قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين } الآية هذا جواب عن قولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] أي : هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن{[35645]} .
قوله : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } حق الكلام أن يقال : إلاَّ أنَّهُمْ . بفتح الألف ، لأنه متوسط ، والمكسورة لا تليق إلاَّ بالابتداء ، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محل نصب صفة لمفعول محذوف ، فقدره الزجاج{[35646]} والزمخشري{[35647]} : «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أحَداً مِن المُرْسَلِين إلا آكِلِين وَمَاشِينَ » . وإنما حذف ، لأن في قوله : «مِنَ المُرْسَلِينَ » دليلاً عليه{[35648]} ، نظيره قوله تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] بمعنى : مَا مِنَّا أحدٌ{[35649]} . وقدره ابن عطية : رجالاً أو رسلاً{[35650]} . والضمير في «إنَّهم »{[35651]} وما بعده عائد على{[35652]} هذا الموصوف{[35653]} المحذوف{[35654]} .
والثاني : قال الفراء : إنها لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول ( ل «أَرْسَلْنَا » ){[35655]} ، تقديره : إلا من أنهم . فالضمير في «إنَّهُمْ » وما بعده عائد على معنى «مَنْ » المقدرة ، واكتفي بقوله : «مِنَ المُرْسَلِينَ » عنه كقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً ){[35656]} }{[35657]} [ مريم : 71 ] ، أي : إلاَّ من يردها{[35658]} .
فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف ، وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين إلاَّ في مواضع ، تقدَّم التنبيه عليها في البقرة{[35659]} .
الثالث : أن الجملة محلها النصب على الحال ، وإليه ذهاب ابن الأنباري{[35660]} قال : التقدير : إلاَّ وإنهم ، يعني أنها حالية{[35661]} ، فقدَّر معها الواو بياناً للحالية ، فكسر بعد استئناف . وردَّ بكون ما بعد «إلاَّ » صفة لما قبلها ، وقدره أبو البقاء أيضاً{[35662]} . والعامة على كسر «إنَّ » ، لوجود اللام في خبرها ، ولكون الجملة حالاً{[35663]} على الراجح . قال أبو البقاء : وقيل : لَوْ لَمْ تكن اللام لكسرت أيضاً لأن الجملة حالية{[35664]} ، إذ المعنى : إلاَّ وَهُمْ{[35665]} . وقيل : المعنى : إلا قيل إنهم{[35666]} .
وقرئ «أنَّهُمْ » بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية ، والتقدير : إلاَّ لأنَّهُمْ{[35667]} أي : ما جعلنا رسلاً إلى الناس إلا لكونهم مثلهم{[35668]} .
وقرأ العامة «يَمْشُونَ » خفيفة ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعبد الله «يُمَشُّونَ » مشدداً مبنيًّا للمفعول ، أي : تُمَشِّيهِمْ حَوَائِجُهُمْ أو الناس{[35669]} .
وقرأ عبد الرحمن : «يَمشُّونَ » بالتشديد مبنيًّا للفاعل ، وهي بمعنى «يَمْشُونَ »{[35670]} قال الشاعر :
وَمَشَّى بِأَعْطَانِ المِيَاهِ وابْتَغَى *** قَلاَئِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ{[35671]}
قال الزمخشري : ولو قرئ «يَمَشُّونَ » لكان أوجه لولا الرواية{[35672]} . يعني بالتشديد .
قال شهاب الدين : قد قرأ بها السُّلَمِيّ ولله الحمد{[35673]} .
روى الضحاك عن ابن عباس قال : لمَّا عيَّر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] أنزل الله هذه الآية{[35674]} . يعني : ما أنا إلا رسول ، وما كنت بدعاً من الرسل ، وهم كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، كما قال في موضع آخر : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] . { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } أي : بلية ، فالغني فتنة للفقير ، ( ويقول الفقير ){[35675]} : ما لي لم أكن مثله ؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع{[35676]} . قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم وتتبعون الهدى{[35677]} .
وقال الكلبي والزجاج{[35678]} والفراء{[35679]} : نزلت في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع{[35680]} قد أسلم قبله أَنِفَ أن يسلم ، وأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه ، ويدل عليه قوله تعالى : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ }{[35681]} [ الأحقاف : 11 ] وقيل : هذا عام في جميع الناس ، روى أبو الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «ويل للعالم من الجاهل ، وويل للسلطان من الرعية ، ( وويل للرعية من السلطان ){[35682]} ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ، وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة » وقرأ هذه الآية{[35683]} .
وروي عن ابن عباس والحسن هذا في أصحاب البلاء والعافية ( هذا يقول لِمَ لَمْ أجعل مثله ) {[35684]} في الخلق ، والخلق ، وفي العقل ، وفي العلم ، وفي الرزق ، وفي الأجل{[35685]} .
وقيل : هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته لهم في البشريّة وصفاتها ، فالمرسلون يتأذون من المرسل إليهم بأنواع الأذى على ما قال : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] ، والمرسل إليهم يتأذون أيضاً ( من الرسل ){[35686]} بحسب الحسد ، وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً{[35687]} .
والأولى حمل الآية على الكل ، لأن بين الجميع قدراً مشتركاً{[35688]} .
قال عليه السلام : «إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ والجَسدِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ دُونَهُ في المالِ والجَسَدِ »{[35689]} .
قوله : { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } . «أَتَصْبِرُونَ » المعادل محذوف ، أي : أم لا تصبرون وهذه الجملة استفهام ، والمراد منه : التقرير بأن{[35690]} موقعه بعد الفتنة موقع أيّكم بعد الابتلاء في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ{[35691]} أَحْسَنُ عَمَلاً }{[35692]} [ هود : 7 ] بمعنى : أنها معلِّقة لما فيها من معنى فعل القلب ، فتكون منصوبة المحل على إسقاط الخافض والمعنى : «أَتَصْبِرُونَ » على البلاء ، فقد علمتم ما وعد الصابرون{[35693]} ، { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي : عالم بمن يصبر ، وبمن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب{[35694]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.