اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ} (8)

قوله : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِه } «مَنْ » موصول مبتدأ وما بعده صلته والخبر محذوف فقدره الكسائِيُّ «تذهب نفسك عليهم حَسَرَاتٍ » لدلالة : «فَلاَ تَذْهَب » عليه{[45048]} وقدره الزجاج : «وأَضَلَّهُ اللَّهُ كَمَنْ هَدَاهُ »{[45049]} وقدره غيرهما كمن لم يُزَيَّنْ له . وهو أحسن ، لموافقته لفظاً ومعنى{[45050]} ونظيره «أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ ( هُوَ أعْمَى ) »{[45051]} { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] والعامة على «زُيِّنَ » مبنياً للمفعول «سُوءُ » رفع {[45052]} وعُبَيْدُ بْنُ عَمَيْر{[45053]} زَيَّنَ مبنياً للفاعل وهو الله «سُوءَ » بالنصب به . وعنه «أَسْوأَ » بصيغة التفضيل منصوباً{[45054]} وطلحةُ{[45055]} «أَمَنْ » بغير فاء{[45056]} قال أبو الفضل : الهمزة للاستخبار بمعنى العامة للتقرير ويجوز أن تكون بمعنى حرف النداء فحذف التَّمَامُ كما حذف من المشهور{[45057]} الجواب ، يعني أنه يجوز في هذه القراءة أن تكون الهمزة للنداء وحذف التّمام أي ما{[45058]} نُودي لأجله كأنه قيل : يَا مَنْ زينَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ارْجِع إلى الله وتب إليه ، وقوله : «كما حذِف الجواب » يعني به خبرَ المبتدأ الذي تَقدَّم تقريره{[45059]} .

فصل

قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ومشركي مكة{[45060]} وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهْوَاء والبِدَع{[45061]} فقال{[45062]} قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم فأما أهل الكبائر فليسوا منهم لأنهم لا يستحلون الكبائر . ومعنى زين له سوء عمله شبه له وموه عليه وحسن له سوء عمله أي قبح{[45063]} عمله فرآه حسناً زين له الشيطان ذلك بالوسواس . وفي الآية حذف مجازه : أفمن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فرأى الباطل حَقًّا كَمَنْ هداه الله فرأى الحق حقاً والباطل باطلاً{[45064]} ؟ «فإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء » وذلك لأن أشخاص الناس متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان والسيئة والحسنة تمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها البعض دون البعض لا يكون ذلك بالاستقلال منهم فلا بدّ من الاستناد إلى إرادة الله تعالى{[45065]} .

ثم سلى- رسول الله صلى الله عليه وسلم - حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجةٍ قاهرة{[45066]} فقال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } كقوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } [ الكهف : 6 ] أي لا تغتمّ بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا .

قوله : { فَلاَ تَذْهَبْ } العامة على فتح التاء مسنداً «لِنَفْسِك » من باب «لاَ أَرَيَنَّكَ هَهُنَا »{[45067]} أي لا تتعاط أسباب ذلك . وقرأ أبو جعفر{[45068]} وقتادة والأشهب{[45069]} بضم التاء وكسر مسنداً لضمير المخاطب ( و ) نَفْسَك مفعول به{[45070]} .

قوله : { حَسَرَاتٍ } فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول من أجله أي لأَجْلِ الحَسَرَاتِ .

والثاني : أنه في موضع الحال على المبالغة{[45071]} كأن كلها صَا ( رَ ){[45072]} تْ حَسَرَاتٍ لفرط التحسر كما قال :

4152- مشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى . . . حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُوراً{[45073]}

يريد : رجعن كلاكلاً وصدرواً ، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها كقولهم ( شعر ){[45074]} :

4153- فَعَلَى إثْرِهم تَسَاقَطُ نَفْسِي . . . حَسَرَاتٍ وذَِكْرُهُم لِي سَقَامُ{[45075]}

وكون «كلاكل وصدور » حال قول{[45076]} سيبويه{[45077]} وجعلهما المُبَرِّدُ تَمْييزين منقولين من الفاعلية{[45078]} والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر . ثم قال : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون } أي الله عالم بفعلهم{[45079]} يجازيهم على ما يصنعونه ،


