اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين } الآية هذا جواب عن قولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] أي : هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن{[35645]} .

قوله : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } حق الكلام أن يقال : إلاَّ أنَّهُمْ . بفتح الألف ، لأنه متوسط ، والمكسورة لا تليق إلاَّ بالابتداء ، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها في محل نصب صفة لمفعول محذوف ، فقدره الزجاج{[35646]} والزمخشري{[35647]} : «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أحَداً مِن المُرْسَلِين إلا آكِلِين وَمَاشِينَ » . وإنما حذف ، لأن في قوله : «مِنَ المُرْسَلِينَ » دليلاً عليه{[35648]} ، نظيره قوله تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] بمعنى : مَا مِنَّا أحدٌ{[35649]} . وقدره ابن عطية : رجالاً أو رسلاً{[35650]} . والضمير في «إنَّهم »{[35651]} وما بعده عائد على{[35652]} هذا الموصوف{[35653]} المحذوف{[35654]} .

والثاني : قال الفراء : إنها لا محل لها من الإعراب ، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول ( ل «أَرْسَلْنَا » ){[35655]} ، تقديره : إلا من أنهم . فالضمير في «إنَّهُمْ » وما بعده عائد على معنى «مَنْ » المقدرة ، واكتفي بقوله : «مِنَ المُرْسَلِينَ » عنه كقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً ){[35656]} }{[35657]} [ مريم : 71 ] ، أي : إلاَّ من يردها{[35658]} .

فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف ، وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين إلاَّ في مواضع ، تقدَّم التنبيه عليها في البقرة{[35659]} .

الثالث : أن الجملة محلها النصب على الحال ، وإليه ذهاب ابن الأنباري{[35660]} قال : التقدير : إلاَّ وإنهم ، يعني أنها حالية{[35661]} ، فقدَّر معها الواو بياناً للحالية ، فكسر بعد استئناف . وردَّ بكون ما بعد «إلاَّ » صفة لما قبلها ، وقدره أبو البقاء أيضاً{[35662]} . والعامة على كسر «إنَّ » ، لوجود اللام في خبرها ، ولكون الجملة حالاً{[35663]} على الراجح . قال أبو البقاء : وقيل : لَوْ لَمْ تكن اللام لكسرت أيضاً لأن الجملة حالية{[35664]} ، إذ المعنى : إلاَّ وَهُمْ{[35665]} . وقيل : المعنى : إلا قيل إنهم{[35666]} .

وقرئ «أنَّهُمْ » بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية ، والتقدير : إلاَّ لأنَّهُمْ{[35667]} أي : ما جعلنا رسلاً إلى الناس إلا لكونهم مثلهم{[35668]} .

وقرأ العامة «يَمْشُونَ » خفيفة ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعبد الله «يُمَشُّونَ » مشدداً مبنيًّا للمفعول ، أي : تُمَشِّيهِمْ حَوَائِجُهُمْ أو الناس{[35669]} .

وقرأ عبد الرحمن : «يَمشُّونَ » بالتشديد مبنيًّا للفاعل ، وهي بمعنى «يَمْشُونَ »{[35670]} قال الشاعر :

وَمَشَّى بِأَعْطَانِ المِيَاهِ وابْتَغَى *** قَلاَئِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ{[35671]}

قال الزمخشري : ولو قرئ «يَمَشُّونَ » لكان أوجه لولا الرواية{[35672]} . يعني بالتشديد .

قال شهاب الدين : قد قرأ بها السُّلَمِيّ ولله الحمد{[35673]} .

فصل

روى الضحاك عن ابن عباس قال : لمَّا عيَّر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] أنزل الله هذه الآية{[35674]} . يعني : ما أنا إلا رسول ، وما كنت بدعاً من الرسل ، وهم كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، كما قال في موضع آخر : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] . { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } أي : بلية ، فالغني فتنة للفقير ، ( ويقول الفقير ){[35675]} : ما لي لم أكن مثله ؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع{[35676]} . قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم وتتبعون الهدى{[35677]} .

وقال الكلبي والزجاج{[35678]} والفراء{[35679]} : نزلت في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع{[35680]} قد أسلم قبله أَنِفَ أن يسلم ، وأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه ، ويدل عليه قوله تعالى : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ }{[35681]} [ الأحقاف : 11 ] وقيل : هذا عام في جميع الناس ، روى أبو الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «ويل للعالم من الجاهل ، وويل للسلطان من الرعية ، ( وويل للرعية من السلطان ){[35682]} ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ، وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة » وقرأ هذه الآية{[35683]} .

