: هذه.
[35617]:في ب: والاحتجاج.
[35618]:والإلزام: سقط من ب.
[35619]:في ب: قوله عز وجل.
[35620]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35621]:البيت من بحر البسيط قاله العباس بن الأحنف، وهو في ديوانه (312). دلائل الإعجاز (90)، البحر المحيط 6/489، شرح شواهد الكشاف (131). القفول: الرجوع. والشاهد فيه قوله: (فقد جئنا) فهو على حذف القول. والتقدير: فقلنا قد جئنا.
[35622]:الكشاف 3/92.
[35623]:في الأصل: قد.
[35624]:هو ابن أبي الصلت المحبر ممن سمع عليه محمد بن علي بن محمد بن موسى أبو بكر ابن الخياط. طبقات القراء 2/209.
[35625]:السبعة (463)، النشر 2/334، الإتحاف (328).
[35626]:في ب: كذبوكم.
[35627]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35628]:عليكم: سقط من ب.
[35629]:السبعة (463)، الكشف 2/145، النشر 2/334، الإتحاف (328).
[35630]:انظر الفخر الرازي 24/64.
[35631]:قرأ: سقط من ب.
[35632]:السبعة (463)، الكشف 2/145، النشر 2/334، الإتحاف (328).
[35633]:حكاه أبو معاذ. المختصر (104). البحر المحيط 6/490.
[35634]:انظر الوجهين في الكشاف 3/93، البحر المحيط 6/490.
[35635]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35636]:في ب: مانع.
[35637]:منه: سقط من ب.
[35638]:في ب: وإما.
[35639]:استعمال: سقط من ب.
[35640]:عرف: سقط من ب.
[35641]:في ب: بأن.
[35642]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[35643]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[35644]:انظر الفخر الرازي 24/64 – 65.