قوله تعالى{[35612]} : «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ » هذا خطاب مع المشركين ، أي : كَذَّبَكُمُ المعبودون في قولكم إنهم{[35613]} آلهة وإنهم أضلوكم . وقيل{[35614]} : خطاب للمؤمنين في الدنيا ، أي : فقد كذبوكم أيها المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدُّنيا ، وهو معنى قوله «بِما تَقُولُونَ »{[35615]} . وهذه{[35616]} الجملة من كلام الله تعالى اتفاقاً ، فهي على إضمار القول والالتفات . قال الزمخشري : هذه المفاجأة بالاحتجاج{[35617]} والإلزام{[35618]} حسنةٌ رائعةٌ وخاصة إذا انضمَّ إليها الالتفات وحذف القول ، ونحوها قوله{[35619]} : { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ [ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ] {[35620]} } [ المائدة : 19 ] ، وقول القائل :
قالوا خُراسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا *** ثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا{[35621]}
انتهى{[35622]} .
يريد أنَّ الأصل في الآية الكريمة فقلنا فقد{[35623]} كذبوكم ، وفي البيت : فقلنا قد جئنا . وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت{[35624]} عنه بالياء من تحت{[35625]} ، أي : «فَقَدْ كَذبَكُم{[35626]} الآلِهَةُ بِمَا يَقُولُونَ ( سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ » إلى آخره وقيل : المعنى : فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار بما يقولون ){[35627]} من الافتراء عليكم{[35628]} .
قوله : «فَمَا يَسْتَطِيعُونَ » . قرأ حفص بتاء الخطاب{[35629]} ، والمراد عبَّادها ، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم . وقيل : الصرف : التوبة ، وقيل : الحيلة{[35630]} . وقرأ{[35631]} الباقون باء الغيبة{[35632]} ، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره ، ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير ، والمعنى : فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم .
قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ } . قرأ العامة «نُذِقْهُ » بنون العظمة ، وقرئ بالياء{[35633]} ، وفي الفاعل وجهان :
أظهرهما : أنه الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك .
والثاني : أنه ضمير الظلم المفهوم من الفعل{[35634]} ، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم ، والمعنى : ومن يشرك منكم نذقه عذاباً كبيراً .
تمسك المعتزلة بهذه الآية ( في القطع بوعيد أهل الكبائر ، قالوا : ثبت أن كلمة «مَنْ » في معرض الشرط للعموم ، وثبت أن الكافر ظالم لقوله { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، والفاسق ظالم لقوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } [ الحجرات : 11 ] فثبت بهذه الآية ){[35635]} أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة .
والجواب : أنا لا نسلم أن كلمة «مَنْ » في معرض الشرط للعموم ، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، سلمنا أنه للعموم لكن قطعاً أم ظاهراً ؟ ودعوى القطع ممنوعة ، فإنا نرى في العرف العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون ويدل عليه قوله تعالى { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع{[35636]} أن يقال : قولنا «الَّذِينَ كَفَرُوا » كان يفيد العموم ، لكن المراد منه{[35637]} إمَّا الغالب أو{[35638]} المراد منه أقوام مخصصون .
وعلى التقديرين ثبت أن استعمال{[35639]} ألفاظ العموم في الأغلب عرف{[35640]} ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة ، وذلك لا ينفي تجويز العفو .
سلمنا دلالته ، لكن أجمعنا على أن قوله : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من ذلك الظلم ، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله : «يَظْلِمْ مِنْكُمْ » مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول : هذا مسلم ، لكن لم قلتم : إنه لم يوجد ما يزيله ؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي تزيله ، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] .
فإن قيل : آيات{[35641]} الوعيد أولى ، لأن السارق يُقْطع على سبيل التنكيل ، وإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال . قلنا : لا نسلم أنَّ السارق يقطع على سبيل التنكيل ، ألا ترى أنه لو تاب فإنه ( لا ){[35642]} يقطع على سبيل التنكيل ( بل على سبيل المحنة ){[35643]} .
نزلنا عن هذه المقامات ، ولكن قوله تعالى : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } خطاب مع قوم مخصوصين معينين ، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم{[35644]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.