وروي عن ابن عباس والحسن هذا في أصحاب البلاء والعافية ( هذا يقول لِمَ لَمْ أجعل مثله ) {[35684]} في الخلق ، والخلق ، وفي العقل ، وفي العلم ، وفي الرزق ، وفي الأجل{[35685]} .

وقيل : هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته لهم في البشريّة وصفاتها ، فالمرسلون يتأذون من المرسل إليهم بأنواع الأذى على ما قال : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } [ آل عمران : 186 ] ، والمرسل إليهم يتأذون أيضاً ( من الرسل ){[35686]} بحسب الحسد ، وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً{[35687]} .

والأولى حمل الآية على الكل ، لأن بين الجميع قدراً مشتركاً{[35688]} .

قال عليه السلام : «إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ والجَسدِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ دُونَهُ في المالِ والجَسَدِ »{[35689]} .

قوله : { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } . «أَتَصْبِرُونَ » المعادل محذوف ، أي : أم لا تصبرون وهذه الجملة استفهام ، والمراد منه : التقرير بأن{[35690]} موقعه بعد الفتنة موقع أيّكم بعد الابتلاء في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ{[35691]} أَحْسَنُ عَمَلاً }{[35692]} [ هود : 7 ] بمعنى : أنها معلِّقة لما فيها من معنى فعل القلب ، فتكون منصوبة المحل على إسقاط الخافض والمعنى : «أَتَصْبِرُونَ » على البلاء ، فقد علمتم ما وعد الصابرون{[35693]} ، { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي : عالم بمن يصبر ، وبمن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب{[35694]} .


[35645]:انظر الفخر الرازي 24/65.
[35646]:معاني القرآن وإعرابه 4/62.
[35647]:الكشاف 3/93.
[35648]:أي: إنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور، هو "من المرسلين".
[35649]:انظر الكشاف 3/93.
[35650]:تفسير ابن عطية 11/21.
[35651]:في ب: إنه. وهو تحريف.
[35652]:في ب: في. وهو تحريف.
[35653]:في النسختين: الموصول.
[35654]:انظر تفسير ابن عطية 11/21، البحر المحيط 6/490.
[35655]:ما بين القوسين في ب: إلا رسلنا. وهو تحريف.
[35656]:مريم: 71.
[35657]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[35658]:انظر معاني القرآن 2/264.
[35659]:عند قوله تعالى: {وبث فيها من كل دابة} [164].
[35660]:المراد به أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد الأنباري النحوي اللغوي، له كتب كثيرة منها غريب الحديث، المذكر والمؤنث، والمقصور والممدود، وغير ذلك مات سنة 328 هـ، بغية الوعاة 1/112- 114.
[35661]:قال أبو حيان: (وهذا هو المختار) البحر المحيط 6/490، وانظر القرطبي 13/13.
[35662]:التبيان 2/983.
[35663]:في النسختين: حال. والصواب ما أثبته.
[35664]:حالية: سقط من ب.
[35665]:التبيان 2/983.
[35666]:انظر الفخر الرازي 24/65.
[35667]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35668]:انظر البحر المحيط 6/490.
[35669]:انظر المحتسب 2/120، تفسير ابن عطية 11/21 – 22، البحر المحيط 6/490.
[35670]:أي بمعنى قراءة العامة. انظر تفسير ابن عطية 11/22، البحر المحيط 6/490.
[35671]:البيت من بحر الطويل، لم أهتد إلى قائله، وهو في تفسير ابن عطية 11/22، القرطبي 13/14، البحر المحيط 6/490.
[35672]:الكشاف 3/93.
[35673]:الدر المصون 5/132.
[35674]:انظر البغوي 6/165.
[35675]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35676]:انظر البغوي 6/165.
[35677]:المرجع السابق.
[35678]:معاني القرآن وإعرابه 4/ 62.
[35679]:معاني القرآن 2/ 265.
[35680]:في ب: الوضع. وهو تحريف.
[35681]:[الأحقاف: 11]. وانظر الفخر الرازي 24/ 65.
[35682]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35683]:انظر الفخر الرازي 24/ 65 – 66.
[35684]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[35685]:انظر الفخر الرازي 24/66.
[35686]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35687]:انظر الفخر الرازي 24/ 66.
[35688]:المرجع السابق.
[35689]:أخرجه مسلم (زهد) 4/2275، الترمذي (لباس) 3/156. وأحمد 2/314، وانظر البغوي 6/166.
[35690]:في الأصل: فإن.
[35691]:في ب: أنكم. وهو تحريف.
[35692]:[هود: 7]، [الملك: 2]، وانظر الكشاف 3/93.
[35693]:في الأصل: الصابرين.
[35694]:انظر الفخر الرازي 24/66.