[45048]:ذكره القرطبي 14/324 والكشاف 3/301 والنحاس 3/326 وأبو حيان 7/300 والفراء في المعاني 2/366و367 .
[45049]:نقله عنه الكشاف السابق .
[45050]:قاله أبو حيان في البحر 7/300 .
[45051]:الآية 14 من محمد وهي:{أفن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله}.
[45052]:على انه نائب عن الفاعل .
[45053]:هو عبيد بن عمير بن قتادة أبو عاصم الليثي المكي القاص روى عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب وعنه مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار مات سنة 84هـ، انظر: غاية النهاية لابن الجزري 1/496 و 497 .
[45054]:ذكرها أبو حيان في البحر المحيط وكذلك السمين في الدر المصون 4/465 والبحر في 7/301 وهما قراءتان شاذتان.
[45055]:لعله طلحة بن مصرف الذي له اختيار في القراءة ينسب إليه وقد ترجم له آنفا.
[45056]:المرجعان السابقان.
[45057]:كذا نقل أبو حيان في البحر عن أبي الفضل الرازي صاحب كتاب اللوامح وما في ((ب)) من المبهم والجواب وهو تحريف. وانظر: البحر 7/301 .
[45058]:كذا هي هنا وفي الدر المصون نودي لأجله وفي ((ب)) والبحر المحيط أي ما يؤدي أجله وكلا المعنيين متقارب .
[45059]:المرجع السابق .
[45060]:زاد المسير 6/475 .
[45061]:السابق .
[45062]:في ((ب)) قال
[45063]:معالم التنزيل للبغوي 5/297 .
[45064]:السابق .
[45065]:نقله الإمام الفخر في تفسيره 26/6.
[45066]:في الرازي باهرة.
[45067]:أتى بهذا المثال استئناسا لإسناد الفعل ((ذهب)) إلى لفظ ((نفسك)) أي لا يكن منك ذلك ، وكذلك معنى المثال أي لا تكن بحيث أراك ها هنا . وهذا المثال حكاه سيبويه في الكتاب 3/101 في باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي . لأن فيها معنى الأمر والنهي.
[45068]:أحد العشرة القراء وقد ترجم له.
[45069]:تقدم.
[45070]:ذكرها ابن خالويه في المختصر 123 وأبو حيان 7/301 والفراء 2/367 قال: ((وكل صواب)) وانظر: الإتحاف 361.
[45071]:ذهب إلى هذين الوجهين ابن الأنباري في البيان 2/287 وأبو البقاء في التبيان 1073 والزمخشري في الكشاف 3/301 وأبو حيان في البحر 7/301.
[45072]:ما بين القوسين سقط من ((أ)).
[45073]:بيت من البحر الكامل التام لجرير. ومعنى مشق: برى والهواجر جمع ((الهاجرة)) وهي وقت انتصاف النهار في شدة الحر . والسرى: السير ليلا. والكلاكل: هي الصدور. والشاهد: مجيء كلاكل حال من النون في ((ذهبن)) مبالغة في أن هذه الخيل تصير عظاما من كثرة السير ليلا. وانظر: البحر المحيط 7/301 والكتاب 1/162 والكشاف 3/301 وشرح شواهده 418 والقرطبي 14/326 وديوان زهير 191 وديوانه 323و353 دار صادر.
[45074]:زيادة من ((ب)).
[45075]:من الخفيف وهو مما جهل قائله. و((تساقط)) أصلها تتساقط فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. والشاهد هنا معنوي أن نفسه هلكت حسرة على هؤلاء الأحبة. ومن الإمكان أن نعتبر الشاهد لفظي كسابقه حيث يجيء ((حسرات)) حال من ((نفسي)) مبالغة، وانظر: الكشاف 3/301 وشرح شواهده 18 والقرطبي 14/326 ، والبحر المحيط 7/301 ، والدر المصون 4/466 .
[45076]:في ((ب))، قال بالفعلية وليس المراد.
[45077]:قال: ((فإنما هو على قوله: ذهب قدما وذهب آخرا)) الكتاب 1/162 .
[45078]:قال: ((ولا أرى نصب هذا إلا على التبيين ؛ لأن التبيين إنما هو بالأسماء فهو الذي أراه)). المقتضب 3/272 وهو يعني بالتبيين التمييز ونقل التمييز أي ذهبت كلاكلها وصدورها.
[45079]:في ((ب)) بفعالهم .